الانتقال الى المحتويات

الانتقال إلى المحتويات

موزَمبيق

موزَمبيق

موزَمبيق

‏«فليكن معلوما لديكَ يا شيلوليه:‏ هذه موزَمبيق،‏ ولن تصيروا ابدا شرعيين في هذا البلد.‏ .‏ .‏ .‏ انسوا الامر!‏» عندما قال ذلك شرطة الدولة للتحقيق والدفاع (‏PIDE)‏ التي لم تعُد موجودة الآن لأحد شهود يهوه،‏ كان الحكم الاستعماري الپرتغالي لموزَمبيق في اوجِه.‏ وكانت الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تسود دون منازع.‏

لكنَّ شهود يهوه لم يتوقفوا عن المجاهرة بإيمانهم بيهوه،‏ ولم يتوقفوا عن اخبار الآخرين بقصده الحبي.‏ وتاريخهم في موزَمبيق يقدِّم ابلغ برهان على نوعية تعبُّدهم ليهوه.‏ فقد قوَّتهم ثقتهم بمحبة اللّٰه وابنه،‏ المحبة التي وصفها الرسول بولس عندما كتب:‏ «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح.‏ أشدة ام ضيق ام اضطهاد ام جوع ام عري ام خطر ام سيف.‏ كما هو مكتوب اننا من اجلكَ نُمات كل النهار.‏ قد حُسبنا مثل غنم للذبح .‏ .‏ .‏ اني متيقن انه لا موت ولا حياة .‏ .‏ .‏ ولا رؤساء .‏ .‏ .‏ ولا امور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة اخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة اللّٰه التي في المسيح يسوع ربنا.‏» —‏ رومية ٨:‏٣٥-‏٣٩‏.‏

ان تاريخ خدام يهوه في موزَمبيق هو سجل شعب كان غنيا بإيمانه الراسخ حتى عندما جُرِّد من كل ممتلكاته المادية.‏ فقد رأوا الدليل على محبة اللّٰه لهم،‏ وكانت لديهم محبة شديدة بعضهم لبعض.‏ ولكن قبل ان نتأمل في هذا التاريخ،‏ دعونا نلقي نظرة على هذا البلد.‏

جماله وميزاته

تمتد موزَمبيق،‏ التي يُقدَّر عدد سكانها بـ‍ ٠٠٠‏,٤٠٠‏,١٧،‏ على طول نحو ٥٥٠‏,١ ميلا (‏٥٠٠‏,٢ كلم)‏ على ساحل جنوب شرقي افريقيا.‏ المناخ مداري من حيث الاساس،‏ وهي تنتج ما تنتجه المناطق المدارية —‏ جوز الهند،‏ الاناناس،‏ الأكاجو،‏ المنيهوت،‏ وقصب السكر.‏ والطعام البحري هو ايضا جزء بارز من الغذاء.‏

سكان موزَمبيق هم في معظمهم شعب سعيد،‏ ودّي،‏ ويحب الحياة.‏ وقد برز بينهم رياضيون اشتهروا عالميا.‏ وهؤلاء الرياضيون قليلون طبعا.‏ ولكن هنالك اكثر من ٠٠٠‏,١٩ آخرين يربحون سباقا يشمل قيما مختلفة.‏ هؤلاء هم شهود يهوه،‏ الذين يعود تاريخهم في موزَمبيق الى سنة ١٩٢٥.‏

بزور الحق تتأصل

في تلك السنة،‏ سمع بشارة ملكوت اللّٰه ألبينو ميليمبي،‏ موزَمبيقي يعمل في مناجم جوهانسبورڠ،‏ جنوب افريقيا.‏ فتأصلت بزور حق الملكوت في قلبه،‏ وسرعان ما اعتمد.‏ وعندما عاد الى موطنه،‏ ابتدأ يكرز لأعضاء كنيسته السابقة،‏ الارسالية السويسرية،‏ في ڤيلا لويزا (‏الآن مارّاكوينيه)‏،‏ مقاطعة في اقصى جنوب موزَمبيق.‏ وكان الافريقيون المهتمون حديثا غيورين جدا وغالبا ما كانوا يسافرون ٢٠ ميلا (‏٣٠ كلم)‏ للوصول الى الاجتماعات.‏ وجرى تشكيل فرق جديدة،‏ بما فيها فريق في لورَنسو ماركيس،‏ الآن ماپوتو.‏

وفي الوقت نفسه تقريبا كان عمل الكرازة برسالة الكتاب المقدس يبدأ في الشمال.‏ كان ڠرِشِم كوازيزيرا،‏ افريقي في نياسَلَند (‏الآن ملاوي)‏،‏ قد درس كتاب قيثارة اللّٰه بمساعدة جون وإستِر هادسون،‏ من جنوب افريقيا.‏ وفي سنة ١٩٢٧ انتقل ڠرِشِم برفقة بيلياتي كاپاسيكا الى موزَمبيق بحثًا عن عمل.‏ فدخلا البلد عن طريق منطقة ميلاندْجي ثم تابعا جنوبا الى اينيامينڠا،‏ سوفالا.‏ وهناك وجدا كلاهما عملا في السكة الحديدية ترانس-‏زامبيزيا.‏

ووجدا ايضا في اينيامينڠا جماعة تنتمي الى حركة تدعو نفسها برج المراقبة وقسيسها،‏ روبنسون كاليتِرا.‏ وعندما سمع كاليتِرا بالتعاليم المؤسسة على الكتاب المقدس في قيثارة اللّٰه،‏ استنارت عيناه.‏ وإذ علم انه كان على خطإ،‏ ابتدأ مع جماعته بكاملها بمعاشرة هيئة يهوه.‏

الحقل الاوروپي ينال الانتباه

سنة ١٩٢٩ وصل اول شاهدين اوروپيين،‏ هنري وإيدِث ميردِل،‏ الى لورَنسو ماركيس من جنوب افريقيا وابتدأا يشهدان للسكان الپرتغاليين.‏ وبعد اربع سنوات انضم اليهما زوجان من عائلة دي ياڠِرس.‏ فنُثرت بزور كثيرة لحق الكتاب المقدس نتيجة لانتقالهما.‏

بعدئذ،‏ في سنة ١٩٣٥،‏ قام فاتحان آخران،‏ فرِد لُديك ودايڤيد نورمان،‏ بزيارة لورَنسو ماركيس.‏ وأقاما مع عائلة ميردِل.‏ ولكن في اليوم الخامس من خدمتهما اعتقلهما فجأة البوليس السري في بيت ميردِل،‏ اركبوهما في بلاك ماريا (‏شاحنة كانت تُستخدم لنقل المجرمين)‏،‏ وأخذوهما الى رسمي عالي الرتبة،‏ السيد تايشايرا.‏ وعندما اعلن دايڤيد بجرأة انه يعرف ان الاسقف هو وراء المؤامرة بكاملها،‏ قفز السيد تايشايرا وصرخ:‏ «لو كنتما من رعاياي لنفيتكما فورا الى جزيرة ماديرا،‏ ولكن لأنكما من جنوب افريقيا سأرحِّلكما في الحال!‏» وفي ذلك اليوم عينه رافقتهما الى الحدود عربتان من رجال الشرطة المسلَّحين بأسلحة ثقيلة.‏ ولكن عندما وصلوا الى الحدود،‏ شهد الاخَوان لحرَّاسهما من الشرطة،‏ قدَّما لهم المطبوعات،‏ وصافحا كلًّا منهم قبل متابعة رحلتهما.‏

مواجهة امتحانات عسيرة

تعلَّم جانِرو جون ديديه،‏ مزارع افريقي متواضع،‏ الحق سنة ١٩٣٩ في اينيامينڠا.‏ وعند عودته الى موطنه موتارارا،‏ اشترك في الحق مع اقربائه،‏ الذين كانوا اعضاء في فريق ديني يمارس تعدُّد الزوجات.‏ وصار فاتحا خصوصيا،‏ وخدم اثنان من اخوته الجسديين،‏ انطونيو وجْواو،‏ كفاتحَين قانونيَّين.‏ ولكن،‏ في سنة ١٩٤٦،‏ اعتُقل جانِرو وأُرسل الى تيتي،‏ حيث أجبر على تنظيف المراحيض للسكان الاوروپيين طوال اربع سنوات.‏ ثم نُقل الى السجن المركزي في بيرا،‏ ومن هناك نُقل الى لورَنسو ماركيس بطريقة غريبة ووحشية على السواء.‏ فقد أُرسل بالقارب في صندوق ملآن بالماء المالح،‏ وكان رأسه فقط مكشوفا.‏ وعندما وصل الى لورَنسو ماركيس،‏ خرج عريانا؛‏ فثيابه كانت قد تحلَّلت.‏ فأعطي كيسا ليتغطى.‏ وعند محاكمته أُمر ان يهجر دينه وإلهه،‏ ولكنه اجاب كما اجاب رسل يسوع المسيح:‏ «ما يهمّ هو اطاعة اللّٰه اكثر من الناس.‏» —‏ اعمال ٥:‏٢٩‏.‏

بعد المحاكمة وُضع جانِرو في زنزانة منعزلة داخل صندوق خشبي صغير فيه مجرد فتحة صغيرة كانت تُدخَل من خلالها يوميا قطع من الفاكهة.‏ وعندما أُخرج بعد اسبوع،‏ لم يقوَ فعليا على الوقوف.‏ ومع اخَويه الجسديَّين،‏ انطونيو وجْواو،‏ جرى ترحيله الى سان توميه وپرنسيپي لقضاء مدة عقوبة تبلغ سبع سنوات.‏ وفي غضون هذا الوقت ساعد هؤلاء الاخوة من عائلة ديديه على تشكيل جماعة في هاتين الجزيرتين لحجز المجرمين.‏ وعندما علم پورتوڠال ديديه الذي كان في جنوب افريقيا بترحيل اخوته،‏ عاد الى موتارارا للاهتمام بالجماعة حتى اطلاق سراحهم من مستعمرة حجز المجرمين.‏

وماذا عن اولئك الشهود في الجنوب؟‏ تحت الاضطهاد القاسي برهنوا هم ايضا انهم شهود اولياء.‏ وبينهم كان ألبينو ميليمبي،‏ الذي كان آنذاك متقدما في السن.‏ وفي سنة ١٩٥٧ جرى ترحيله ايضا مع آخرين من لورَنسو ماركيس الى سان توميه،‏ لكنهم استمروا في الشهادة.‏ ورغم ان سيونال تومو أُطلق سراحه من سان توميه بعد سنتين،‏ فقد أُعيد نفيه،‏ وهذه المرة الى مِكونتا،‏ في مقاطعة نامپولا.‏ ومات هناك،‏ ولكنه ترك وراءه جماعة تشهد على خدمته.‏

‏«سأكون راعيا لرعية اللّٰه»‏

هكذا اجاب كالڤينو ماشِيانا عندما سأل استاذه الصف ماذا يريدون ان يكونوا عندما يكبرون.‏ وفي ما بعد شهد له في جوهانسبورڠ زميل سابق في المدرسة.‏ ولكنه لم يقطع اخيرا صلته بالكنيسة الارسالية السويسرية حتى عودته الى لورَنسو ماركيس سنة ١٩٥٠.‏ وعندما اقدمَت شرطة الاستعمار،‏ الـ‍ PIDE،‏ على اعتقال وترحيل الاكثر خبرة في الفريق،‏ صار الباقون يفتقرون الى الاشراف.‏

وبفضل العناية الالهية،‏ اتت نيلّي مُهلونڠو،‏ من جنوب افريقيا،‏ لزيارة اقرباء لها في الجوار حيث يقيم ماشِيانا.‏ فعلم ماشِيانا انها من شهود يهوه وأخبرها عن المهتمين في المنطقة.‏ فجمعتهم معا وابتدأت فريقا لدرس الكتاب المقدس.‏ اشترك ستة اشخاص في فريق الدرس هذا.‏ وطلبت الاخت مُهلونڠو من ماشِيانا ان يدير الفريق،‏ ولكنه رفض قائلا:‏ «انا لست معتمدا.‏» فأجابت:‏ «انا هنا مجرد زائرة.‏ وعندما اغادر يجب ان تأخذ القيادة.‏» وهكذا صار ماشِيانا «راعيا لرعية اللّٰه» بشكل اسرع مما كان يتوقع.‏

‏‹يا زونڠوزا،‏ .‏ .‏ .‏ عد الى بلدك›‏

في سنة ١٩٥٣ ترك الشاب فرانسيسكو زونڠوزا بلدة بيرا الى كايپ تاون،‏ جنوب افريقيا.‏ وكان يهدف الى نيل منحة ليدرس الطب في لندن.‏ وكان في حقيبته كتاب الاولاد،‏ الذي كان احد اصدقائه قد اهداه اليه.‏ فأقام في پريتوريا عند عائلة انڠليكانية رأته ذات يوم يقرأ الكتاب وسألته عما اذا كان من شهود يهوه.‏ فأجاب بالنفي لكنه كان يقرأ الكتاب فقط.‏ لكنَّ العائلة رتَّبت له ان يتَّصل بواحد من شهود يهوه ابتدأ آنذاك يدرس معه.‏ وقد اعتمد بعد وصوله الى جنوب افريقيا بسنتين.‏

يتذكر الاخ زونڠوزا انه نال المشورة التالية من الاخوة الناضجين في الجماعة:‏ «يا زونڠوزا،‏ من الافضل ان تعود الى موزَمبيق بلدك وتعمل هناك.‏ انت الآن معتمد.‏ فلماذا تسعى وراء امور اخرى؟‏ انها لا تستأهل ذلك.‏» (‏قارنوا رومية ١١:‏١٣؛‏ فيلبي ٣:‏٧،‏ ٨؛‏ ١ يوحنا ٢:‏١٥-‏١٧‏.‏)‏ فقبل الاخ زونڠوزا هذه المشورة وعاد دون تردُّد الى لورَنسو ماركيس،‏ حيث انضم الى الفريق الصغير الموجود هناك.‏ وبعد مدة من الوقت تزوج وصارت هيئة يهوه تستخدمه كثيرا مع زوجته پولينا في العمل الجائل في كل انحاء موزَمبيق.‏ وقد اجتازت محبته للّٰه امتحانات احتمال عسيرة.‏ وبقي امينا على الرغم من ١٤ سنة من السجن،‏ معسكرات الاعتقال،‏ وتحت الحظر الحكومي.‏ لذلك يمكن ان نفهم لماذا يحبه الاخوة في موزَمبيق ويقدِّرونه كثيرا.‏ وكما يقول الاخ زونڠوزا،‏ «جيد انني عدت الى بلدي.‏»‏

محاولات للحصول على الاعتراف الشرعي

بسبب الاهتمام بالاضطهاد والترحيل اللذين قامت بهما حكومة الاستعمار،‏ ارسل مكتب فرع جنوب افريقيا سنة ١٩٥٤ الى موزَمبيق ملتون بارتلِت،‏ احد خرِّيجي مدرسة جلعاد برج المراقبة للكتاب المقدس.‏ وخلال اقامته التي دامت مجرد ايام قليلة،‏ تمكَّن من التكلم مع القنصل الاميركي ورسمي پرتغالي عالي الرتبة،‏ فأوصياه ان يقدِّم طلبا للحاكم العام من اجل الاعتراف الشرعي.‏ لكنَّ الرسمي قال انه بسبب اتفاقية الحكومة مع الڤاتيكان،‏ حتى ولو مُنح شهود يهوه درجة من الحرية فلن تكون لديهم الحرية التي تتمتع بها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.‏

جرت ملاحقة هذه الزيارة في السنة التالية عندما زار جون كوك،‏ خرِّيج آخر لجلعاد،‏ القنصل البريطاني في موزَمبيق.‏ ورغم ان القنصل كان وديًّا،‏ فقد ذكر ان الكاردينال الكاثوليكي هاجم في الصحافة كل اشكال الپروتستانتية.‏ وأضاف القنصل ايضا ان شرطة الامن كانت تعتبر شهود يهوه خطرين.‏ وفي الختام عبَّر عن الرأي انه بين كل «الشِّيَع،‏» اذا اردنا ان نستعمل عبارته،‏ لدى الشهود اضعف احتمال ان ينالوا الاعتراف الشرعي.‏

ومع ذلك،‏ اثمرت زيارة الاخ كوك.‏ فقد استطاع ان يعود لزيارة شاب پرتغالي مهتم اسمه پاسكْوال اوليڤيرا.‏ وكان پاسكْوال قد تعرَّف بالحق منذ سنوات قليلة في لِشبونة.‏ فجرى الترتيب للدرس معه ومع والدَيه.‏ ولاحقا نذر پاسكْوال نفسه ليهوه.‏

