الانتقال الى المحتويات

الانتقال إلى المحتويات

تعلمتُ ان أتّكل على اللّٰه

تعلمتُ ان أتّكل على اللّٰه

تعلمتُ ان أتّكل على اللّٰه

كما روته إيلا توم

عاشت عائلتنا في بلدة اوتِپا الصغيرة في جنوب أستونيا،‏ على بعد نحو ٦٠ كيلومترا من الحدود الروسية.‏ وفي تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ ١٩٤٤،‏ اي بعد تخرُّجي من المدرسة الثانوية ببضعة اشهر،‏ كانت الحرب العالمية الثانية على وشك ان تضع اوزارها.‏ في تلك الاثناء،‏ كان الجيش الروسي يجبر الالمان على التراجع عبر أستونيا،‏ مما اضطرّنا وجيراننا (‏نحو ٢٠ شخصا)‏ الى الاختباء في الغابات مع مواشينا.‏

بقينا عالقين طوال شهرين بين طرفَي القتال والقنابل تنهمر حولنا.‏ كنا في هذه الفترة نجلس معا فيما اقرأ انا،‏ وللمرة الاولى في حياتي،‏ مقاطع من الكتاب المقدس،‏ وخصوصا من سفر مراثي ارميا.‏ ذات يوم،‏ تسلّقت تلة عالية وركعت وصلّيت الى اللّٰه،‏ قائلة:‏ «عندما تنتهي الحرب،‏ اعدك ان اذهب الى الكنيسة كل يوم احد».‏

ولم يمضِ وقت طويل حتى انتقلتْ جبهة القتال غربا.‏ وأخيرا،‏ انتهت الحرب العالمية الثانية في اوروبا عندما استسلم الالمان في ايار (‏مايو)‏ ١٩٤٥.‏ وفي هذا الوقت،‏ وفيت بوعدي للّٰه ان اذهب الى الكنيسة كل اسبوع مع ان ذلك سبَّب لي الارباك اذ لم اجد هناك سوى قلة من النساء المسنات.‏ وكلما اتى احد الى بيتنا على غفلة،‏ كنت اخبِّئ الكتاب المقدس تحت الطاولة.‏

بعيد ذلك،‏ بدأت اعلّم في المدرسة المحلية.‏ وكان النظام الشيوعي في تلك الاثناء قد تولّى مقاليد الحكم وأصبح كثيرون ملحدين.‏ مع ذلك،‏ رفضت الانضمام الى الحزب الشيوعي.‏ وانشغلت بالتحضير للكثير من المناسبات الاجتماعية،‏ كتصميم الرقصات الشعبية للاولاد.‏

التعرُّف بالشهود

احتاج الاولاد الى ملابس مصمَّمة بشكل خاص من اجل المسرح،‏ لذلك قصدت في نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٤٥ خيّاطة ماهرة اسمها إميلي سانّاميس.‏ فسألتني:‏ «ما رأيك في الاوضاع العالمية؟‏».‏ لم اعرف آنذاك انها واحدة من شهود يهوه.‏ وبما ان مؤتمرا للسلام كان يُعقد في سان فرانسيسكو،‏ الولايات المتحدة الاميركية،‏ اجبتها:‏ «ستزول هذه الحكومة قريبا،‏ وأنا واثقة ان الهدف من هذا المؤتمر هو التأكد من ازالتها».‏

فقالت لي ان هذا المؤتمر لن يؤدي الى اية فوائد طويلة الامد،‏ وعرضت ان تظهر لي السبب من الكتاب المقدس.‏ لم اكن آنذاك مستعدة ان اصغي لهذه المرأة المتوسطة العمر واللطيفة،‏ ولكن قبل مغادرتي طرحتْ عليّ ما يلي:‏ «هل تعرفين اين قصد اللّٰه ان يعيش آدم وحواء؟‏».‏ لم اعرف الجواب،‏ فقالت بكل بساطة:‏ «اسألي اباك».‏