في سنة ١٩٥٦ ابتدأ فرع نياسَلَند،‏ الذي كان آنذاك يهتم بالعمل في موزَمبيق،‏ بإرسال فاتحين خصوصيين عبر الحدود للكرازة في قرى المنطقة الشمالية.‏ وأتى آخرون ايضا ليخدموا حيث هنالك حاجة في موزَمبيق،‏ وكان تأثيرهم ملحوظا بشكل خصوصي في المناطق الحدودية.‏

عودة المنفيين

بعد مدة من الوقت عاد جانِرو ديديه وأخَواه من سان توميه.‏ وكانوا قد استطاعوا ان يكرزوا بحرية في سان توميه،‏ ولكن عند عودتهم الى الموطن،‏ ضُربوا وقيل لهم ان يتوقفوا عن ايّ نشاط للكرازة وإلا فسيُرحَّلون من جديد دون عودة على الاطلاق.‏ كم يشبه ذلك طريقة معاملة السنهدريم اليهودي لرسل يسوع المسيح!‏ —‏ اعمال ٥:‏٤٠-‏٤٢‏.‏

لم يدَع جانِرو وأخَواه هذه التهديدات توقفهم عن خدمة يهوه.‏ ففي آذار ١٩٥٧ عُيِّن جانِرو فاتحا خصوصيا،‏ ولاحقا خدم اكثر من عشر سنوات كناظر دائرة في معظم انحاء البلد.‏

شهادة طوال الليل

استمر المهتمون حديثا في الانضمام الى الفريق في لورَنسو ماركيس.‏ وأحد البيوت التي كان يُعقد فيها درس هو بيت إرنستو شيلوليه،‏ رجل موزَمبيقي.‏ وكان انطونيو لانڠا يسكن هناك ايضا.‏ ولأن لانڠا كان من خلفية كاثوليكية،‏ سأل عن النقاط العقائدية وطلب البراهين،‏ وخصوصا في ما يتعلق بالثالوث.‏ فخاف الفريق ان يُبلِغ عنهم الـ‍ PIDE (‏Polícia de Investigação e Defesa do Estado‏)‏.‏ لكنَّ لانڠا كان لديه اهتمام مخلص بالحق واستمر في الاصغاء الى الدرس من خارج البيت،‏ مختبئا على الدرج.‏ وعلى اساس ما سمعه،‏ استنتج ان هذا هو الحق.‏

وذات يوم اهدى احد الاخوة الى لانڠا كتاب ‏«ليكن اللّٰه صادقا.‏»‏ وعند عودته من العمل الى البيت في اليوم التالي،‏ ابتدأ لانڠا يقرأ الكتاب عند الساعة الثانية بعد الظهر ولم يتوقف حتى وصل الى النهاية عند الساعة الثانية صباحا!‏ ثم ابتدأ يحضر الاجتماعات قانونيا وأصرَّ ان يقرأ صديقه شيلوليه الكتاب ايضا لكي يستطيعا ان يبدأا بالكرازة.‏

فاختارا كمقاطعة لهما فرق الصهيونية الروحانية (‏مازيون)‏ في المناطق النائية من لورَنسو ماركيس.‏ وفي الليل عندما كانت هذه الفرق تجتمع من اجل طقوسها على اصوات الطبول،‏ الرقص،‏ الشرب،‏ والموسيقى،‏ كان هذان الاخَوان يذهبان اليهم،‏ وبعد ان يأذن لهما قائد الفريق يقدِّمان خطابا قصيرا.‏ وكثيرا ما كانا يعودان الى البيت عند الفجر.‏ فيا لها من غيرة في نشر ايمانهما الجديد!‏

المعمودية في لورَنسو ماركيس

عندما وصل عدد الفريق الذي يقدِّم تقريرا عن خدمة الحقل الى ٢٥،‏ كُتبت رسالة الى فرع جنوب افريقيا طلبا لمجيء ممثل ليعمِّد الجدد.‏ والجواب الذي وصل اشار انه يجب ان يهتم الاخ زونڠوزا نفسه بذلك.‏ وفي اجتماع عُقد في موقع سريّ،‏ في ٢٤ آب ١٩٥٨،‏ اعتمد ١٣ شخصا —‏ اول المعتمدين في لورَنسو ماركيس.‏ وكان في هذا الفريق كالڤينو ماشِيانا،‏ إرنستو شيلوليه،‏ وأنطونيو لانڠا مع زوجاتهم،‏ بالاضافة الى پولينا زونڠوزا.‏

في سنة ١٩٥٩،‏ بعد ان انتقل الاخ زونڠوزا الى بيرا،‏ استدعت الـ‍ PIDE الاخ شيلوليه.‏ فقد كانوا يصادرون بريده ويقرأونه.‏ وجرى استجوابه طوال فترة الصباح.‏ وبعد الظهر،‏ ذهب شرطيون الى بيته وصادروا كل مطبوعاته.‏ والاخوة والمهتمون الذين رأوا اللاند روڤر الخاص بالشرطة عند بيت شيلوليه خافوا ان يُعتَقلوا جميعا.‏ ومن المدهش انه بعد اسبوع أُعيدت الكتب كلها.‏ وهذا كان التشجيع اللازم للفريق.‏

زيارات في حينها تزوِّد التشجيع

في هذه الاثناء كان پاسكْوال اوليڤيرا مع الفريق الصغير من الاوروپيين في لورَنسو ماركيس يتلقى زيارات بنَّاءة من هاليداي وجويْس بِنتلي،‏ زوجان مرسلان ارسلهما فرع نياسَلَند.‏ وشملت زياراتهما،‏ التي كانا يقومان بها مرتين في السنة،‏ بيرا الواقعة على بعد ٤٥٠ ميلا (‏٧٢٠ كلم)‏ تقريبا شمال العاصمة ومدنا اخرى ايضا.‏ ولاحقا،‏ زارهم ايضا مِلتون هنشل من المركز الرئيسي العالمي وشجَّعهم على الاستمرار في العمل مع هيئة يهوه.‏

وكانت اول جماعة من الشهود الموزَمبيقيين تعمل في العاصمة طوال سنوات عديدة عندما تشكَّلت سنة ١٩٦٣ جماعة للناشرين الاوروپيين هناك.‏

اعلان البشارة بشجاعة

بعد ان اعادت شرطة الاستعمار،‏ الـ‍ PIDE،‏ مطبوعات إرنستو شيلوليه،‏ تشجَّع الفريق الافريقي في لورَنسو ماركيس.‏ فكانوا يجتمعون ايام الآحاد في ظل شجرة،‏ قرب سوق شيپامانين الناشط.‏ وباستعمال مكبِّر للصوت كانوا يتأملون في الآية اليومية.‏ ثم كان الفريق ينقسم اثنين اثنين لزيارة البيوت وأماكن العمل في السوق.‏ وعند الساعة ٣٠:‏١١ قبل الظهر كانوا يعودون الى مكان اجتماعهم الاصلي من اجل الفطور قبل الابتداء ظهرا بمحاضرتهم العامة المعلَنة على نحو واسع.‏ وعندما كان يتأخر احيانا بعض الناشرين عن العودة من خدمتهم،‏ كانت تجري مناداتهم بواسطة جهاز الصوت:‏ «حان الوقت .‏ .‏ .‏ حان الوقت .‏ .‏ .‏ لنرجع لأنه قد حان الوقت .‏ .‏ .‏»‏

وكان حشد كبير يبتدئ بالتجمع.‏ وبالاضافة الى المدعوين شخصيا والاخوة انفسهم،‏ كان يأتي مشاهدون فضوليون كثيرون جذبهم الصوت المكبَّر.‏ وكانوا يشكِّلون دائرة كبيرة في المنطقة الناشطة،‏ وبعدئذ كانت تبدأ المحاضرة.‏ كان اصحاب البيوت في المنطقة يطلُّون من شرفاتهم للاستماع،‏ وكان كثيرون يُخرجون كتبهم المقدسة ليتابعوا فيما تُقرأ الآيات.‏ واستمر الاخوة في هذا الترتيب عدة سنوات،‏ ذاهبين تارةً الى سوقَي شيپامانين وشامانكولو وتارةً الى جادة كراڤايرو لوپيش (‏الآن اڤِنيدا اكوردوس دو لوساكا)‏.‏ وقد ساهم ذلك في ستينات الـ‍ ١٩٠٠ في النمو —‏ من جماعة واحدة الى اربع جماعات.‏

بطاقته عند الـ‍ PIDE اولا

كان ميكاس امبولووان احد الذين جرى الاتصال بهم بهذه الطريقة.‏ فعندما قبِل كتاب ‏«ليكن اللّٰه صادقا»‏ وطلب درسا في الكتاب المقدس،‏ سأل:‏ «كم يجب ان ادفع لقاء ذلك؟‏» ليس هنالك أجر مقابل دروس كهذه،‏ ولكنَّ الاخوة اقترحوا ان يقدِّم بيته في الاحد القادم من اجل القاء محاضرة.‏ فوافق فورا.‏ كان الخطيب إرنستو شيلوليه،‏ وحضر نحو ٤٠٠ شخص.‏ فأبلغ احد المخبرين من الـ‍ PIDE الشرطة بالاجتماع.‏ فاستدعى رئيس الشرطة ميكاس الى مكتبه.‏ فتولّاه الخوف.‏ وكما قال:‏ «ها انا اممي مزدوج،‏ لم احضر سوى اجتماع واحد.‏ فماذا سأقول؟‏» (‏محليا،‏ تعني الكلمة «اممي» غير مؤمن؛‏ وعبارة «اممي مزدوج» تشدِّد على عدم الجدارة التي شعر بها.‏)‏ فاتصل فورا بالاخ الذي كان يدرس معه ليتلقى التدريب في الدقائق القليلة المتبقية له قبل تلبية الاستدعاء.‏

عندما وصل ميكاس الى مركز الشرطة،‏ سُئل ما هو دينه.‏ فأجاب دون تردُّد،‏ «شاهد ليهوه.‏» ثم تابع رئيس الشرطة ماريو فيڠيرا الاستجواب:‏ «اذًا كان هنالك اجتماع كبير في بيتك،‏ تحت تأثير اجنبي،‏ خلف بوابات مغلقة،‏ ومُنعت الشرطة من الدخول.‏ لا بد انَّ لذلك علاقة بـ‍ ‹فريليمو›.‏» وكان يشير الى جبهة تحرير موزَمبيق (‏فْرِنْتي دا ليبِرتاساو دي موسامبيكيه)‏،‏ الحركة التي كانت تناضل آنذاك من اجل استقلال موزَمبيق.‏ فتحيَّر ميكاس كيف يجيب؛‏ فلم يكن ذلك قد نوقش في «التدريب» الذي خضع له.‏ وحاول ان يشرح بلباقة كامل الترتيب الذي رآه وشارك فيه للمرة الاولى.‏

فقاطعه السيد فيڠيرا:‏ «حسنا يا ميكاس هذا يكفي.‏» ثم تابع واضعا ذراعيه حول ميكاس:‏ «ما تقوله هو الحق.‏ فمن بداية التاريخ كان خدام اللّٰه مضطهدين لأنهم يتكلمون بالحق،‏ كما كنت تفعل.‏ اسألك امرا واحدا فقط:‏ في المرة التالية عندما تعقدون اجتماعا كبيرا كهذا،‏ دعونا نعرف لكي نتجنب اية مجادلات.‏ اذهب بسلام.‏ ولكن عُد الى هنا غدا،‏ واجلب معك صورتين فوتوڠرافيتين لكي نصنع لك بطاقة كواحد من شهود يهوه.‏» (‏كانت لكل المسؤولين في الجماعة آنذاك بطاقة في الملف عند الـ‍ PIDE.‏)‏ ويحب ميكاس ان يقول وهو يضحك:‏ «انا،‏ الاممي المزدوج،‏ كانت لي بطاقة عند الـ‍ PIDE قبل ان تكون لي واحدة في الجماعة!‏» ولكن من المؤسف القول ان هذا التعاطف في المعاملة من قِبل الشرطيين لم يكن اعتياديا.‏

الحوادث في ملاوي تفيد العمل في الشمال

عُقدت ثلاثة من محافل «التلمذة» الكورية في ملاوي سنة ١٩٦٧ قرب حدود موزَمبيق،‏ مما سهَّل على بعض الاخوة الموزَمبيقيين ان يحضروا.‏ ولكن في تشرين الاول اعلن الرئيس ه‍.‏ كاموزو باندا ان شهود يهوه جمعية محظورة في ملاوي.‏ فنشب اضطهاد وحشي ضدهم.‏ وفي كل انحاء البلد دُمِّرت ممتلكاتهم،‏ ضُربوا،‏ قُتل البعض،‏ واغتُصبت اكثر من الف امرأة مسيحية.‏ وبيأس لجأ ناجون كثيرون الى موزَمبيق.‏ وخلافا لما جرى توقعه،‏ استقبلتهم السلطات الپرتغالية بالترحاب.‏ وجرى تزويدهم بالطعام في مخيمَين كبيرَين قرب موكوبا،‏ في مقاطعة زامبيزيا.‏ وفي واحد فقط من هذين المخيمَين كان هنالك ٢٣٤‏,٢ من اخوتنا.‏ وساهم وجودهم كثيرا في نشر رسالة الملكوت في الشمال.‏

في خلال هذا الوقت،‏ تمتع الشهود الموزَمبيقيون في بيرا،‏ ثاني اكبر مدينة في البلد،‏ بحرية اعظم من التي تمتع بها الذين في العاصمة.‏ فقد تمكنوا من عقد اجتماعاتهم لكنَّ الكرازة من بيت الى بيت كانت محظورة،‏ وخصوصا في المناطق السكنية الاوروپية.‏

مذكِّرة مثيرة للجدل تسبِّب الانقسامات

تلقى الشيوخ في لورَنسو ماركيس سنة ١٩٦٨ امر حضور من الـ‍ PIDE.‏ وأُعطوا «مذكِّرة» نصَّت ان شهود يهوه ممنوعون من الهداية وأنهم يجب ان يجتمعوا فقط مع اعضاء عائلتهم الخاصة.‏ وكان يجب توقيع هذه «المذكِّرة» كتأكيد ان الشيوخ قد تسلَّموها.‏

فوقَّعها الشيوخ،‏ لأنهم فهموا ان التوقيع لم يكن يمثِّل بأيّ شكل من الاشكال انكارا لإيمانهم وإنما هو مجرد اعتراف بالمذكِّرة.‏ إلا انهم كانوا مصممين على الاستمرار في اطاعة امر الكتاب المقدس بالاجتماع معا وبالكرازة،‏ ولكن بحذر وفي فرق اصغر.‏ (‏متى ١٠:‏١٦؛‏ ٢٤:‏١٤؛‏ ٢٨:‏١٨-‏٢٠؛‏ عبرانيين ١٠:‏٢٤،‏ ٢٥‏)‏ وبصرف النظر عن هدفهم،‏ نشأ انقسام بين الاخوة.‏ واعتقد البعض ان الشيوخ قد سايروا بتوقيع هذه الوثيقة.‏

وفي محاولة للإثبات للفريق المنشقّ انهم لم يتصرفوا بدافع الخوف ولم يسايروا،‏ شكَّل الشيوخ لجنة برئاسة إرنستو شيلوليه.‏ وذهبوا الى المسؤولين في الـ‍ PIDE ليسألوا عن سبب الحظر.‏ فسألوا:‏ «ما الخطأ في شهود يهوه؟‏» فقيل لهم:‏ «ليست لدينا اية مشكلة معكم،‏ لكنَّ هذا الدين محظور في موزَمبيق.‏ حتى ولو كنتم لا تفعلون شيئا خاطئا،‏ فالحكومة لا تسمح بهذا الدين.‏» وأضاف الرسميون انه اذا كان احد يريد ان يمارس هذا الدين،‏ يجب ان يذهب الى بلد آخر.‏

والجواب الذي اعطاه الاخ شيلوليه ورفقاؤه كان حازما:‏ «اذا قرَّرت الحكومة ان تعليم الناس ألَّا يسرقوا،‏ او يقتلوا،‏ او يفعلوا امرا رديئا هو خطأ،‏ فليجرِ اعتقالنا.‏ فسنستمر في تعليم الحق،‏ وهذا ما سنفعله فور مغادرتنا هذا المكان.‏» وتذكِّرنا هذه العبارات مجدَّدا بعبارة رسل يسوع امام السنهدريم.‏ —‏ اعمال ٤:‏١٩،‏ ٢٠‏.‏