وهذا ما فعلته عندما ذهبت الى البيت.‏ لكنَّ ابي لم يعرف الجواب وقال انه لا داعي ان نشغل انفسنا بدرس الكتاب المقدس؛‏ كل ما علينا فعله هو الايمان.‏ وعندما عدت لأخذ الملابس،‏ اخبرت إميلي ان ابي لم يعرف الجواب عن سؤالها.‏ فقامت هي وأختها بقراءة آيات من الكتاب المقدس تظهر ان اللّٰه طلب من آدم وحواء ان يعتنيا بموطنهما الفردوسي،‏ وأنه أراد ان يعيشا هناك بسعادة الى الابد.‏ كما اظهرتا لي ان اللّٰه قصد من البداية ان ينجب آدم وحواء اولادا ويوسّعا نطاق الفردوس ليشمل الارض كلها.‏ فأثارت هذه البراهين التي رأيتها في الاسفار المقدسة فضولي.‏ —‏ تكوين ١:‏٢٨؛‏ ٢:‏٨،‏ ٩،‏ ١٥؛‏ مزمور ٣٧:‏٢٩؛‏ اشعيا ٤٥:‏١٨؛‏ رؤيا ٢١:‏٣،‏ ٤‏.‏

حضور اجتماع مسيحي للمرة الاولى

في ذلك الصيف،‏ دُعيت الى حضور مقرَّر للمعلّمين في تارتيو مدته ثلاثة اشهر.‏ فأعطتني إميلي عنوان احدى الشاهدات في تلك المدينة،‏ فضلا عن كتاب الخلق،‏ الذي اثّر فيّ كثيرا بعرضه الواضح لحقائق الكتاب المقدس الاساسية.‏ وفي ٤ آب (‏اغسطس)‏ ١٩٤٥ قصدت عنوان تلك الشاهدة.‏

عندما وصلت لم اجد احدا،‏ فطرقت الباب بقوة بحيث ان احد الجيران فتح بابه وأعطاني عنوانا آخر:‏ ٥٦ شارع سالْمي.‏ وحين بلغت وجهتي،‏ سألت امرأة كانت تقشّر البطاطا في احد المشاغل:‏ «هل يُعقد اجتماع ديني هنا؟‏».‏ فطلبت مني الانصراف بلهجة غاضبة وقالت انه غير مرحَّب بي هنا.‏ لكنني اصررت على البقاء،‏ فما كان منها إلا ان دعتني الى طابق علوي حيث انضممت الى فريق لدرس الكتاب المقدس.‏ ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت فترة استراحة الغداء،‏ فهممت بالمغادرة.‏ لكنَّ الموجودين اصرّوا على بقائي.‏

وفيما كنت اجول النظر حولي خلال الاستراحة،‏ رأيت قرب النافذة شابين شاحبين ونحيلين جدا.‏ علمت لاحقا انهما خلال الحرب أمضيا اكثر من سنة يختبئان في عدة امكنة سرّية كيلا يجري اعتقالهما.‏ * وبعد الظهر،‏ ألقى فريدريخ آلتپير خطابا استعمل فيه كلمة «هرمجدون».‏ وكانت هذه المرة الاولى التي اسمع فيها هذه الكلمة فسألته عنها لاحقا وأراني اياها في الكتاب المقدس.‏ (‏رؤيا ١٦:‏١٦‏)‏ لكنه عندما رأى مدى استغرابي،‏ تفاجأ هو ايضا لدى معرفته بأنني لم اسمع بها من قبل.‏

فأدركت آنذاك ان هذا الاجتماع هو فقط للشهود المعروفين والموثوق بهم.‏ وعلمت لاحقا انه الاجتماع الاول الذي يعقدونه بعد الحرب!‏ مذّاك بدأت ارى اهمية الاتّكال على اللّٰه.‏ (‏امثال ٣:‏٥،‏ ٦‏)‏ وبعد سنة،‏ في آب (‏اغسطس)‏ ١٩٤٦،‏ رمزت الى انتذاري للإله الحقيقي يهوه بالمعمودية وأنا في العشرين من عمري.‏

مواجهة المقاومة العائلية

فرضت الحكومة تعليم مذهب الالحاد في المدرسة،‏ الامر الذي امتحن ضميري المدرَّب على الكتاب المقدس.‏ ففكرت في تغيير مهنتي وأخبرت امي بذلك.‏ غير انها سخطت علي ومن شدة غضبها هاجمتني ونزعت خصلا من شعري.‏ لذلك قررت ان اترك البيت.‏ لكنَّ ابي شجّعني على التحلِّي بالصبر واعدا اياي بأنه سيساعدني.‏

انضم اخي أنتس الى امي في مقاومتي.‏ إلا انه طلب مني ذات يوم بعض المطبوعات التي قرأها وأحبّها كثيرا.‏ اما والدتي فجُنّ جنونها.‏ كما بدأ أنتس يتحدث عن اللّٰه في المدرسة،‏ لكنه توقف عن معاشرة الشهود بعدما واجه الاضطهاد.‏ بعيد ذلك،‏ تعرّض اثناء الغطس لإصابة في رأسه تركته مشلولا اسير حمّالة،‏ اما عقله فبقي سليما.‏ فسألني عندئذ:‏ «هل يسامحني يهوه؟‏».‏ فكان جوابي ايجابيا.‏ ولكن من المؤسف انه مات بعد ايام قليلة وهو في الـ‍ ١٧ من عمره.‏

في ايلول (‏سبتمبر)‏ ١٩٤٧،‏ تركت عملي في المدرسة.‏ وقد بقيت امي عدائية جدا تجاهي حتى انها ذات يوم رمت كل ثيابي خارجا،‏ مما دفعني الى مغادرة البيت.‏ لكنّ إميلي سانّاميس وأختها استضافتاني عندهما.‏ وكانتا تشجعانني دائما بالقول ان يهوه لا يتخلى ابدا عن خدامه.‏

الامتحانات في أستونيا بعد الحرب

دعتني الاختان سانّاميس الى العمل معهما في خياطة الثياب للعائلات في المزارع.‏ وغالبا ما كنا نتمكن من نقل حقائق الكتاب المقدس اليهم.‏ كانت تلك الايام جميلة لأني اكتسبت خبرة في الخدمة المسيحية فضلا عن تعلّم الخياطة.‏ كما اني حصلت على عمل كمدرِّسة رياضيات خصوصية.‏ لكن في سنة ١٩٤٨،‏ بدأت السلطات تعتقل الشهود.‏

وفي تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ من السنة التالية،‏ صادف اني كنت اعمل في احدى المزارع حين أُعلمت ان السلطات ذهبت الى بيت الاختين سانّاميس لاعتقالي.‏ وعندما قصدت مزرعة الاخ هوڠو سوسي للاختباء فيها،‏ علمت انه قد اعتُقل للتوّ.‏ فدعتني احدى النساء التي كنت اخيط لها الملابس الى المكوث ببيتها.‏ وبعد ذلك صرت انتقل من مزرعة الى اخرى،‏ اخيط الثياب وأواصل نشاط الكرازة.‏

عندما حل فصل الشتاء،‏ وجدتني لجنة امن الدولة السوفياتية (‏KGB)‏ في تارتيو بمنزل ليندا ميتّيڠ،‏ شاهدة شابة غيورة تكبرني ببضع سنوات.‏ فاعتُقلت وخضعت للاستجواب.‏ وهناك أُجبرت على نزع كل ملابسي،‏ وراح الشرطيون الشبان يحدِّقون إليّ،‏ ما جعلني اشعر بالذلّ والمهانة.‏ لكن بعدما صلّيت الى يهوه،‏ غمرت السكينة قلبي.‏

بعد ذلك وُضعت في زنزانة ضيّقة جدا لم استطع حتى التمدد فيها.‏ ولم يكن يُسمح لي بالخروج إلا عند الاستجواب.‏ فكان الشرطيون يقولون:‏ «نحن لسنا نطلب منك ان تنكري وجود اللّٰه،‏ فقط توقفي عن كرازتك السخيفة هذه،‏ فيكون مستقبلك واعدا».‏ وكانوا يهددونني قائلين:‏ «هل تريدين العيش ام الموت مع إلهك في حقول سيبيريا؟‏».‏

استمر استجوابي على نحو متكرر طيلة ثلاثة ايام مُنعت خلالها من النوم.‏ لكن التأمل في مبادئ الكتاب المقدس ساعدني على الاحتمال.‏ اخيرا،‏ دعاني احد المستجوبين وطلب مني توقيع وثيقة أقرّ فيها انني سأتوقف عن الكرازة.‏ فقلت له:‏ «لقد فكرت مليا بالموضوع وأفضّل البقاء في السجن وعلاقتي باللّٰه سليمة على نيل حريّتي وخسارة رضاه».‏ فصرخ المستجوب عندئذ قائلا:‏ «ايتها الغبية!‏ جميعكم ستُعتقلون وتُرسلون الى سيبيريا».‏