فهل ارضى هذا العمل الشجاع المنشقّين؟‏ من المؤسف القول انه لم يرضِهم.‏ وعلى الرغم من كل المساعدة المقدمة لهم،‏ بما في ذلك زيارات ممثلين خصوصيين من فرع جنوب افريقيا،‏ استمروا في اتِّباع مسلك استقلالي،‏ داعين انفسهم «شهود يهوه الاحرار.‏» وكان ينبغي فصلهم بسبب الارتداد.‏ وكتبت الجمعية لاحقا ان اتخاذ موقف حذر في وجه الاضطهاد لا يدل على الخوف بل هو منسجم مع مشورة يسوع في متى ١٠:‏١٦‏.‏

الـ‍ PIDE تسدِّد ضربة قاسية

بعد اقل من سنة من هذا التمرد،‏ اعتقلت الـ‍ PIDE ١٦ أخا في مراكز مسؤولية.‏ وكان بينهم إرنستو شيلوليه،‏ فرانسيسكو زونڠوزا،‏ وكالڤينو ماشِيانا.‏ وكان في هذه المناسبة ان الـ‍ PIDE وجهَّت الى الاخ شيلوليه الكلمات الواردة في مستهل هذه الرواية.‏

وتلا المزيد من الاعتقالات.‏ فكيف حصلت الـ‍ PIDE على اسماء وعناوين الخدام المعيَّنين؟‏ خلال مداهمة لبيت الاخ شيلوليه،‏ وجدوا على طاولة ملفا يحتوي على رسائل من الجمعية فيها اسماء الخدام المعيَّنين،‏ وكذلك كتيِّب كارزين معا باتحاد.‏ وبهذه المعلومات في حوزتهم بحثوا خصوصا عن خادم الجماعة،‏ مساعد خادم الجماعة،‏ مدير درس برج المراقبة،‏ مدير درس الكتاب الجماعي،‏ وآخرين.‏ فأُلقي هؤلاء في سجن ماشاڤا دون محاكمة —‏ وحُكم عليهم بالسجن مدة سنتين.‏

شجَّع فرع جنوب افريقيا الاخوة في السجن وزوَّد المساعدة لعائلاتهم.‏ وبذلت لجنة طلب العفو الدولية الجهد لإطلاق سراح الاخوة بالاضافة الى تزويد الدعم لعائلاتهم.‏ وقد رتَّب الاخوة خارج السجن في موزَمبيق ان يزوِّدوا الطعام للمحتاجين.‏ تقول اليتا،‏ ابنة الاخ شيلوليه،‏ عن هذا الترتيب:‏ «لم ينقصنا الطعام اليومي.‏ وكان احيانا افضل حتى من الذي كنا معتادين عليه.‏»‏

عمل الكرازة يستمر

رغم ‹الوقت غير المناسب،‏› لم يستطِع شعب يهوه ان يوقفوا عملهم المانح الحياة،‏ الكرازة ببشارة الملكوت.‏ (‏٢ تيموثاوس ٤:‏١،‏ ٢‏)‏ يتذكر فرناندو موتِمبا،‏ الذي صار من اعمدة العمل في هذا البلد،‏ انه في جماعته اعتُقل خادم الجماعة ومساعد خادم الجماعة.‏ وبما انه كان خادم درس الكتاب المقدس،‏ صار لازما ان يأخذ القيادة.‏ وأعطت الجمعية تعليمات ان تُلقى سلسلة من المحاضرات المؤسسة على كتاب الحق الذي يقود الى الحياة الابدية.‏ فرتَّب بحذر مناسب ان تُلقى في الليل،‏ في فرق درس الكتاب.‏ وكان كل خطيب يلقي محاضرته على فريقَين كل ليلة.‏ وهكذا حصل مدعوون كثيرون على هذا الطعام الروحي وازداد تقديرهم للحق.‏

نال الجدد تدريبا مكثَّفا ليكونوا فعَّالين في خدمتهم وشجعانا في وجه الاضطهاد.‏ يصف فيليپ ماتولا كيف استفاد من التدريب الباكر:‏ «جرى تدريبنا على اخبار الآخرين بما نتعلمه،‏ مبرهنين ببراعة من الكتاب المقدس كل ما نعلِّمه.‏ فبعد اسبوعين من الدرس كنا نبتدئ بالكرازة غير الرسمية.‏ وفي الاسبوع الثالث كنا نبدأ بجلب المهتمين للاشتراك في الدرس.‏ وفي الاسبوع الرابع كنا نبتدئ بالكرازة من بيت الى بيت.‏ وكان يجري تشجيع الجدد على الاحتمال تحت الامتحانات والسجن وعدم الخوف.‏ وكان اخ واحد فقط مسؤول في الجماعة حرًّا وكان يقول:‏ ‹لا اعرف متى أُسجن.‏ لذلك يجب ان تتعلموا جميعا كيف تهتمون بالجماعة.‏›» وعندما أُرسل الاخ ماتولا ايضا الى سجن ماشاڤا،‏ لم يفتُر حماسه.‏

الكرازة والاجتماع في السجن

بأسرع ما يمكن،‏ نظَّم الفريق في سجن ماشاڤا كل الاجتماعات بهدف البقاء اقوياء روحيا.‏ وكيف استطاعوا ان يفعلوا ذلك وهم تحت الحراسة؟‏ هذا ما كان يجري كما قال الاخ فيليپ ماتولا:‏ «كنا ننتهز الفرص عندما نستطيع الدخول الى باحة السجن.‏ وكان المعيَّن ليقدِّم خطابا في مدرسة الخدمة الثيوقراطية يمشي مع اربعة آخرين،‏ كما لو انهم يتمشون ويتحادثون.‏ ثم كان يترك هذا الفريق ويفعل الامر عينه مع فريق ثانٍ،‏ وهلم جرا،‏ حتى يكون قد القى الخطاب على كل فريق.‏»‏

في البداية حاولوا ان يعقدوا درس الكتاب في الزنزانات بمساعدة مطبوعة،‏ لكنَّ درسهم اكتُشف،‏ ومُنعوا من الاستمرار.‏ فغيَّروا اسلوبهم.‏ يتذكر سجين آخر،‏ لويش بيلا:‏ «كنا نستعد افراديا،‏ ثم في يوم وساعة محدَّدَين مسبقا ودون مطبوعة في اليد،‏ كنا نتمشى مستخدمين اسلوب مدرسة الخدمة الثيوقراطية عينه،‏ وكان كل واحد يقدِّم النقاط الرئيسية للمواد.‏ وكان هذا الاسلوب نافعا جدا لأنه كان يجب ان نحفظ المواد لئلا ننساها ابدا.‏»‏

وقد ساعد اعضاء العائلة الاحرار بتخبئة المطبوعات تحت الطعام وتهريبها الى السجن عندما كانوا يأتون للزيارة.‏ وبهذه الطريقة كان يجري اطعام الاخوة جسديا وروحيا.‏

كانت هنالك ايضا مناسبات استطاع فيها سجناء آخرون ان يستفيدوا من الاجتماعات.‏ فذات مرة عندما كان ٣ اخوة يتشاركون في جناح من السجن مع ٧٠ من السجناء الآخرين،‏ أُلقيت محاضرة عامة.‏ وخدم اخ كعريف،‏ وقدَّم آخر الصلاة.‏ ثم رنَّم الثلاثة،‏ وأُلقيت المحاضرة.‏ وكان مجموع عدد الحضور ٧٣.‏

كان الاخ إرنستو شيلوليه يتقاسم الزنزانة مع عضو من الـ‍ «فريليمو» كانت الـ‍ PIDE قد اعتقلته لأنه يحارب من اجل الاستقلال.‏ وجرى الاشتراك معه في محادثات ودية والشهادة عن رجاء ملكوت اللّٰه.‏ وكانا سيلتقيان لاحقا في ظروف مختلفة.‏

توَّاق الى الاشتراك في الحق في اينيامبان

صارت اينيامبان،‏ احدى المقاطعات الجنوبية،‏ مسرح نشاط مكثَّف قام به بنَّاء آجرّ متواضع.‏ فبعدما سمع هذا الرجل،‏ اراو فرانسيسكو،‏ محاضرة في سنة ١٩٦٧ في لورَنسو ماركيس لم يشك انه وجد الحق.‏ وشعر بالاندفاع الى الاشتراك في ما سمعه مع الناس في موطنه.‏ وهذا ما فعله.‏ وبعد عودته الى لورَنسو ماركيس،‏ اعتمد في الوقت نفسه تقريبا الذي اعتقلت فيه الـ‍ PIDE الفريق الكبير من الشيوخ.‏ فشعر اراو بأنه مسؤول عن الاهتمام الذي اثاره بين شعبه وخاف ان يُسجَن قبل ان يقدِّم المزيد من المساعدة لهم.‏ وحاول بعض الاخوة ان يثنوه عن ذلك،‏ قائلين انه لا يزال جديدا في الحق اكثر من ان يشهد وحده.‏ فانتظر عدة اشهر لكنه لم يعُد باستطاعته ان يقاوم الرغبة الملحة في الشهادة لشعبه.‏ فجمع زوجته وولديه وعادوا الى اينيامبان.‏ وكان يعقد كل الاجتماعات مع عائلته فقط في بادئ الامر.‏

وقد نشر بزور الحق في مدينة اينيامبان،‏ في ماشيش،‏ وفي بلدات اخرى في المنطقة،‏ واضعا الاساس للجماعات الموجودة هناك الآن.‏ وعندما حاول كاهن كاثوليكي ان يتدخل،‏ قائلا،‏ «لا يمكنك ان تشكِّل اية فرق هنا،‏» اجاب اراو بشجاعة:‏ «ليست هنالك حدود للبشارة التي اجلبها.‏ فيمكن ان تصل الى ايّ مكان.‏» وهذا ما قال يسوع انه سيحدث بالتأكيد،‏ كما تظهره الاعمال ١:‏٨‏.‏

دعا الكاهن المحلي الى اجتماع لتقرير ما اذا كان يجب طرد اراو من المنطقة.‏ فأكَّد اراو انه لن ينتقل.‏ ولا عجب ان يستدعي الكاهن حليفه المفضَّل،‏ الـ‍ PIDE.‏

الـ‍ PIDE تطارد كارزا-‏بنَّاء

عندما كان اراو يزور الفرق الاخرى الابعد ذات يوم من ايام الآحاد،‏ كان يحضر الاجتماع في اينيامبان اربعة شرطيين من الـ‍ PIDE.‏ وادَّعوا انهم شهود ليهوه كانوا يزورون المنطقة.‏ ولكن عند نهاية الاجتماع،‏ عرَّفوا بأنفسهم وطلبوا رؤية اراو.‏ وعندما لم يجدوه اعتقلوا ثمانية اخوة كانوا حاضرين.‏

وبما ان اراو كان يبني بيتا للمسؤول الاداري في قرية إنوِني،‏ ذهب الشرطيون للبحث عنه هناك.‏ وقد سمع اراو المسؤول يقول لهم:‏ «لا استطيع ان اسمح له بالذهاب بسبب الدين.‏ فيجب اولا ان ينهي العمل في منزلي.‏» عندئذ سأل الشرطيون:‏ «هل تعني انه هو الذي يبني هذا المنزل؟‏» فأجاب المسؤول:‏ «نعم،‏ وقد بنى ايضا المنزل في ماشيش ومنازل اخرى ايضا.‏ ولا يعرف احد هنا كيف يقوم بهذا العمل الذي يقوم به في منزلي.‏ وقد بنى مكتب دائرة التسجيل في ماشيش،‏ ويجب ان يبني بعدُ فندقا للمسافرين.‏» وبعد سماع هذه الخلاصة،‏ قال الشرطيون:‏ «سنعود لنأخذ اراو ليبني بيتا لمدير الاشغال العامة.‏»‏

فاعتُقل اراو واستُخدم في بناء مختلف المشاريع الحكومية.‏ ولكن،‏ حتى كسجين،‏ كانت لديه فرص عديدة للشهادة.‏

كان رسمي في الـ‍ PIDE يستدعي اراو الى مكتبه ليلا لمساعدته على درس كتاب الحق.‏ وعندما يأتي اشخاص آخرون،‏ كان الرسمي،‏ السيد نِڤِز،‏ يمسك بسرعة بعض الوثائق ويتظاهر انه يقوم باستجواب.‏ وذات يوم قال:‏ «يا اراو،‏ بما تعلِّمني اياه،‏ اهتديت.‏ كل حياتي،‏ من الوقت الذي كنت فيه في لِشبونة حتى الآن،‏ كنت اتكلم مع شهود يهوه.‏ وقريبا عندما اتقاعد،‏ سأصير واحدا منهم.‏ ولكن قبل ان اترك يجب ان اطلق سراحك.‏ فاعمل على انهاء عملك الحالي،‏ وسأتكلم مع المفتش العام عن جلب بنَّاء آجرّ آخر.‏ ولتجنُّب المشاكل لن اعود الى لِشبونة،‏ لكنني سأبيع كل شيء وأرحل الى اميركا.‏ هل تسمعني يا اراو؟‏ لا تقُل شيئا لأحد.‏»‏

كان السيد نِڤِز مصمِّما على الوفاء بوعده حتى انه اطلق سراح الاخوة المسجونين في اينيامبان.‏ لكنَّ اطلاق سراح اراو لم يكن مهمة سهلة.‏ فقد صارت الـ‍ PIDE تعتبره بنَّاءها الخاص.‏ وبحلول هذا الوقت كان السيد نِڤِز قد تقاعد لكنه كان يذهب كل يوم ليرى صديقه ويناشد المفتش العام ان يطلق سراح اراو.‏ وكما وعد،‏ لم يكن إلا بعد اطلاق سراح اراو ان السيد نِڤِز رحل.‏ ولا ندري اين هو السيد نِڤِز الآن.‏ فهل وفى بما تبقى من وعده؟‏ نأمل ذلك من كل قلبنا.‏

التغييرات السياسية تجلب راحة مؤقتة

في ١ ايار ١٩٧٤ سُمعت صرخة ابتهاج في كل انحاء سجن ماشاڤا.‏ فكانت «ثورة القرنفل» (‏رِڤولوساو دوس كراڤوس)‏ قد انهت في ٢٥ نيسان الديكتاتورية في الپرتغال،‏ محدثة تغييرات مفاجئة في مستعمراتها الواقعة عبر البحار.‏ وفي ١ ايار مُنح العفو لجميع السجناء السياسيين.‏ وجرى شمل شهود يهوه في هذا العفو،‏ لأنهم كانوا مسجونين بسبب حيادهم السياسي.‏ وكانت موزَمبيق تستعد الآن لتصير امة مستقلة.‏

وعند اطلاق سراحهم،‏ تشجَّع الاخوة برؤية الزيادات في عدد خدام يهوه.‏ وسرّوا ايضا برؤية القوة الروحية للذين بقوا احرارا.‏ (‏قارنوا فيلبي ١:‏١٣،‏ ١٤‏.‏)‏ وإذ استغلوا حريتهم الجديدة،‏ عقدوا محفلا دائريا ناجحا جدا.‏ وما زاد من بهجتهم كان حضور اخَوين عزيزين عليهم من جنوب افريقيا —‏ فرانز مولِر،‏ منسق لجنة فرع جنوب افريقيا،‏ الذي كان قد اظهر اهتماما شديدا بخير الاخوة في موزَمبيق،‏ وإلياس ماهِنّي،‏ الذي خدم سنوات عديدة كناظر دائرة في جنوب موزَمبيق.‏

في هذا المحفل شُجِّع الذين كانوا قد سُجنوا على العمل باتحاد مع هيئة يهوه المتقدمة بسرعة.‏ وذكَّر الاخ ماهِنّي الاخوة:‏ «لقد اختفت الـ‍ PIDE،‏ لكنَّ مصدرها،‏ الشيطان ابليس،‏ لا يزال موجودا.‏ فتقووا وتشجَّعوا.‏» وطلب من الذين كانوا في السجن ان يقفوا.‏ وكان هناك عديدون.‏ ثم طلب من الذين اتوا الى الحق خلال فترة سجن الاخوة ان يقفوا.‏ فوقف نصف الحضور البالغ نحو ٠٠٠‏,٢.‏ واختتم الاخ ماهِنّي:‏ «لا سبب لديكم للخوف.‏»‏

كانت هذه كلمات تشجيع في حينها.‏ فقد كانت الغيوم المتلبدة تتشكل في الافق،‏ وكان امتحان عظيم للمحبة للّٰه ينتظر كل شعب يهوه في موزَمبيق.‏

مرت سنة ١٩٧٤ بسرعة.‏ وخلال هذه السنة اعتمد ٢٠٩‏,١؛‏ وفي ١٩٧٥ اعتمد ٣٠٣‏,٢.‏ وكثيرون من الشيوخ الآن اعتمدوا آنذاك.‏

لكنَّ الحماسة الثورية كانت مسيطرة في البلد.‏ وصار «ڤيڤا فريليمو» (‏تحيا فريليمو)‏ شعارا للنضال من اجل الحرية والاستقلال دام عشر سنوات.‏ وكان هنالك شعور بالغبطة على صعيد الامة،‏ وفي نظر الغالبية،‏ بدا وكأنه لا يمكن لأحد ان لا يشترك.‏ وكانت المشاعر السائدة على وشك ان تسدل الستار على حرية الاخوة القصيرة الامد،‏ وكان الستار سيصير من حديد.‏

اوامر بالاعتقال

عندما ابتدأت التحضيرات لعيد الاستقلال في ٢٥ حزيران ١٩٧٥،‏ صار موقف شهود يهوه الحيادي اكثر وضوحا.‏ وحاول الاخوة المسؤولون ان يقابلوا الحكومة الجديدة،‏ ولكن دون جدوى.‏ فقد اعطى الرئيس المنصَّب حديثا امرا عندما صاح خلال خطاب نقله الراديو:‏ «سنقضي نهائيا على شهود يهوه هؤلاء.‏ .‏ .‏ نحن نعتقد انهم عملاء خلَّفهم الاستعمار الپرتغالي؛‏ لقد كانوا من الـ‍ PIDE سابقا.‏ .‏ .‏ لذلك نقترح ان يلقي الشعب القبض عليهم فورا.‏»‏

فهبَّت العاصفة.‏ وحُشدت الفرق المفوَّضة في المناطق بهدف واحد مشترك،‏ اعتقال جميع شهود يهوه —‏ في العمل،‏ في المنزل،‏ في الشوارع،‏ في ايّ وقت من النهار او الليل،‏ في كل انحاء البلد.‏ وأُرغم كل فرد على حضور الاجتماعات في المناطق المعقودة في اماكن العمل والاماكن العامة،‏ وكل مَن لا ينضم الى الحشد في الصراخ «‏ڤيڤا فريليمو‏» كانت تحدَّد هويته كعدو.‏ هذه هي الروح التي تسود عندما ترتفع العواطف القومية الى درجة الجنون.‏

ولكن من المعروف جيدا ان شهود يهوه،‏ رغم حيادهم في ما يتعلق بالمسائل السياسية،‏ يؤيدون القانون والنظام،‏ يعاملون الرسميين باحترام،‏ هم مستقيمون،‏ ولديهم ضمير حيّ بشأن دفع الضرائب.‏ وبمرور السنين كانت حكومة موزَمبيق ستؤكد هذا الواقع.‏ ولكن،‏ في تلك الاثناء،‏ كانت حالة شهود يهوه في موزَمبيق كحالة المسيحيين الاولين الذين أُعدموا في الميادين الرومانية بسبب رفضهم حرق البخور للامبراطور،‏ وكحالة اخوتهم في المانيا الذين أُلقوا في معسكرات الاعتقال بسبب رفضهم الصراخ «هايل هتلر.‏» وشهود يهوه معروفون حول العالم برفضهم المسايرة في طاعتهم ليهوه وليسوع المسيح،‏ الذي قال عن أتباعه:‏ «ليسوا (‏جزءا)‏ من العالم كما اني انا لست (‏جزءا)‏ من العالم.‏» —‏ يوحنا ١٧:‏١٦‏.‏

الترحيل الجماعي —‏ الى اين؟‏

صارت السجون في موزَمبيق بسرعة مكتظَّة بآلاف من شهود يهوه.‏ وتفرَّق اعضاء العائلات.‏ وأثارت الدعاية المكثَّفة عداء كبيرا ضد الشهود حتى ان كثيرين فضَّلوا ان يسلِّموا انفسهم لأنهم شعروا بأمان اكثر مع اخوتهم وأقربائهم الذين كانوا قد دخلوا السجن،‏ رغم ان الشيوخ لم يشجِّعوا على ذلك.‏

ومن تشرين الاول ١٩٧٥ فصاعدا تلقَّى فرعا زمبابوي (‏روديسيا آنذاك)‏ وجنوب افريقيا فيضا من التقارير التي تنقل صورة كئيبة من نظار الدوائر،‏ مختلف اللجان المسؤولة،‏ وإخوة افراديين.‏ وهذه بدورها أُرسلت الى الهيئة الحاكمة لشهود يهوه.‏ وحالما تلقَّى معشر الاخوة العالمي الاخبار عن الحالة الاليمة للاخوة في موزَمبيق،‏ صعدت الى السماء من كل انحاء الارض صلوات لا تنقطع من اجل الاخوة المضطهَدين،‏ انسجاما مع المشورة في عبرانيين ١٣:‏٣‏.‏ فيهوه فقط كان بإمكانه ان يدعمهم،‏ وهذا ما فعله بطريقته الخاصة.‏

من المرجح ان السلطات الحكومية لم تكن تنوي ان تنزل بشهود يهوه المعاملة الوحشية التي عوملوا بها فعلا.‏ لكنَّ بعض السلطات الادنى،‏ في محاولة جادَّة لتغيير الاقتناعات الراسخة المتعلقة بالضمير،‏ حاولت بوسائل عنيفة ان تنتزع منهم الـ‍ «‏ڤيڤا.‏‏» وأحد الامثلة الكثيرة هو مثال جولياو كوسّا من ڤيلانكولوس،‏ الذي ضُرب طوال ثلاث ساعات في محاولة لجعله يساير على ايمانه،‏ ولكن دون جدوى.‏ وعندما كان هؤلاء المعذِّبون ينتزعون احيانا الـ‍ «‏ڤيڤا‏» من احد،‏ كانوا يظلون غير مكتفين.‏ وكانوا يطلبون من الشاهد ايضا ان يصرخ «ليسقط يهوه» و«ليسقط يسوع المسيح.‏» ان الفظائع التي عاناها اخوتنا هي اكثر من ان تُعَدّ وأفظع من ان توصف.‏ (‏انظروا استيقظ!‏‏،‏ عدد ٨ كانون الثاني ١٩٧٦،‏ الصفحات ١٦-‏٢٦،‏ بالانكليزية.‏)‏ لكنهم كانوا يعرفون،‏ كما كتب الرسول بولس الى المسيحيين الفيلبيين في القرن الاول،‏ ان موقفهم الشجاع في وجه الضيقة والاضطهاد هو برهان على عمق محبتهم للّٰه وضمان بأنه سيكافئهم بالخلاص.‏ —‏ فيلبي ١:‏١٥-‏٢٩‏.‏

والاجواء الخانقة الناتجة من الازدحام في السجون،‏ التي تفاقمت بسبب القذارة والنقص في الطعام،‏ سبَّبت موت اكثر من ٦٠ ولدا في فترة اربعة اشهر في سجون ماپوتو (‏لورَنسو ماركيس سابقا)‏.‏ والاخوة الذين كانوا لا يزالون احرارا بذلوا اقصى جهدهم في محاولة لدعم اخوتهم في السجن.‏ وخلال الاشهر الاخيرة من سنة ١٩٧٥ باع بعض الشهود ممتلكاتهم من اجل الاستمرار في تزويد الطعام لاخوتهم المسجونين.‏ لكنَّ اثبات هويتهم مع الذين في السجن عنى تعريض حريتهم للخطر،‏ وقد اعتُقل كثيرون وهم يعتنون بحاجات الاخوة.‏ هذه هي المحبة التي قال يسوع انها ستكون لدى أتباعه الحقيقيين واحدهم نحو الآخر.‏ —‏ يوحنا ١٣:‏٣٤،‏ ٣٥؛‏ ١٥:‏١٢،‏ ١٣‏.‏

وبشكل متناقض ظاهريا،‏ خلال هذه الفترة عينها،‏ عومل بعض الشهود في اقليم سوفالا بطريقة مختلفة كليا.‏ فعند القاء القبض عليهم أُخذوا الى ڠراند هوتِل الفخم في مدينة بيرا وقدِّم لهم الطعام وهم ينتظرون اخذهم الى وجهتهم الاخيرة.‏

وماذا كنت وجهتهم؟‏ كان هذا لغزا،‏ حتى لسائقي الباصات والشاحنات العديدة التي كانت ستنقلهم.‏

الوجهة —‏ كاريكو،‏ مقاطعة ميلاندْجي

بين ايلول ١٩٧٥ وشباط ١٩٧٦ نُقل جميع شهود يهوه الذين احتُجزوا،‏ سواء كان ذلك في السجون او في الحقول في العراء.‏ وكانت الوجهة غير المعلَن عنها سلاحا آخر ايضا استعملته الشرطة والسلطات المحلية الاخرى في محاولة لإخافة الاخوة.‏ فقيل لهم:‏ ‏«ستأكلكم الحيوانات الضارية.‏ انه مكان مجهول في الشمال لن تعودوا منه ابدا.‏» وشكَّل اعضاء العائلات غير المؤمنين مجموعة للبكاء والنَّوح،‏ مصرّين ان يستسلم المؤمنون.‏ ومع ذلك قليلون هم الذين سايروا.‏ وحتى المهتمون حديثا ربطوا مصيرهم بمصير شهود يهوه بشجاعة.‏ وهذه كانت حال اوجينيو ماسيتِلا،‏ داعم غيور للمُثُل السياسية العليا.‏ وقد أُثير اهتمامه عندما عرف ان السجون ملآنة بشهود يهوه.‏ ولمعرفة هويتهم طلب درسا بيتيا،‏ ولكن ليُعتقل ويرحَّل بعد اسبوع.‏ وكان بين اول المعتمدين في معسكرات الاعتقال،‏ وهو يخدم اليوم كناظر دائرة.‏

لم يظهر الشهود اية علامة للخوف او الخشية عندما أُخذوا من السجون وحُشروا في الباصات،‏ الشاحنات،‏ وحتى الطائرات.‏ وإحدى القوافل الكبيرة غادرت ماپوتو في ١٣ تشرين الثاني ١٩٧٥.‏ وكان هنالك ١٤ باصا،‏ او ماشيبومبوس كما تُدعى هنا.‏ وفرح الاخوة الذي يبدو صعب التفسير دفع الجنودَ المسؤولين ان يسألوا:‏ «كيف يمكنكم ان تكونوا سعداء وأنتم لا تعرفون حتى الى اين انتم ذاهبون؟‏ فالمكان الذي انتم ذاهبون اليه ليس جيدا على الاطلاق.‏» لكنَّ فرح الاخوة لم يخمد.‏ وفيما كان الاقرباء غير المؤمنين يبكون،‏ خائفين على مستقبل احبائهم،‏ كان الشهود يرنِّمون ترانيم الملكوت،‏ كالترنيمة بعنوان «تقدَّموا بشجاعة.‏»‏

وفي كل مدينة على الطريق كان السائقون يتصلون هاتفيا برؤسائهم ليعرفوا وجهتهم،‏ فيؤمرون بأن يتقدموا الى المحطة التالية.‏ وضلّ بعض السائقين طريقهم.‏ ولكنهم وصلوا اخيرا الى ميلاندْجي،‏ بلدة وعاصمة مقاطعة في اقليم زامبيزيا،‏ على بعد ١٠٠‏,١ ميل (‏٨٠٠‏,١ كلم)‏ من ماپوتو.‏ وهناك استقبل المسؤول الاداري الاخوة بـ‍ «خطاب ترحيب،‏» خطبة لاذعة ملآنة بالتهديد.‏

ثم أُخذوا ٢٠ ميلا (‏٣٠ كلم)‏ الى الشرق،‏ الى مكان على ضفاف نهر مُندوزي،‏ المنطقة المعروفة بـ‍ كاريكو،‏ في مقاطعة ميلاندْجي.‏ والآلاف من شهود يهوه من ملاوي،‏ الذين كانوا قد هربوا من موجة الاضطهاد في بلدهم،‏ كانوا يسكنون هناك كلاجئين منذ ١٩٧٢.‏ وكان الوصول غير المتوقع للاخوة الموزَمبيقيين مفاجأة للملاويين.‏ وكانت مفاجأة للموزَمبيقيين ان يستقبلهم اخوة يتكلمون لغة غريبة.‏ لكنها كانت مفاجأة سارة جدا،‏ وقد استقبل الاخوة الملاويون الشهود الموزَمبيقيين بكثير من الحرارة والضيافة حتى ان السائقين تأثروا.‏ —‏ قارنوا عبرانيين ١٣:‏١،‏ ٢‏.‏

والمسؤول الاداري في المقاطعة هو الرجل الذي كان مع الاخوة في سجن ماشاڤا قبل سنوات.‏ وعند استقبال كل فريق كان يسأل:‏ «اين هما شيلوليه وزونڠوزا؟‏ انا اعرف انهما سيأتيان.‏» وعندما وصل الاخ شيلوليه اخيرا،‏ قال له المسؤول الاداري:‏ «شيلوليه،‏ لا اعرف حقا كيف استقبلك.‏ نحن في طرفين مختلفين الآن.‏» لقد التصق بإيديولوجياته ولم يجعل الامور اسهل بطريقة ما لرفقائه السابقين في الزنزانة.‏ وكان،‏ كما وصف نفسه،‏ «جَديا يحكم بين الخراف.‏»‏

الدعم الحبي من معشر الاخوة الاممي

عبَّر معشر الاخوة الاممي لشهود يهوه عن اهتمامهم الحبي بالاخوة في موزَمبيق.‏ فقد اغرقوا بريد البلد بالرسائل التي تناشد سلطات موزَمبيق.‏ كان زملاء العمل في مركز المواصلات السلكية واللاسلكية يستهزئون بأوڠوستو نوڤِلا،‏ الذي هو شاهد،‏ ويقولون ان شهود يهوه ليسوا سوى طائفة محلية.‏ لكنهم أُسكتوا عندما ابتدأت اجهزة التلكس تتلقى الرسائل من حول العالم.‏ والتجاوب الغامر اثبت واقع ان شعب يهوه متَّحدون حقا بالمحبة.‏

وبعد نحو عشرة اشهر اعترف وزير في الدولة،‏ في زيارة له لتفقُّد المخيمات،‏ ان الاخوة سُجنوا بتهم باطلة.‏ ولكن كان سابقا لأوانه ان يتوقَّعوا الحرية.‏

تحديات حياة جديدة

كان فصل جديد قد انفتح في تاريخ شعب يهوه في موزَمبيق.‏ فكان الاخوة الملاويون في المنطقة قد نظّموا انفسهم في ثماني قرى.‏ وكانوا قد اكتسبوا خبرة كبيرة في التكيُّف مع نمط حياة جديد في الدغل ونمَّوا مهاراتهم في بناء البيوت،‏ قاعات الملكوت،‏ وحتى قاعات المحافل.‏ والذين لم تكن لديهم خبرة سابقة في الزراعة تعلَّموا ايضا الكثير عن هذا النوع من العمل.‏ وكثيرون من الموزَمبيقيين،‏ الذين لم يزرعوا قط ماشامبا (‏حقلا محروثا)‏،‏ كانوا على وشك اختبار العمل الشاق في الحقول للمرة الاولى.‏ وفي الاشهر القليلة الاولى نَعِم الوافدون الجدد بالضيافة الحبية لاخوتهم الملاويين،‏ الذين استقبلوهم في بيوتهم وتقاسموا معهم طعامهم.‏ ولكن حان الوقت الآن ليبني الاخوة الموزَمبيقيون قراهم الخاصة.‏