اطلاق سراحي فجأة

من المدهش انه قبيل منتصف الليل طلب مني المستجوبون ان آخذ اغراضي وأرحل.‏ كنت اعلم ان الشرطة ستتعقّبني،‏ لذلك لم اقصد بيوت رفقائي المسيحيين كي لا يُكشف امرهم.‏ وفيما كنت اسير في الشوارع،‏ لاحقني ثلاثة رجال.‏ فصلّيت الى يهوه طلبا للارشاد ودخلت شارعا مظلما ثم ركضت مسرعة نحو احدى الحدائق.‏ وهناك تمددت على الارض وغطيت نفسي ببعض اوراق النبات.‏ كنت اسمع خُطى الرجال الذين يلاحقونني،‏ وأرى ضوء مصابيحهم.‏

مرّت عدة ساعات وأنا على هذه الحال حتى خدرت عظامي من البرد.‏ ثم قمت وسرت في الشوارع المرصوفة بالحجارة حاملة حذائي كي لا احدث ضجة.‏ وبعدما غادرت المدينة،‏ مشيت في خندق على طول الطريق العام.‏ وكنت اتمدد ارضا كلما اقتربت السيارات مني.‏ اخيرا عند الخامسة صباحا،‏ بلغت بيت ميتا ويوري توميل الذي لا يبعد كثيرا عن تارتيو.‏

فجهّزت ميتا السونا من اجلي على الفور كي استدفئ.‏ وفي اليوم التالي،‏ ذهبتْ الى تارتيو واتصلتْ بليندا ميتّيڠ.‏ فحثّتني ليندا قائلة:‏ «لنبدإ الآن بالكرازة ونعلن البشارة في كل أستونيا».‏ وهذا ما حصل بعد ان غيّرت تسريحة شعري ووضعت نظارات والقليل من مستحضرات التجميل.‏ وطوال الاشهر التالية،‏ قطعنا على الدراجة مسافات طويلة.‏ وأينما ذهبنا كنا نشجِّع الرفقاء المؤمنين الذين يعيشون في المزارع.‏

نظّم الشهود لعقد محفل في ٢٤ تموز (‏يوليو)‏ ١٩٥٠ في مخزن كبير للتبن يملكه تلميذ للكتاب المقدس قرب اوتِپا.‏ وعندما علمنا ان الـ‍ KGB اكتشفوا خططنا،‏ تمكَّنا من تحذير غالبية الشهود الذين كانوا في طريقهم الى موقع المحفل.‏ ورتَّبنا لعقد المحفل في موقع آخر في اليوم التالي.‏ وقد بلغ عدد الحضور نحو ١١٥ شخصا ذهبوا كلهم فرحين ومصممين اكثر من قبل ان يحافظوا على ولائهم في وجه المحن.‏ *

بعد ذلك،‏ واصلتُ انا وليندا عمل الكرازة وتشجيع الرفقاء المسيحيين.‏ وفي وقت لاحق من تلك السنة،‏ اشتركنا في جني البطاطا ونقلنا رسالة الملكوت الى زملائنا في العمل.‏ حتى ان صاحب احدى المزارع توقف عن عمله وأصغى الينا طوال ساعة،‏ ثم علّق قائلا:‏ «نحن لا نسمع اخبارا جميلة كهذه كل يوم!‏».‏

عدنا انا وليندا الى تارتيو،‏ حيث علمنا ان المزيد من الشهود جرى اعتقالهم،‏ بمن فيهم والدة ليندا.‏ فقد اصبح الآن غالبية اصدقائنا موقوفين،‏ بمن فيهم الاختان سانّاميس.‏ وبما اننا علمنا ان الـ‍ KGB يبحثون عنا،‏ حصلنا على دراجتين وواصلنا عمل البشارة خارج تارتيو.‏ وفي احدى الامسيات عثر عليّ الـ‍ KGB في منزل ألما ڤاردجا،‏ شاهدة اعتمدت حديثا.‏ وبعد التحقق من جواز سفري،‏ هتف احدهم:‏ «إيلا!‏ كنا نبحث عنك في كل مكان!‏».‏ كان هذا في ٢٧ كانون الاول (‏ديسمبر)‏ ١٩٥٠.‏