لم يكن ذلك مهمة سهلة.‏ فكان الفصل الممطر قد ابتدأ،‏ وبوركت المنطقة بأمطار لم يسبق لها مثيل.‏ ولكن عندما فاض نهر مُندوزي،‏ الذي يمرّ في وسط المخيم،‏ في منطقة كانت مبتلاة عادة بالجفاف،‏ رأى الاخوة ذلك كعلامة لكيفية اعتناء يهوه بهم.‏ وفي الواقع،‏ خلال السنوات الـ‍ ١٢ التالية،‏ لم يجفَّ النهر مرة واحدة كما كان يحدث من قبل.‏ ومن ناحية اخرى،‏ كما يتذكر الاخ موتِمبا،‏ «كانت الارض الوحلة الزلقة،‏ التي سبَّبها طبيعيا الطقس الممطر،‏ تحديا اضافيا لسكان المدينة السابقين.‏» وعلاوة على ذلك،‏ لم يكن سهلا على النساء ان يعبرن النهر وهن يحافظن على توازنهن على جسور مؤقتة لم تكن سوى جذوع اشجار.‏ يتذكر شَڤيير دِنڠو:‏ «بالنسبة الى الرجال المعتادين المكاتب،‏ كان تحديا ان ندخل الغابات الكثيفة ونقطع الاشجار لبناء بيوتنا.‏» وصارت هذه الاحوال امتحانا لم يكن البعض مستعدين له.‏

نتذكر انه في ايام موسى ابتدأ التذمر بين «اللفيف» الذي رافق الاسرائيليين من مصر الى البرية ثم امتدَّ ذلك الى الاسرائيليين انفسهم.‏ (‏عدد ١١:‏٤‏)‏ وبشكل مماثل،‏ ظهر من البداية بين الذين لم يكونوا شهودا معتمدين فريق من المتذمرين،‏ وانضم اليهم بعض المعتمدين.‏ فاقتربوا من المسؤول الاداري وأعلموه انهم على استعداد لدفع ايّ ثمن ليُعادوا الى موطنهم بأسرع ما يمكن.‏ لكنَّ ذلك لم يؤدِّ الى رحلة فورية الى موطنهم كما كانوا يرجون.‏ فقد جرى ابقاؤهم في ميلاندْجي،‏ وصار عديدون منهم مصدر ازعاج للامناء.‏ وصاروا معروفين بـ‍ «المتمردين.‏» وعاشوا في وسط الاخوة الامناء لكنهم كانوا مستعدين دائما لخيانتهم.‏ فمحبتهم للّٰه لم تصمد في وجه الامتحان.‏

لماذا سقطت القاعات

كان الاخوة الملاويون في المخيمات قد تمتعوا بحرية لا بأس بها في العبادة.‏ وعندما وصل الاخوة الموزَمبيقيون،‏ استفادوا في بادئ الامر من ذلك.‏ فكل يوم كانوا يتجمعون في واحدة من قاعات المحافل الكبيرة للتأمل في الآية اليومية.‏ وغالبا ما كان ناظر دائرة ملاويّ يشرف على ذلك.‏ يتذكر فيليپ ماتولا:‏ «كان مقوِّيا،‏ بعد اشهر من السجن والسفر،‏ ان نسمع حضًّا روحيا برفقة اخوة كثيرين.‏» لكنَّ هذه الحرية النسبية لم تدُم.‏

ففي ٢٨ كانون الثاني ١٩٧٦ دخلت السلطات الحكومية برفقة الجنود الى القرى وأعلنت:‏ «انتم ممنوعون من العبادة او الصلاة في هذه القاعات او ايّ مكان آخر من القرى.‏ ستؤمَّم القاعات وتستعملها الحكومة كما تراه ملائما.‏» وأمروا الاخوة بأن يُخرجوا كل كتبهم وصادروها.‏ طبعا،‏ خبَّأ الاخوة ما استطاعوا.‏ وعقب ذلك،‏ رُفعت الأعلام امام كل قاعة،‏ وأُقيم الجنود كحراس لضمان تنفيذ الامر.‏

على الرغم من ان القاعات كانت مبنية من الاوتاد وتبدو بسيطة،‏ فقد كانت قوية كفاية.‏ لكنها ابتدأت كلها تنهار في وقت قصير نسبيا.‏ يتذكر شَڤيير دِنڠو انه ذات مرة كان قد وصل هو والمسؤول الاداري الى احدى القرى عندما ابتدأت القاعة تنهار فعليا،‏ رغم انه لم يكن هنالك مطر ولا ريح.‏ فعبَّر المسؤول الاداري قائلا:‏ «ماذا يجري؟‏ انتم اردياء.‏ القاعات تسقط كلها الآن بعدما امَّمناها!‏» ولاحقا قال المسؤول الاداري لأحد الشيوخ:‏ «لا بد انكم صليتم ان تسقط القاعات،‏ .‏ .‏ .‏ وقد اسقطها الهكم.‏»‏

التنظيم في القرى

بسرعة بُنيت تسع قرى موزَمبيقية موازية ومواجهة للقرى الملاوية الثماني الموجودة.‏ وكان هذان الفريقان سيسكنان معا طوال السنوات الـ‍ ١٢ التالية،‏ توحِّدهما اللغة النقية.‏ (‏صفنيا ٣:‏٩‏،‏ ع‌ج‏)‏ كانت مساحة كل قرية مقسَّمة الى مجموعات من الابنية،‏ تفصلها شوارع حسنة الصيانة،‏ وتشمل كل مجموعة ثماني قطع من الارض مساحتها ٨٠ قدما في ١١٠ (‏٢٥ مترا في ٣٥)‏.‏ وجرى ترتيب الجماعات حسب مجموعات الابنية.‏ وبعد اعلان الحظر في المخيمات،‏ لم يعُد باستطاعتهم بناء قاعات ملكوت ظاهرة.‏ لذلك بنوا بيوتا خصوصية لها شكل L لتخدم القصد.‏ وكانت تسكن فيها ارملة او شخص عازب آخر لإعطاء الانطباع انه يوجد مقيمون.‏ ثم عندما تُعقد الاجتماعات،‏ كان الخطيب يقف عند زاوية الـ‍ «L» وهكذا يتمكن من رؤية الحضور في الجانبين كليهما.‏

وحول محيط كل قرية كانت هنالك الـ‍ ماشامباس الخاصة بها.‏ وكانت كل جماعة تُعنى ايضا بـ‍ «‏ماشامبا جماعي،‏» وكان الجميع يشتركون في زرعه كمساهمة منهم في حاجات الجماعة.‏

كان حجم كل قرية يختلف وفقا لعدد السكان.‏ وقد اظهر احصاء سنة ١٩٧٩ ان القرية الموزَمبيقية رقم ٧ كانت الاصغر،‏ بعدد من الناشرين يبلغ ١٢٢ وجماعتين فقط،‏ في حين ان القرية رقم ٩،‏ الاكبر والابعد،‏ كان فيها ٢٢٨‏,١ ناشرا و ٣٤ جماعة.‏ وكان في المخيم بكامله ١١ دائرة.‏ وصار هذا المخيم كله،‏ المؤلف من قرى ملاوية وموزَمبيقية ومناطق تابعة لها،‏ معروفا عند الاخوة بدائرة كاريكو.‏ وآخر احصاء لدينا في السجل هو احصاء سنة ١٩٨١،‏ حين كان عدد السكان في كل دائرة كاريكو ٥٢٩‏,٢٢،‏ الذين كان ٠٠٠‏,٩ منهم ناشرين نشاطى.‏ ولاحقا كان هنالك مزيد من النمو.‏ (‏اعلن سامورا ماشِل الذي كان آنذاك رئيسا ان عدد السكان كان ٠٠٠‏,٤٠،‏ بحسب كراسة كونسوليداموس اكيلو كي نوس اون [تقوية ما يوحِّدنا]،‏ الصفحتان ٣٨-‏٣٩.‏)‏

عهد شينڠو —‏ اوقات عسيرة

طبعا،‏ لم يؤخذ شهود يهوه الى ميلاندْجي ليصيروا مجرد مستعمرة زراعية.‏ ولم يكن عبثا ان الحكومة دعت المخيم مركز كاريكو لإعادة التعليم،‏ كما هو ظاهر من المركز الاداري في وسط المخيم الملاوي رقم ٤،‏ المزوَّد بمستخدَمين حكوميين،‏ مع مكاتب وأماكن للسكن.‏ وكان هنالك ايضا آمر المخيم،‏ جنوده،‏ وسجن احتُجز فيه عديدون من اخوتنا فترات متفاوتة،‏ بحسب قرارات الآمر.‏

والآمر الاردأ سمعة على الاطلاق كان شينڠو.‏ وصارت فترة تولِّيه مركز آمر التي دامت سنتين تُعرف بـ‍ عهد شينڠو.‏ وإذ كان مصمِّما على زعزعة موقف شهود يهوه العديم المسايرة و«اعادة تعليمهم،‏» لجأ الى كل وسيلة نفسية يعرفها،‏ وكذلك الى العنف،‏ لتحقيق غرضه.‏ ورغم انه لم يحصِّل فعليا اية ثقافة رسمية،‏ فقد كان متكلما طَلْق اللسان ومقنعا،‏ يميل الى استعمال الامثال.‏ وقد استعمل موهبته ليحاول تلقين الاخوة فلسفته السياسية ويضعف محبتهم للّٰه.‏ وكانت احدى خططه «حلقة دراسية لخمسة ايام.‏»‏

‏«حلقة دراسية لخمسة ايام»‏

اعلن الآمر انه جرى التخطيط لـ‍ «حلقة دراسية لخمسة ايام» وأن الشهود يجب ان يختاروا الرجال الاكثر اقتدارا في القرى،‏ الرجال القادرين على نقل معلومات ذات اهمية.‏ وكان هؤلاء سيُرسلون الى حلقة دراسية ستُعقد في منطقة بعيدة.‏ فرفض الاخوة،‏ لأنهم شكّوا في نواياه.‏ لكنَّ «المتمردين» الذين كانوا حاضرين دلّوا على الاخوة في مراكز المسؤولية،‏ بمن فيهم نظار الدوائر.‏ وبين هؤلاء كان فرانسيسكو زونڠوزا،‏ شَڤيير دِنڠو،‏ ولويش بيلا.‏ وغادرت شاحنة حاملة ٢١ رجلا و ٥ نساء.‏ وسافروا مئات الاميال الى الشمال،‏ الى منطقة شمالي ليشِنڠا،‏ في اقليم نياسا.‏ وهناك أُلقي الرجال في «معسكر اعادة التعليم» مع المجرمين،‏ في حين أُخذت النساء الى مخيم للعاهرات.‏

وهنا أُخضعوا للعذاب القاسي،‏ بما فيه ما دعاه معذِّبوهم «طراز المسيح.‏» فكانت يدا الضحية تُمدَّان الى الجانبين،‏ كما لو انه على صليب،‏ ثم كانت توضع خشبة توازي الذراعين.‏ وكان حبل من النيلون يُربط بإحكام حول الذراعين والخشبة على طول الذراعين كلتيهما،‏ من رؤوس اصابع اليد الواحدة الى رؤوس اصابع الاخرى.‏ وإذ تنقطع الدورة الدموية كاملا عن اليدين،‏ الذراعين،‏ والكتفين،‏ كان يجري ابقاء المرء في هذا الوضع لوقت لا بأس به في محاولة يائسة لينتزعوا منه الـ‍ «‏ڤيڤا فريليمو.‏‏» وبسبب هذه المعاملة الوحشية غير الانسانية،‏ عانى لويش بيلا،‏ شيخ امين،‏ نوبة قلبية ومات.‏

وأُخضعت الاخوات لمعالجة من «التمارين،‏» التي تتطلب منهن ان يركضن دون انقطاع تقريبا،‏ وأحيانا الى الماء ومنه؛‏ وأن «يتشقلبن» بلا انقطاع وهن يصعدن الجبل وينزلن منه؛‏ وأن يخضعن لإهانات اخرى لا تحصى.‏ فيا لها من حلقة دراسية!‏ ويا لها من «اعادة تعليم»!‏

وبالرغم من هذه المعاملة القاسية،‏ حافظ معظم هؤلاء الاخوة على استقامتهم،‏ واثنان فقط سايرا.‏ وقد تمكن احد الاخوة من ارسال رسالة الى وزير الداخلية في ماپوتو،‏ فاضحا هذه المعاملة.‏ وكان لذلك اثره.‏ فأتى حاكم نياسا شخصيا بالطائرة المروحية.‏ وجرَّد فورا الآمر وأعوانه من كل سلطة وأعلن:‏ «يمكن ان يعتبر هؤلاء انفسهم معتقَلين بسبب قيامهم بأعمال لم تكن الـ‍ فريليمو تنويها قط.‏» وعندما سمع ذلك السجناء الآخرون الذين عانوا معاملة مماثلة،‏ هتفوا فرحا:‏ «شكرا لكم،‏ لقد تحررنا،‏» فردَّ الاخوة بالقول:‏ «اشكروا يهوه.‏»‏

وبعد فترة نُقلوا الى مخيمات اخرى حيث كانت المعاملة تقتصر على العمل الاجباري فقط‍.‏ وجملة لم يكن إلا بعد سنتين تقريبا انهم عادوا الى كاريكو —‏ وكان شينڠو هناك لاستقبالهم.‏ واستمر في محاولات غير ناجحة لإضعاف ولائهم ليهوه بالقيام بـ‍ «حلقات دراسية» مماثلة.‏ وأخيرا،‏ عندما كان على وشك مغادرة كاريكو،‏ القى خطبة بأسلوبه الايضاحي المميَّز.‏ وإذ اعترف بالهزيمة قال:‏ «يسدِّد الشخص عدة ضربات الى الشجرة،‏ وعندما لا تبقى إلا ضربات قليلة لتقع،‏ يُستبدل بآخر،‏ وبضربة واحدة فقط‍،‏ يكمل العمل.‏ لقد سدَّدتُ ضربات عديدة لكنني فشلت في انهاء العمل.‏ سيأتي آخرون بعدي.‏ وسيستعملون وسائل اخرى.‏ فلا تستسلموا.‏ .‏ .‏ .‏ ابقوا ثابتين في موقفكم.‏ .‏ .‏ .‏ وإلا فسينالون المجد كله.‏» ولكنَّ الاخوة،‏ بإبقاء محبتهم ليهوه قوية،‏ سعوا الى التأكد ان ينال يهوه وحده المجد.‏ —‏ رؤيا ٤:‏١١‏.‏

الذين بقوا في المدن

وهل كان كل الشهود الموزَمبيقيين في السجن او في مخيمات الاحتجاز في هذا الوقت؟‏ على الرغم من ان اعداءهم فتَّشوا عنهم تفتيشا دقيقا في اماكن العمل وفعليا في كل منطقة مجاورة،‏ فقد افلت البعض.‏ فلم يكن الجميع تواقين الى ارسال الشهود الى السجن او الى معاقبتهم بطريقة اخرى.‏ لكنَّ الشهود كانوا دائما في خطر القبض عليهم.‏ وكانت النشاطات اليومية كشراء الاطعمة او جلب الماء من حنفية عامة مجازفة.‏

تتذكر ليزِت مايِندا،‏ التي بقيت في بيرا:‏ «مُنعت من اخذ بطاقة ضرورية لشراء الطعام لأنني لم اذهب الى الاجتماعات السياسية المطلوبة.‏ ومن المفرح ان صاحب مخزن وديّا كان يدعوني على انفراد ويبيعني كيلوڠرامات قليلة من الدقيق.‏» (‏قارنوا رؤيا ١٣:‏١٦،‏ ١٧‏.‏)‏ وطُرد الاخ مايِندا من وظيفته في ميناء بيرا ست مرات،‏ ولكن كل مرة كان مستخدِموه يعودون للبحث عنه لأن مؤهلاته المهنية كانت ذات قيمة كبيرة لشركته.‏

وعلى الرغم من ان الشهادة والاجتماع معا كانا مجازفة كبيرة،‏ لم يخمد الضوء الروحي في ايّ من المدن الرئيسية في البلد.‏ وقد انضم الى عائلة مايِندا في بيرا فريق من الاحداث في جوار إستورو كانوا شجعانا ومتعطشين الى الحق.‏ ومعا أبقوا النور مُضاء في عاصمة اقليم سوفالا.‏ وكانت غيرة الفريق في بيرا كبيرة جدا حتى انهم كانوا يعبرون الحدود رغم الخطر الى روديسيا (‏الآن زمبابوي)‏ للحصول على الطعام الروحي.‏

عمل مكتب الفرع في سولزبوري (‏الآن هَراراي)‏ بجرأة ودون كلل للاعتناء بكل الاخوة الذين كانوا مشتَّتين في المنطقة الشمالية.‏ وهكذا عندما وصلت الاخبار الى المكتب ان فريقا لا يزال يجتمع في تيتي،‏ ارسل الفرع اخَوين للاعتناء بحاجات هذا الفريق،‏ لأنهم كانوا مثل ابَفرودِتُس،‏ عامل رفيق مع الرسول بولس،‏ مشتاقين الى رؤية الاخوة.‏ (‏فيلبي ٢:‏٢٥-‏٣٠‏)‏ وكان احد هؤلاء الاخوة رِدسون زولو المحبوب كثيرا والمشهور في كل انحاء الشمال بخطاباته المحرِّكة بلغة التشيتشايوا.‏ وكان هو ورفيقه يخاطران كثيرا وهما ينتقلان بالدراجة عبر الدغل ليخدما اخوتهم الموزَمبيقيين المنعزلين.‏

وبشكل مماثل،‏ استمر نور الحق يسطع في اقليم نامپولا.‏ فقد بقي هناك فريق من غير المعتمدين،‏ وبطريقتهم الخاصة استمروا في عقد الاجتماعات.‏ في البداية كان عدد الحضور ٨،‏ لكنه سرعان ما ازداد الى ٥٠.‏ وعندما أُرسل اخ من كاريكو ليدخل المستشفى في نامپولا،‏ اتصل بأحد اعضاء هذا الفريق من غير المعتمدين،‏ الذي كان يعمل في المستشفى.‏ وكتب الاخ الى الجمعية،‏ فأشار عليه مكتب الفرع بأن يدرس مع الفريق ليُعِدَّ للمعمودية اولئك المستعدين لها.‏ فاعتمد خمسة.‏ وتلقَّوا مساعدة اضافية عندما فتح شاهد من النَّذَرلند كان في نامپولا بسبب عمل دنيوي بيتَه للاجتماعات.‏ وبمرور الوقت صار البعض من هذا الفريق مؤهَّلين لتحمل المسؤولية كشيوخ.‏

الراحة في السجن المركزي

في سنة ١٩٧٥ أُرسل فريق من السجناء بعد آخر الى الشمال من سجون ماپوتو،‏ فيما استمر آخرون في الوصول ليحلوا محلهم.‏ ثم نحو نهاية شباط ١٩٧٦ قرَّرت الحكومة ان توقف نقلها المتواصل للسجناء الشهود.‏

بعد اشهر قليلة زار الرئيس سامورا ماشِل السجن المركزي في ماپوتو.‏ فاغتنمت الاخت سِلِستي موتِمبا،‏ احدى السجينات،‏ الفرصة للشهادة للرئيس.‏ فأصغى بطريقة ودية،‏ ولكن بعد مغادرته وبَّخت سلطات السجن الاختَ بشدة.‏ ولكن بعد اسبوع اتى امر بإطلاق سراحها،‏ مع وثيقة تضمن حمايتها من المزيد من المضايقات لأسباب سياسية وحقها في العودة الى وظيفتها السابقة في المستشفى المركزي.‏ وعلاوة على ذلك،‏ أُعطي الترخيص لإطلاق سراح كل شهود يهوه من هذا السجن.‏

جرى تنظيم الذين في ماپوتو في جماعات.‏ وقبل مضي وقت طويل تشكَّلت ٢٤ جماعة في دائرة تمتد من ماپوتو في الشمال الشرقي الى اينيامبان.‏ وجرى تعيين فيدِلينو دِنڠو لزيارتها.‏ وبالاضافة الى ذلك،‏ عيَّن فرع جنوب افريقيا لجنة شيوخ للاعتناء بالحاجات الروحية لهذه الفرق.‏ وطوَّروا اساليب حذرة للكرازة غير الرسمية.‏ ورتَّبوا ان يحضر الاخوة المحافل في سْوازيلند المجاورة.‏ وفي موزَمبيق،‏ عندما كان البعض يعودون من كاريكو،‏ كان الاخوة يعقدون محافل خفية في شكل حفلات «ترحيب بالعائدين الى الموطن.‏»‏

وماذا عن كاريكو؟‏ ماذا كانت الترتيبات للنشاطات الروحية هناك؟‏

لجنة الـ‍ «O.‎N.‎» تشرف على المخيمات

كان الاخوة الملاويون،‏ تحت اشراف فرع زمبابوي،‏ قد شكَّلوا لجنة خاصة للاعتناء بالحاجات الروحية في المخيمات.‏ وعندما أُحضر الاخوة من جنوبي موزَمبيق الى كاريكو،‏ استفادوا هم ايضا من الترتيب الموجود هناك.‏ وأضيف الى اللجنة اخَوان من الجنوب،‏ فرناندو موتِمبا وفيليپ ماتولا.‏

وكانت لجنة الـ‍ O.‎N.‎ (‏اوفيسي يا انتشيتو:‏ مكتب الخدمة،‏ في تشيتشايوا)‏ تراسل الجمعية وتنظِّم المحافل الدائرية والكورية.‏ وكانوا يجمعون التقارير من المخيم كله ويجتمعون دوريا مع الشيوخ في القرى.‏ وكانوا ايضا يشرفون على العمل في الدوائر الـ‍ ١١.‏ وكانت مسؤوليتهم كبيرة،‏ وخصوصا بسبب العلاقة المحفوفة بالمخاطر بين الاخوة والسلطات الحكومية.‏

الكرازة والتلمذة في المخيمات

في تشرين الثاني ١٩٧٦ اعتمد عدد لا بأس به من المهتمين وتلاميذ الكتاب المقدس الذين رافقوا الاخوة الى ميلاندْجي في سنة ١٩٧٥.‏

وكثيرون ممن كانوا فاتحين قانونيين استمروا في الكرازة خلال سجنهم ونقلهم الى المخيمات.‏ ولكن لمَن كرزوا؟‏ في البداية كانوا يدرسون مع الذين لم يعتمدوا بعد،‏ بمَن فيهم اولاد الاخوة.‏ فالعائلة التي لها اولاد عديدون كانت تُعتبر «مقاطعة جيدة.‏» وكان الوالدون يدرسون مع بعض الاولاد،‏ وكان الآخرون يوزَّعون بين الناشرين العزاب.‏ وبهذه الطريقة ظل الجميع نشاطى في عمل التلمذة.‏

لكنَّ ذلك لم يكن كافيا في نظر الذين لديهم حقا روح التبشير.‏ ابتدأ فاتح غيور في البحث عن مقاطعة خارج المخيمات.‏ طبعا،‏ كانت لذلك مخاطره بسبب القيود التي فرضتها سلطات المخيمات.‏ وكان يدرك انه يجب ان يدبِّر حجَّة لمغادرة المخيمات.‏ فأيّ حجَّة كان يمكن ان يستعمل؟‏ اذ صلّى الى يهوه من اجل التوجيه،‏ قرَّر ان يبيع الملح ومواد غذائية اخرى للناس خارج المخيمات.‏ وكان يطلب سعرا مرتفعا جدا ليتجنب اية صفقة حقيقية،‏ فيما كان يخلق فرصة ملائمة لإعطاء الشهادة.‏ فصارت هذه الطريقة شائعة.‏ وبمرور الوقت،‏ كان بالامكان رؤية هؤلاء «البائعين» يعرضون منتوجاتهم خارج المخيمات.‏ وتغطية المقاطعة المتفرقة كانت تشمل السفر مسافات طويلة،‏ مغادرين عند الفجر وعائدين في الليل.‏ لقد كان هنالك القليل من المقاطعة للكثير من الشهود.‏ ولكن بهذه الطريقة تعلَّم الحق اشخاص عديدون يسكنون في المنطقة.‏

‏«مركز زامبيزيا للانتاج»‏

بسبب العمل الدؤوب لـ‍ «تلاميذ اعادة التعليم» المجتهدين هؤلاء والامطار المباركة التي تسقي المنطقة،‏ ازدهر الانتاج الزراعي.‏ وصار لدى الشهود في المخيمات محاصيل وافرة من الذرة،‏ الارزّ،‏ المنيهوت،‏ الدُّخن،‏ البطاطا الحلوة،‏ قصب السكر،‏ الفاصولياء،‏ والفاكهة المحلية مثل المافورا.‏ وكانت مخازن القمح في دائرة كاريكو تفيض.‏ وأغنت تربية الطيور والحيوانات الصغيرة مثل الدجاج،‏ البط،‏ الحمام،‏ الارانب،‏ والخنازير وجباتهم بالپروتين.‏ وصار الجوع الذي اختبروه في البداية شيئا من الماضي.‏ وبالتباين مع ذلك،‏ كان باقي القرية يعاني من اعظم نقص في الطعام في تاريخه.‏ —‏ قارنوا عاموس ٤:‏٧‏.‏

واعترافا بنجاح العملية الزراعية هذه،‏ ابتدأت الحكومة تدعو منطقة هذه المخيمات «مركز زامبيزيا للانتاج.‏» وبالمدخول الذي جمعه الاخوة من بيع الانتاج الفائض،‏ تمكَّنوا من الحصول على الملابس وحتى بعض اجهزة الراديو والدراجات.‏ ورغم انهم سجناء،‏ كانوا مجهَّزين جيدا بسبب اجتهادهم.‏ وقد اطاعوا بدقة كبيرة قوانين الحكومة لدفع الضرائب؛‏ وكانوا فعلا بين دافعي الضرائب الرئيسيين في المنطقة.‏ وانسجاما مع مقاييس الكتاب المقدس،‏ كان دفع الضرائب بأمانة،‏ حتى في هذه الظروف،‏ احد المتطلبات ليُعتبر الشخص اهلا لأيّ امتياز في الجماعة.‏ —‏ رومية ١٣:‏٧؛‏ ١ تيموثاوس ٣:‏١،‏ ٨،‏ ٩‏.‏

التبادل الثقافي

كان هنالك في كاريكو تبادل للمهارات والثقافة.‏ وتعلَّم عديدون مهارات جديدة مثل البناء بالآجرّ،‏ النجارة،‏ والنحت في الخشب.‏ ومعا طوَّروا قدرات في صناعة الادوات،‏ العمل في الحديد المسبوك،‏ صنع اثاث ذي نوعية جيدة،‏ وأمور اخرى.‏ وبالاضافة الى استفادتهم شخصيا من المهارات التي تعلَّموها او صقلوها،‏ زوَّد هذا العمل مصدرا آخر للمدخول.‏

وأكبر تحدٍّ في التبادل الثقافي كان يشمل اللغة.‏ فقد تعلَّم الموزَمبيقيون لغة تشيتشايوا التي يتكلمها الملاويون.‏ فصارت هذه اللغةَ الرئيسية التي يجري التكلم بها في المخيمات،‏ ومعظم المطبوعات المتوافرة كانت بلغة تشيتشايوا.‏ وببطء ولكن بشكل جيد،‏ تعلَّم الملاويون ايضا التسونڠا ولهجاتها،‏ التي يجري التكلم بها في جنوبي موزَمبيق.‏ وتعلَّم كثيرون ايضا الانكليزية والپرتغالية،‏ اللتين كان سيتبيَّن لاحقا انهما مفيدتان لهم في امتيازات خصوصية للخدمة.‏ يتذكر احد الشيوخ:‏ «يمكن ان تلتقوا اخا او اختا يتكلم لغتكم بطلاقة ولا تعرفوا ما اذا كان موزَمبيقيا او ملاويا.‏»‏

كيف دخل الطعام الروحي الى المخيمات؟‏

لقد اتى من زامبيا عن طريق ملاوي.‏ وبأية وسيلة؟‏ اجاب احد نظار الدوائر:‏ «يهوه وحده يعرف.‏» ففي المخيمات كانت لجنة الـ‍ O.‎N.‎ تعيِّن احداثا ملاويين،‏ وكثيرون منهم كانوا فاتحين،‏ ليعبروا الحدود على الدراجات،‏ وكانوا يلتقون في موقع معيَّن مسبقا اولئك الذين أُرسلوا ليسلِّموا المراسلات والمطبوعات.‏ وبهذه الطريقة كان يجري تزويد الجماعات بالطعام الروحي الجديد.‏

وبالاضافة الى ذلك،‏ كان اعضاء لجنة الـ‍ O.‎N.‎ يعبرون الحدود ويسافرون الى زامبيا او زمبابوي ليستفيدوا من الزيارات السنوية لنظار الاقاليم الذين ترسلهم الهيئة الحاكمة.‏ وبهذه الوسائل وغيرها حافظ الاخوة في كاريكو على روابط قوية بهيئة يهوه المنظورة وبقوا بذلك متَّحدين في عبادته.‏

كانت اجتماعات الجماعة تتطلب ترتيبات خصوصية.‏ ولأن الاخوة كانوا مراقَبين باستمرار،‏ كان العديد من الاجتماعات يُعقد عند الفجر او في وقت ابكر.‏ وكان الحضور يجتمعون خارجا،‏ وكأنهم يأكلون اطباق العصيدة في الفناء،‏ في حين كان الخطيب يقف داخل البيت.‏ وكانت بعض الاجتماعات تُعقد في مجرى الانهار او داخل فوهات براكين طبيعية.‏ لكنَّ الاستعدادات للمحافل كانت تشمل عملا اكثر بكثير.‏

المحافل —‏ كيف كانت تنظَّم

بعد ان تتلقى لجنة الـ‍ O.‎N.‎ كل مواد البرنامج من الجمعية،‏ كانت تنسحب الى القرية رقم ٩ عدة اسابيع.‏ وفي هذا المكان المنعزل نسبيا كانوا يعملون في الليالي على ضوء المصباح،‏ مترجمين رؤوس اقلام الخطابات،‏ مسجِّلين المسرحيات،‏ ومعيِّنين الخطباء.‏ وما كان نافعا خصوصا هو آلة النسخ اليدوية التي كانوا قد تسلَّموها من زمبابوي.‏ ولم يكن عملهم يتوقف إلا عند إكمال البرنامج بكامله لسلسلة من ستة محافل.‏

وبالاضافة الى ذلك،‏ كان يعيَّن فريق لإيجاد وتحضير المكان الملائم الذي سيكون موقع المحفل.‏ ويمكن ان يكون هذا الموقع على جانب احد الجبال او في الغابة،‏ ولكنه لم يكن يبعد اقل من ستة اميال (‏١٠ كلم)‏ عن المخيمات.‏ وكان يجب فعل كل شيء دون معرفة السلطات او «المتمردين.‏» وكانت تجري استعارة اجهزة راديو صغيرة قابلة للحمل،‏ وكان يركَّب بها جهاز صوت لحضور يبلغ عدده اكثر من ٠٠٠‏,٣.‏ وكان هنالك دائما جدول في الجوار حيث يمكن اعداد بركة معمودية ببناء سدّ.‏ وكان يُرتَّب مسبقا المسرح،‏ قاعة الحضور،‏ التنظيف،‏ الصيانة.‏ وأخيرا كان موقع المحفل يصير جاهزا —‏ في مكان مختلف كل سنة.‏

وجرى التوصل الى ترتيب يسمح للجميع في القرى ان يحضروا.‏ وقد نجح لأن الاخوة اظهروا روح تعاون رائعة.‏ ولم يكن باستطاعتهم ان يحضروا جميعا في الوقت نفسه؛‏ فالقرية المهجورة كانت ستلفت انتباه السلطات.‏ لذلك كان الجيران يتناوبون —‏ عائلة تحضر في احد الايام،‏ فيما تحضر العائلة الاخرى في اليوم التالي.‏ والعائلة التي تبقى كانت تتنقل في بيت الجيران؛‏ وهكذا لم يكن احد يلاحظ غياب العائلة.‏ وهل عنى ذلك ان البعض كانت تفوتهم اجزاء من المحفل؟‏ كلا،‏ لأن برنامج كل يوم كان يقدَّم مرتين.‏ وهكذا كان المحفل الكوري لثلاثة ايام يدوم ستة ايام؛‏ وكان المحفل الدائري ليومين يدوم اربعة ايام.‏

كانت مجموعة من الحجاب المتيقظين تزوِّد سلسلة من الاتصالات.‏ وكانت تمتد على طول الطريق من مركز المخيم الاداري الى موقع المحفل،‏ وكان هنالك حاجب كل ٦٠٠‏,١ قدم (‏٥٠٠ متر)‏.‏ وأية حركة مشكوك فيها يمكن ان تشكِّل تهديدا للمحفل كانت تجعل خط الاتصال هذا يعمل،‏ ناقلا الرسالة ٢٠ او ٢٥ ميلا (‏٣٠ او ٤٠ كلم)‏ في مجرد ٣٠ دقيقة.‏ وكان ذلك يسمح بوقت كافٍ لتتخذ ادارة المحفل قرارا.‏ وقد يعني ذلك انهاء المحفل والاختباء في الغابة.‏