سجني ثم ترحيلي الى سيبيريا

وضبت انا وألما بعض الاغراض بكل هدوء ثم جلسنا لتناول الطعام.‏ فنظر الينا عملاء الـ‍ KGB مندهشين وقالوا:‏ «انتما لا تبكيان حتى!‏ فقط تجلسان لتناول الطعام».‏ فأجبناهم:‏ «نحن ذاهبتان الى تعييننا الجديد،‏ ولا نعرف متى سنتناول وجبتنا التالية».‏ ثم أخذت معي حراما صوفيًّا صنعت منه في ما بعد جوارب وقفّازات تدفئني.‏ وبعد قضاء عدة اشهر في السجن،‏ كنت بين عدد من الشهود الذين نُفوا من استونيا في آب (‏اغسطس)‏ ١٩٥١.‏ *

من أستونيا أُرسلنا بالقطار الى لينينغراد (‏الآن سانت بيترسبرغ)‏،‏ روسيا،‏ ومن هناك الى معسكرات العمل الالزامي الرديئة السمعة في ڤوركوتا،‏ بجمهورية كومي،‏ التي تقع فوق الدائرة القطبية الشمالية.‏ ولم يكن بين السجناء سوى ثلاث شاهدات.‏ وبما اني سبق ان تعلمت الروسية في المدرسة،‏ صرت اتمرَّن على هذه اللغة منذ اعتقالي.‏ لذلك بحلول الوقت الذي وصلنا فيه الى المعسكرات كنت اتكلم الروسية بطلاقة.‏

التقينا في ڤوركوتا شابة اوكرانية اصبحت شاهدة خلال وجودها في معسكر اعتقال نازي في بولندا.‏ وفي سنة ١٩٤٥،‏ كانت قد أُرسلت مع ١٤ شاهدا آخر على متن سفينة صمَّم الالمان على اغراقها في بحر البلطيق.‏ إلا ان السفينة وصلت بأمان الى الدانمارك.‏ لاحقا،‏ وبعد عودة هذه الاخت الى روسيا،‏ اعتُقلت بسبب الكرازة وأُرسلت الى ڤوركوتا حيث كانت مصدر تشجيع كبير لنا.‏

وصادفنا ايضا امرأتين سألتا بالاوكرانية:‏ «مَن هنا من شهود يهوه؟‏».‏ فأدركنا في الحال انهما اختان مسيحيتان!‏ فشجعتانا واعتنتا بنا.‏ فبدا الامر في نظر السجناء الآخرين كما لو ان لدينا عائلة بانتظارنا.‏

نقلي الى معسكرات موردوڤيا

في كانون الاول (‏ديسمبر)‏ ١٩٥١،‏ اظهرت الفحوصات التي خضعت لها انني اعاني خللا في الغدة الدرقية.‏ لذلك نُقلت مسافة ٥٠٠‏,١ كيلومتر تقريبا باتجاه الجنوب الغربي الى مجمّع السجون الضخم في موردوڤيا الذي يقع على بعد نحو ٤٠٠ كيلومتر من جنوب شرق موسكو.‏ وخلال السنوات اللاحقة هناك،‏ التقيت في معسكرات النساء شاهدات من ألمانيا،‏ أوكرانيا،‏ بولندا،‏ وهنغاريا.‏ كما تعرّفت بسجينة سياسية من أستونيا تدعى مايمو.‏

وَلدتْ مايمو اثناء وجودها في السجن بأستونيا طفلة قام حارس لطيف بإعطائها لوالدتها.‏ ثم في سجن موردوڤيا قبلت مايمو الحق بعدما درسنا معها الكتاب المقدس.‏ وبما انه كان يُسمح لها بمراسلة والدتها،‏ نقلت هذه الحقائق اليها.‏ فأحبّت والدتها ما تعلّمته وغرسته في طفلة مايمو،‏ كارين.‏ ولم تجتمع مايمو بابنتها إلا عند اطلاق سراحها بعد ست سنوات.‏ وعندما كبرت كارين،‏ تزوجت احد الشهود.‏ وطوال الـ‍ ١١ سنة الماضية خدمت هي وزوجها في مكتب فرع شهود يهوه في تالين،‏ أستونيا.‏

دُعي احد المعسكرات في مجمّع السجون الضخم بموردوڤيا «القفص».‏ وكان ذلك عبارة عن ثكنة صغيرة ذات حراسة مشددة داخل المعسكر المسوّر.‏ وقد سُجنتُ هناك مع ست شاهدات اخريات بسبب نشاطنا المسيحي.‏ ولكن حتى خلال وجودنا فيه،‏ تمكَّنا من صنع نسخ مصغّرة مكتوبة باليد لمقالات برج المراقبة وتهريبها الى آخرين في المعسكرات المجاورة.‏ وإحدى الوسائل التي استخدمناها كانت احداث تجويف في لوح من الصابون،‏ وضع المقالة داخله،‏ ثم سدّ اللوح ثانية.‏