يتذكر جوزيه بانا،‏ شيخ من بيرا:‏ «ذات مرة حذَّرنا شرطي قبل ليلة من المحفل انهم يعرفون عن محفلنا وأنهم سيقاطعونه.‏ فأُخذت المسألة الى الاخوة المسؤولين.‏ فهل كان يجب الغاء المحفل؟‏ صلّوا الى يهوه وقرَّروا ان ينتظروا حتى الصباح التالي.‏ وأتى الجواب —‏ فقد جعل مطر غزير عاصف خلال الليل نهرَ مُندوزي يفيض،‏ محوِّلا اياه الى بحر.‏ وبما ان الشرطة كانت في الجانب الآخر من النهر،‏ فقد حضر الجميع المحفل،‏ دون الحاجة ان يبقى احد في الخلف ودون الحاجة الى سلسلة اتصال بشرية.‏ وقد رنمنا ترانيم الملكوت قدر ما شئنا.‏»‏

الارتداد والقرية رقم ١٠

انشأ فريق يدعو نفسه «الممسوحون» حركة اثارت الكثير من المشاكل.‏ بدأ هذا الفريق بشكل رئيسي في القرى الملاوية،‏ وادَّعى ان «زمن الشيوخ» قد انتهى سنة ١٩٧٥ وأنهم بصفتهم «الممسوحين» يجب ان يكونوا مَن يأخذ القيادة.‏ وكانت المواد في كتاب الجمعية الحياة الابدية —‏ في حرية ابناء اللّٰه عونا كبيرا في مساعدة بعض الذين كانت لديهم شكوك على فهم ما يشمله المسح الحقيقي.‏ لكنَّ تأثير المرتدين انتشر،‏ وكثيرون ممَّن اصغوا اليهم ضلُّوا.‏ وكجزء من عقيدتهم،‏ قالوا انه ليس من الضروري ارسال التقارير الى الجمعية.‏ وكانوا يرمون هذه التقارير في الهواء بعد تقديم صلاة.‏

ويقدَّر انه فُصل نحو ٥٠٠ نتيجة تأثير الارتداد هذا.‏ وقرَّروا حسب رغبتهم وبسماح من السلطات ان يبنوا قريتهم الخاصة.‏ فصارت هذه القريةَ رقم ١٠.‏ ولاحقا كانت تعتني بقائد الحركة حاشية من الشابات،‏ وكثيرات منهن ولدنَ له اولادا.‏

استمر وجود القرية رقم ١٠ طوال الفترة الباقية للسكن في المخيمات.‏ وقد سبَّبوا الكثير من المصاعب للاخوة الامناء.‏ وبعض الذين تأثروا في البداية لينضموا الى الفريق تابوا لاحقا وعادوا الى هيئة يهوه.‏ وقد تشتَّت اخيرا مجتمع المرتدين عندما انتهى السكن في المخيمات.‏

‏«المخيم هو سجننا،‏ والبيوت هي زنزاناتنا»‏

حتى بداية سنة ١٩٨٣ كان للحياة في المخيمات مظهر شبه طبيعي.‏ لكنَّ اخوتنا لم ينسوا انهم سجناء.‏ صحيح ان البعض تدبَّروا وحدهم امر العودة الى مدنهم.‏ وكان آخرون يأتون للزيارة ويذهبون.‏ لكنَّ المجموعة ككل بقيت.‏ وكان من الطبيعي ان يتوقوا الى البيوت التي اتوا منها.‏ وقد تبادلوا الرسائل إما بالبريد او بواسطة بعض الاخوة الذين بجرأة زاروا المخيمات لرؤية اقربائهم وأصدقائهم القدامى —‏ رغم ان بعض هؤلاء الاخوة كان يُلقى القبض عليهم ويُسجنون.‏

كان شَڤيار دِنڠو يقول متأملا:‏ «انتم الملاويين لاجئون،‏ أما نحن فسجناء.‏ المخيم هو سجننا،‏ والبيوت هي زنزاناتنا.‏» لكنَّ حالة اخوتنا الملاويين كانت في الواقع مشابهة جدا.‏ ومهما بدت الحالة طبيعية في القرى،‏ فقد كانت على وشك ان تنتهي فجأة.‏

الغزو المسلَّح يجلب الذعر والموت

عند بداية سنة ١٩٨٣،‏ ابتدأ اعضاء المقاومة المسلَّحون بغزو منطقة كاريكو،‏ مجبرين آمر مركز الادارة على اللجوء الى عاصمة المقاطعة في ميلاندْجي،‏ على بعد ٢٠ ميلا (‏٣٠ كلم)‏.‏ ولفترة قصيرة نسبيا بدا وكأن الاخوة تمتعوا ببعض الراحة،‏ رغم انهم كانوا لا يزالون تحت مراقبة السلطات.‏

لكنَّ المأساة حلَّت في ٧ تشرين الاول ١٩٨٤ فيما كان يجري انهاء التحضيرات للمحفل الكوري.‏ فاقترب فريق مسلَّح من الشرق.‏ وفيما هم يشقُّون طريقهم عبر القرية رقم ٩،‏ خلَّفوا وراءهم آثار الذعر،‏ الدم،‏ والموت.‏ وبعد قتل الاخ موتولا في القرية الملاوية رقم ٧،‏ قتلوا الاخ اوڠوستو نوڤِلا في القرية الموزَمبيقية رقم ٤.‏ وفي القرية الموزَمبيقية رقم ٥،‏ نبَّه الاخ موتِمبا صوتُ اطلاق نار.‏ وعندما رأى جثة اخ على الارض،‏ صرخ الى يهوه طلبا للمساعدة.‏ وأحرق المسلَّحون البيوت ونهبوها.‏ وركض الرجال،‏ النساء،‏ والاولاد بصورة هوجاء في كل اتجاه،‏ طالبين الحماية دون امل.‏ وكان هذا الهجوم العنيف مجرد مقدمة لمزيد مما سيأتي.‏ وبعد عبور المخيمات،‏ اختار الفريق منطقة شمالي القرية رقم ١ لإقامة قاعدة عملياتهم.‏

وفي الايام التالية كانوا يقومون بغزوات يومية للمخيمات —‏ سالبين،‏ حارقين البيوت،‏ وقاتلين.‏ وفي احدى هذه المناسبات،‏ قتلوا ستة شهود ملاويين،‏ بمَن فيهم زوجة ناظر الدائرة فيدِلي اندالاما.‏

وأُخذ البعض سجناء الى قاعدة الفريق.‏ وأُخضع الشبَّان خصوصا لمحاولات التجنيد الاجباري في حركتهم العسكرية.‏ وهرب كثيرون من الشبَّان من القرى للاختباء في الـ‍ ماشامباس (‏الحقول التي زرعوها)‏،‏ وكان اعضاء العائلة يأخذون لهم الطعام الى هناك.‏ وجرى تجنيد الشابات كطبَّاخات،‏ لكنَّ الغزاة حاولوا بعدئذ ان يجبروهن على العمل ك‍ «عشيقات.‏» كانت هيلدا بانز احدى اللواتي قاومن ضغطا كهذا،‏ لذلك ضُربت بشدة حتى انها حُسبت ميتة.‏ ولكن من المفرح انها تعافت.‏

طلب الفريق المسلَّح من السكان ان يزوِّدوهم بالطعام ويحملوا معداتهم.‏ فرأى الاخوة ان هذا الطلب غير منسجم مع موقف حيادهم المسيحي ولذلك رفضوا.‏ فقوبل رفضهم بالغضب.‏ فالحياد وحقوق الانسان ليس لهما مكان في عالم منعزل حيث الضرب والاسلحة هي القانون الوحيد المعترف به.‏ وقد مات نحو ٣٠ اخا في فترة الاضطراب هذه.‏ وأحدهم كان البرتو شيسّانو،‏ الذي رفض ان يقدِّم ايّ دعم وحاول ان يشرح:‏ «انا لا اشترك في السياسة،‏ ولهذا السبب جُلبت الى هنا من ماپوتو.‏ لقد رفضت في الماضي،‏ ولن يكون الامر مختلفا الآن.‏» (‏قارنوا يوحنا ١٨:‏٣٦‏.‏)‏ كان ذلك اكثر مما يستطيع ان يتقبَّله المضطهِدون،‏ الذين جرُّوه بعنف.‏ وإذ كان الاخ شيسّانو متأكدا مما سيحدث،‏ ودَّع الاخوة بمظهر يدل على الايمان غير المتزعزع.‏ وكانت كلماته الاخيرة قبل ضربه بشدة وجرحه جرحا مميتا:‏ «الى اللقاء في العالم الجديد.‏» وحاول الاخوة في الفريق الطبي انقاذه،‏ ولكن دون جدوى.‏ حقا،‏ سيكون «اللقاء في العالم الجديد،‏» لأنه حتى التهديد بالموت لم يكن ليكسر استقامته.‏ —‏ اعمال ٢٤:‏١٥‏.‏

الانقاذ من اتون متَّقد

كان يجب فعل شيء لتخفيف الضغط الذي لا يُطاق.‏ فاجتمعت لجنة الـ‍ O.‎N.‎ بالشيوخ والخدام المساعدين لمناقشة كيفية محاورة حركة المقاومة.‏ لكنَّ اشخاصا من حركة المقاومة كانوا قد ارسلوا دعوة الى كل الذين في المنطقة ليأتوا الى قاعدتهم.‏ فقرَّر الشيوخ ان يذهبوا مع فريق لا بأس به من الشهود الذين تطوَّعوا ان يرافقوهم.‏ وأُعطيَت لأخَوين التعليمات ليتكلما بالنيابة عن كل القرى.‏ وإيزاك مارولي،‏ احد الناطقَين المعيَّنَين،‏ مرَّ ببيته ليُعلِم زوجته الشابة بذلك ويودِّعها.‏ وإذ تولاها الذعر مما قد يحدث،‏ حاولت ان تثنيه.‏ فعزَّاها وسأل:‏ «هل تعتقدين اننا نجونا حتى الآن بسبب مهارتنا؟‏ وهل تعتقدين اننا اهم من اخوتنا الآخرين؟‏» فأعربت عن موافقتها بصمت.‏ وصلَّيا معا ثم ودَّعها.‏

ولم يكن الشهود فقط هم الحاضرين في الاجتماع بل ايضا غير الشهود الذين كانوا مستعدين ان يدعموا الحركة المسلَّحة.‏ لكنَّ عدد الاخوة الذي بلغ نحو ٣٠٠ فاق عدد الآخرين.‏ ودار في الاجتماع نقاش حادّ،‏ وكان الناس يهتفون بشعارات سياسية وينشدون اناشيد عسكرية.‏ وجرى الاعلان:‏ «اليوم سنهتف ‹‏ڤيڤا رِنامو‏› [‏رِسيستِنسيا ناسيونال دي موسامبيكيه (‏المقاومة الوطنية في موزَمبيق)‏،‏ الحركة التي تحارب ضد حكومة الـ‍ فريليمو] الى ان تسقط الاوراق من هذه الاشجار.‏» ولم يُطِق الآمر،‏ الجنود،‏ والسكان غير الشهود صمت الاخوة.‏ وشرح مندوب سياسي كان يشرف على الاجتماع ايديولوجية حركته.‏ فأخبر عن تصميم القيادة العليا ان تقضي على القرى وتشتِّت الجميع ليعيشوا في الـ‍ ماشامباس.‏ ثم منح الفرصة للحاضرين ليعبِّروا عن انفسهم.‏ فشرح اخوتنا موفقهم الحيادي.‏ وتمنوا ان تُفهم اسباب عدم اشتراكهم في تزويد الطعام،‏ حمل المعدات،‏ وهلم جرا.‏ أما بالنسبة الى التشتُّت من القرى،‏ فقد سبق ان جرى اجبارهم على ذلك.‏

لم يُعجَب الآمر البتة بجواب الاخوة الجريء،‏ ولكن بفضل العناية الالهية كان المندوب اكثر تفهُّما.‏ فهدَّأ الآمر وأرسل الاخوة بسلام.‏ وهكذا خرجوا احياء مما وصفوه بأنه «اتون متَّقد.‏» (‏قارنوا دانيال ٣:‏٢٦،‏ ٢٧‏.‏)‏ ومع ذلك،‏ لم يُضمَن السلام.‏ فالحادثة الافظع كانت ستأتي بعد ايام قليلة.‏

مذبحة القرية رقم ٧

رغم ان الشمس كانت مشرقة،‏ فقد تحوَّل يوم الاحد في ١٤ تشرين الاول ١٩٨٤ الى يوم مظلم في كاريكو.‏ ففي وقت باكر من اليوم كان الاخوة قد عقدوا اجتماعهم الجماعي،‏ وعقب ذلك زار البعض القرى لجلب المؤن الباقية قبل العودة بسرعة الى بيوتهم الجديدة في الحقول.‏ ودون سابق انذار،‏ ترك فريق مسلَّح قاعدتهم واتَّجهوا نحو القرية الموزَمبيقية رقم ٧.‏ وألقوا القبض على اخ في ضواحي القرية رقم ٥ وسألوا:‏ «دلَّنا على طريق القرية رقم ٧؛‏ سوف ترون كيف تكون الحرب.‏» وعند الوصول الى القرية،‏ جمعوا كلَّ مَن صادف ان كان هناك.‏ وأجلسوهم في دائرة،‏ بترتيب ارقام قراهم.‏ ثم ابتدأ الاستجواب.‏

سألوا:‏ «مَن الذي ضرب وسرق الـ‍ موجيبا التابع لنا [رقيب او مُخبِر غير مسلَّح]؟‏» فأجاب الاخوة انهم لا يعرفون،‏ لأنهم كانوا غير عارفين بما كان الرجال يتكلمون عنه.‏ «اذا لم يتكلم احد،‏ فسنجعل من هذا الرجل الجالس في المقدمة عبرة.‏» وأطلقوا النار على اخ في جبهته من مسافة قريبة جدا.‏ فارتعد الجميع.‏ وأُعيد السؤال مرة بعد اخرى،‏ وكل مرة كانت ضحية جديدة تنتظر اطلاق النار عليها.‏ وأُجبرت النساء اللواتي كن يحملن اطفالهن على مشاهدة الاعدام البربري لازواجهن،‏ كما كانت الحال مع الاخت سالومينا،‏ التي شاهدت موت زوجها بِرناردينو.‏ وقُتلت النساء ايضا.‏ وكانت بين هؤلاء لايا بيلا،‏ زوجة لويش بيلا،‏ الذي كان قد مات من نوبة قلبية في المخيم قرب ليشِنڠا،‏ فصار اولادها الصغار ايتاما.‏ ولم يوفِّر الاعدام الصغار،‏ مثل فرناندو تيمبانيه،‏ الذي صلّى الى يهوه وحاول ان يشجِّع الآخرين،‏ حتى بعد اطلاق النار عليه.‏

بعد ان أُعدم بوحشية عشر ضحايا بهذه الطريقة،‏ نشأ خلاف بين منفِّذي الاعدام،‏ مما انهى الكابوس.‏ وبأمر منهم غادر الاخ نْڠوِنيا،‏ الذي كان سيصير الضحية الـ‍ ١١،‏ «كرسي الموت.‏» يروي:‏ «كنت قد صليت الى يهوه ليعتني بعائلتي الناجية،‏ لأن ايامي قد اتت الى نهايتها.‏ ثم وقفت وشعرت بشجاعة غريبة.‏ ولم يكن إلا في وقت لاحق انني شعرت بالصدمة العاطفية.‏»‏

بعدئذ أُجبر الناجون على حرق البيوت الباقية في القرى.‏ وقبل ان يغادر الرجال المسلَّحون قالوا محذِّرين:‏ «اتينا بأمر لقتل ٥٠ منكم،‏ ولكن يكفي هؤلاء.‏ ولا يجب ان يُدفنوا.‏ سنظل نراقبكم،‏ وإذا اختفت اية جثة،‏ فسيموت عشرة عوضا عن كل جثة مفقودة.‏» فيا له من امر غريب وبشع!‏

اجتاحت القرى موجة جديدة من الذعر عندما سُمع صوت طلقات نارية مدوية في المنطقة وانتشرت الاخبار بواسطة الذين تدبَّروا امر الفرار.‏ وبيأس هرب الاخوة الى الغابات والجبال.‏ ولم يُعلَم إلا لاحقا ان اسئلة الاتهام التي سبَّبت المذبحة اثارها شخص مفصول كان يريد ان ينضم الى حركة المقاومة.‏ وكان قد صار ايضا لصا.‏ وقد وجَّه هذه الاتهامات الباطلة ضد الاخوة في قريته في محاولة لكسب رضى المقاومة وثقتها.‏ ولاحقا عندما اكتشفت المقاومة انه جرى خدعها،‏ اعتقلت مخترع هذه الاكاذيب وقتلته بمنتهى الوحشية.‏