خلال وجودي في سجن موردوڤيا،‏ تمكنت من مساعدة اكثر من عشر نساء على اخذ موقفهن الى جانب اللّٰه.‏ وأخيرا في ٤ ايار (‏مايو)‏ ١٩٥٦،‏ قيل لي:‏ «انت حرة،‏ يمكنك الذهاب وعبادة الهك يهوه».‏ فعدت الى أستونيا في الشهر عينه.‏

العودة الى موطني منذ نحو ٥٠ سنة

عدت الى أستونيا صفر اليدين:‏ لا عمل ولا مال ولا بيت.‏ ولكن في غضون ايام قليلة من وصولي،‏ التقيت امرأة اظهرت اهتماما بتعاليم الكتاب المقدس.‏ وقد سمحت لي بالبقاء فترة من الوقت معها ومع زوجها في بيتهما المؤلف من غرفة واحدة.‏ فاشتريت صوفا بمال تديّنته وصرت احيك الكنزات وأبيعها في السوق.‏ ثم عُرض عليّ عمل في مستشفى تارتيو للامراض السرطانية،‏ حيث قمت بأعمال متنوعة طوال السنوات السبع التالية.‏ وفي هذه الاثناء،‏ كان لمبت توم قد عاد ايضا من المنفى في سيبيريا،‏ فتزوجنا في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏ ١٩٥٧.‏

ولأن عمل الكرازة كان لا يزال محظورا،‏ استمر الـ‍ KGB يراقبوننا ويضايقوننا.‏ مع ذلك،‏ فعلنا كل ما في وسعنا لإعلان ايماننا.‏ وصف لمبت هذه المرحلة من حياتنا في استيقظ!‏،‏ عدد ٢٢ شباط (‏فبراير)‏ ١٩٩٩.‏ ومن اواخر الخمسينات حتى ستينات وسبعينات الـ‍ ١٩٠٠،‏ كان الشهود الباقون يعودون تدريجيا من المنفى.‏ وفي اواخر الثمانينات،‏ اصبح هنالك اكثر من ٧٠٠ شاهد في أستونيا.‏ وسنة ١٩٩١،‏ صار نشاطنا المسيحي شرعيا وبدأنا نشهد الزيادات بحيث بلغ عدد الشهود في أستونيا اكثر من ١٠٠‏,٤!‏

لقد مضى اكثر من ٦٠ سنة على حضوري اول اجتماع للشهود يُعقد سرًّا في أستونيا بعد الحرب العالمية الثانية.‏ ومذّاك صممت ان أطبِّق حض الكتاب المقدس:‏ «اتَّكل على يهوه وافعل الخير».‏ وقد تعلمت ان ذلك يؤدي الى نيل ‹ملتمس قلبنا›.‏ —‏ مزمور ٣٧:‏٣،‏ ٤‏.‏

‏[الحواشي]‏

^ ‎الفقرة 14‏ احد هذين الشابين هو لمبت توم،‏ الذي ترد قصته في عدد ٢٢ شباط (‏فبراير)‏ ١٩٩٩ من استيقظ!‏‏.‏

^ ‎الفقرة 30‏ انظر استيقظ!‏،‏ عدد ٢٢ شباط (‏فبراير)‏ ١٩٩٩،‏ الصفحتين ١٢-‏١٣ من اجل وصف مفصّل عن المحفل.‏

^ ‎الفقرة 34‏ نُفيَ معظم الشهود في أستونيا في نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٥١.‏ انظر عدد ٢٢ نيسان (‏ابريل)‏ ٢٠٠١ من استيقظ!‏‏،‏ الصفحات ٦-‏٨‏،‏ وكاسيت الفيديو امناء رغم المحن —‏ شهود يهوه في الاتحاد السوفياتي ‏(‏بالانكليزية)‏.‏

‏[النبذة في الصفحة ٢٣]‏

‏«لنبدإ الآن بالكرازة ونعلن البشارة في كل أستونيا».‏ —‏ ليندا ميتّيڠ

‏[الصورة في الصفحة ٢٤]‏

مع تسع شاهدات أخريات داخل سجن موردوڤيا

‏[الصورة في الصفحة ٢٤]‏

اليوم،‏ مع زوجي لمبت