ابتداء التشتُّت

كانت دائرة كاريكو بكاملها مصابة بالحزن ومشوَّشة.‏ وحاول الشيوخ،‏ بعيون دامعة ايضا،‏ ان يعزُّوا العائلات النائحة على خسارة احبائها في المذبحة.‏ وكانت فكرة البقاء في المنطقة لا تُطاق.‏ لذلك ابتدأ التشتُّت الطبيعي.‏ ولجأت جماعات بكاملها الى اماكن بعيدة،‏ على مسافة تصل الى ٢٠ ميلا (‏٣٠ كلم)‏،‏ حيث كان بإمكانهم الشعور بالامان.‏ وقرَّر البعض ان يبقوا قرب الـ‍ ماشامباس.‏ وهكذا تضاعف عمل الشيوخ في لجنة الـ‍ O.‎N.‎.‏ فكان عليهم ان يمشوا اميالا عديدة ليتأكدوا من وحدة القطيع وأمنه الجسدي والروحي في كل الجماعات المتفرِّقة على نحو واسع.‏

وصلت اخبار هذه الحالة الحزينة الى فرع زمبابوي،‏ الذي رتَّب آنذاك ان يزور اعضاء من مكتب الفرع الاخوة ويشجِّعوهم.‏ واستشاروا ايضا الهيئة الحاكمة في بروكلين بشأن الحاجة الى الطعام،‏ اللباس،‏ والدواء في المخيمات في ميلاندْجي.‏ وباهتمام شديد بخير الاخوة،‏ اعطت الهيئة الحاكمة الارشاد لاستعمال الموارد المالية المتوافرة للاعتناء بحاجاتهم،‏ ممَّا يشمل اذا بدا ذلك ملائما التدبير لمغادرتهم منطقة ميلاندْجي والعودة الى موطنهم.‏ وبالفعل جرى استحسان هذا الاختيار.‏

نحو ابتداء سنة ١٩٨٥ غادر ميلاندْجي اعضاءُ لجنة الـ‍ O.‎N.‎،‏ كما كانوا يفعلون كل سنة،‏ ليجتمعوا بناظر الاقليم،‏ الذي ارسلته الهيئة الحاكمة.‏ وكان هناك دون ادامز من بروكلين.‏ وفي اجتماع شمل لجنتَي فرع زامبيا وزمبابوي،‏ ابدى اعضاء لجنة الـ‍ O.‎N.‎ قلقهم بشأن دائرة كاريكو.‏ فجرى نصحهم بأن يتأملوا في ما اذا كان من الحكمة البقاء في كاريكو.‏ ووُجِّه الانتباه الى المبدإ المذكور في الامثال ٢٢:‏٣‏:‏ «الذكي يبصر الشر فيتوارى.‏»‏ وعادوا الى المخيمات وهم يفكرون في ذلك.‏

المغادرة؟‏ كيف؟‏ وإلى اين؟‏

نُقلت المشورة فورا الى الجماعات.‏ فسارع البعض الى العمل بموجبها،‏ كما كانت الحال مع جْواو جوزيه،‏ اخ عازب شارك لاحقا في بناء تسهيلات فرعَي زامبيا وموزَمبيق.‏ فقد عبر الحدود الى ملاوي مع مجموعة من اشخاص آخرين ثم الى زامبيا دون اية مشاكل تُذكر.‏

لكنَّ الوضع لم يكن سهلا الى هذا الحد بالنسبة الى الآخرين.‏ فكان لعائلات عديدة اولاد صغار للاعتناء بهم.‏ وكان افراد حركة المقاومة يراقبون الطرق باستمرار،‏ وكان كل مَن يعبرها معرَّضا لأن يُهاجَم.‏ وشكَّلت الحدود مع ملاوي تحدِّيا آخر،‏ وخصوصا للاخوة الملاويين،‏ لأن شهود يهوه كانوا لا يزالون مكروهين ومُطاردين هناك.‏ لذلك نشأت الاسئلة المحيِّرة:‏ كيف كانوا سيغادرون؟‏ الى اين سيذهبون؟‏ بما انهم سكنوا كل هذه السنوات في الغابة ولم تكن بحوزتهم وثائق،‏ كيف كان بإمكانهم عبور الحدود؟‏ «نحن ايضا لا نعرف،‏» كان جواب اعضاء لجنة الـ‍ O.‎N.‎ في اجتماع مع كل الشيوخ متوتر جدا.‏ فشدَّدوا:‏ «هنالك امر واحد اكيد —‏ وهو اننا يجب ان نتفرَّق.‏» واستنتجوا:‏ «ليصلِّ كل واحد،‏ يرسم خطته،‏ ويعمل.‏» —‏ قارنوا ٢ أخبار الايام ٢٠:‏١٢‏.‏

في الاشهر التالية،‏ صار ذلك المحور الرئيسي للاجتماعات.‏ ودعم معظم الشيوخ فكرة المغادرة وشجَّعوا الاخوة على مواصلة العمل.‏ وقرَّر الآخرون البقاء.‏ وأخيرا ابتدأت هجرة متفرِّقة.‏ فالاخوة الملاويون الذين حاولوا ان يعودوا الى موطنهم أُوقفوا عند الحدود للاسباب المذكورة سابقا واضطروا الى الرجوع.‏ فأخمد ذلك حماس الذين كانوا قد قرَّروا ان يغادروا وقوَّى حجة الذين ايَّدوا البقاء.‏ و «الدعوة» الى «اجتماع مهم» آخر في القاعدة العسكرية كانت العامل المقرِّر بالنسبة الى الغالبية.‏

الهجرة الجماعية

في ١٣ ايلول ١٩٨٥،‏ قبل يومين فقط من الاجتماع المُعلَن،‏ اجتمع معا مرة اخرى الاعضاء الثلاثة الباقون من لجنة الـ‍ O.‎N.‎،‏ الاخ موتِمبا،‏ الاخ ماتولا،‏ والاخ شيكومو.‏ فبماذا يجب ان يوصوا الاخوة في ما يتعلق بـ‍ «الدعوة»؟‏ دام الاجتماع الليل كله.‏ وبعد الكثير من الصلاة والتأمل قرَّروا:‏ «يجب ان نهرب غدا ليلا.‏» وفورا،‏ نشروا اخبار القرار قدر الامكان وكذلك الاخبار عن وقت ومكان اللقاء.‏ ووصلت الجماعات التي وافقت ان تغادر.‏ وكان ذلك آخر عمل قامت به لجنة الـ‍ O.‎N.‎ في المخيمات.‏

شرع الاخوة في هجرة مبرمجة ابتداء من الساعة ٣٠:‏٨ مساء بعد تقديم صلاة.‏ وهجرتهم كانت سرًّا أُخفي جيدا عن الجنود و«المتمردين.‏» فكشْفهم كان سيعني كارثة.‏ وتحت جنح الظلام،‏ كانت لكل جماعة ١٥ دقيقة للمغادرة،‏ وخُصِّصت لكل عائلة دقيقتان.‏ وتسلَّل الطابور عبر الدغل،‏ دون ان يعلم احد ما سيجلبه الفجر عند حدود ملاوي،‏ هذا اذا تمكنوا من الوصول الى هناك.‏ وكان الرعاة الروحيون من لجنة الـ‍ O.‎N.‎ آخر مَن غادر،‏ عند الساعة ٠٠:‏١ فجرا.‏ —‏ اعمال ٢٠:‏٢٨‏.‏

بعد ان سار فيليپ ماتولا نحو ٢٥ ميلا (‏٤٠ كلم)‏،‏ انهكه التعب نتيجة بقائه دون نوم طيلة يومين.‏ فغلبه النعاس على جانب الطريق وهو ينتظر ان يمرَّ آخر المسنين.‏ ولا يمكننا إلا ان نتصور الفرح الذي شعر به عندما اتى ارنستو موشانڠا،‏ راكضا من مقدمة الصف،‏ بالاخبار السارة:‏ «جرى السماح للاخوة بدخول ملاوي!‏» فهتف ماتولا:‏ «هذا مثال يظهر كيف يفتح يهوه الطريق عندما يبدو انه ليس هنالك مخرج،‏ كما عند البحر الاحمر.‏» —‏ خروج ١٤:‏٢١،‏ ٢٢‏؛‏ انظروا مزمور ٣١:‏٢١-‏٢٤‏.‏

خلال الاشهر القليلة التالية،‏ اختبروا ما هو السكن في مخيمات اللاجئين في ملاوي وزامبيا،‏ وذلك قبل العودة الى موزَمبيق والرجوع الى مدنهم.‏ ولكن ماذا حصل للذين بقوا في منطقة كاريكو؟‏

الذين بقوا

لم يصل قرار لجنة الـ‍ O.‎N.‎ الى كل الجماعات الواسعة الانتشار قبل ابتداء الهجرة.‏ وبعض الافراد الذين سمعوا الاعلان قرَّروا ان يبقوا ويذهبوا الى الاجتماع في القاعدة العسكرية.‏ ولم تسمع جماعة ماشاكينيه وكذلك آخرون الاعلان ولكنهم كانوا قد قرَّروا الهرب.‏ وقبل الذهاب الى الاجتماع هيَّأ هؤلاء الاخوة عائلاتهم للهرب.‏ وأتى نحو ٥٠٠ اخ الى الاجتماع.‏ وكان موجزا ويصيب الهدف.‏ قال الآمر:‏ «قرَّر رؤساؤنا ان يأتي جميع الحاضرين هنا الى قاعدتنا الرئيسية في المنطقة.‏ ستكون رحلة طويلة.‏ وهناك ستقضون فترة قد تصل الى ثلاثة اشهر.‏» وعلى الفور ابتدأت الرحلة.‏

وإذ استفاد الاخوة من المراقبة غير الصارمة من جهة الجنود،‏ قرَّروا ان يهربوا خفية.‏ وانضموا الى عائلاتهم وهربوا بأية طريقة ممكنة نحو حدود ملاوي.‏ وابتدأ آخرون،‏ سواء كان تنفيذا لأوامر الحركة المسلَّحة او لعدم توفُّر الفرصة،‏ الرحلة نحو الجنوب الغربي الى القاعدة في مورومبالا،‏ ووصلوا الى هناك بعد عدة ايام.‏ وعندما وصلوا الى هناك،‏ أخضعوا للمزيد من الضغط ليدعموا الحركة.‏ وأدَّى رفضهم الى تعذيب شديد وضربات لا تُحصى مات خلالها اخ واحد على الاقل.‏ وبعد ثلاثة اشهر سُمح لهم اخيرا بالعودة الى بيوتهم.‏

واستمر كثيرون في السكن في منطقة كاريكو،‏ تحت سلطة حركة المقاومة كاملا.‏ وقد ظلُّوا معزولين عن باقي هيئة يهوه طوال السنوات السبع التالية.‏ وكانوا فريقا ضخما مؤلَّفا من نحو ٤٠ جماعة.‏ فهل ظلُّوا اقوياء روحيا؟‏ وهل تكون محبتهم للّٰه قوية كفاية لتحفظهم من الاستسلام لليأس؟‏ سنعود للتكلم عنهم لاحقا.‏

مخيمات اللاجئين في ملاوي وزامبيا

لم يُسمح لكل الذين هربوا من كاريكو بأن يدخلوا ملاوي على الفور.‏ فبعد ان عبرت جماعة ماشاكينيه الحدود اكتشفتها الشرطة الملاوية وهي تستريح وأُمرت بالعودة.‏ فناشد الاخوة الشرطة وشرحوا انهم هاربون من الحرب في المنطقة حيث يسكنون.‏ ولم تكن الشرطة متعاطفة.‏ وكما يبدو دون ايّ خيار وبيأس صرخ احدهم:‏ «ايها الاخوة،‏ هلمَّ نبكي!‏» وهذا ما فعلوه بالضبط،‏ وكان ذلك بصوت عالٍ جدا بحيث لفت انتباه الذين في الجوار.‏ وإذ شعرت الشرطة بالاحراج التمست منهم ان يتوقفوا.‏ وتوسلت احدى الاخوات:‏ «دعونا على الاقل نعدّ بعض الطعام للأولاد.‏» فأذعن رجال الشرطة لطلبها،‏ قائلين انهم سيعودون.‏ ومن المفرح انهم لم يعودوا قط.‏ ولاحقا اتى شخص في مركز سلطة لمساعدة الشهود،‏ جالبا الطعام ومرشدا اياهم الى مخيم اللاجئين حيث كان باقي الاخوة.‏

كان شهود يهوه الموزَمبيقيون يملأون مخيمات اللاجئين في ملاوي.‏ وسمحت لهم حكومة ملاوي بالدخول كلاجئي حرب.‏ وزوَّد الصليب الاحمر الدولي المساعدة،‏ جالبا المؤن لتخفيف المشقة والصعوبات التي سبَّبتها الاحوال القاسية في مخيمات اللاجئين في الهواء الطلق.‏ وذهب البعض الى زامبيا،‏ حيث جرى ارشادهم الى مخيمات اخرى للّاجئين.‏ وعمل الآن فيليپ ماتولا وفرناندو موتِمبا مع اعضاء من لجنة القرى الملاوية،‏ باحثين عن الاخوة الموزَمبيقيين في هذه المخيمات لتزويدهم بالتعزية الروحية والمساعدة المادية التي اجازتها الهيئة الحاكمة.‏

وفي ١٢ كانون الثاني ١٩٨٦ زوَّد أ.‏ د.‏ شرودر،‏ عضو في الهيئة الحاكمة،‏ التشجيع الروحي بالاضافة الى تعابير المحبة الحارة من الهيئة الحاكمة لهؤلاء الاخوة.‏ ورغم انه لم يستطع ان يدخل الى المخيمات،‏ فقد القى محاضرة في زامبيا تُرجمت بلغة تشيتشايوا،‏ سُجِّلت،‏ ثم أُخذت الى المخيمات حيث كان الاخوة الموزَمبيقيون.‏

وتدريجيا جرت مساعدة هؤلاء اللاجئين على الوصول الى محطتهم التالية —‏ في موزَمبيق.‏ وبالنسبة الى كثيرين كانت هذه المحطة مْواتيزيه،‏ في اقليم تيتي.‏ نعم،‏ كان هنالك تغيير في موقف الحكومة من شهود يهوه في موزَمبيق،‏ رغم انه لم يكن جميع الرسميين الحكوميين يظهرون ذلك.‏

العودة الى موزَمبيق

ببطء،‏ ابتدأ فريق بعد آخر يغمر المناطق الواقعة شرقي مدينة تيتي.‏ ومقطورات القطارات المهجورة،‏ التي كانت تُستعمل كمراحيض عامة،‏ استُعملت كبيوت لهم.‏ وبعد تنظيفها استُعمل الكثير منها كأماكن للاجتماع من اجل ذكرى موت المسيح التي عُقدت في ٢٤ آذار ١٩٨٦.‏

والاخوة من كل انحاء موزَمبيق انتظروا هناك اشهرا دون ان يعرفوا كيف كانوا سيُنقَلون الى موطنهم.‏ وقد ساهم هذا الانتظار في المحنة.‏ وحاولوا ان يبتكروا ايّ نوع من الاستخدام ليساعدهم على دعم انفسهم او توفير بعض المال لشراء بطاقة سفر،‏ ولكن دون جدوى.‏ وبسبب الحرب،‏ لم يكن السفر برًّا ممكنا.‏ ولم تعاملهم دائما بلطف السلطات المحلية،‏ التي ظلت تجبرهم على تكرار الشعارات السياسية.‏ وأجاب الاخوة عن ذلك بجرأة:‏ «لقد أُخذنا الى كاريكو من اجل هذه القضية.‏ وهناك اتممنا مدَّتنا وصرنا تحت رحمة المهاجمين المسلَّحين.‏ وهربنا بطريقتنا الخاصة.‏ فماذا تريدون منا بعد؟‏» وعند هذه الاجابة كانوا يُتركون وشأنهم.‏ لكنَّ مضايقة الاحداث وسجنهم استمرَّا في محاولة لتجنيدهم في جيش الحكومة من اجل مكافحة العصيان المسلَّح المستمر في المنطقة.‏ واستخدم الاخوة الاحداث ابرع الوسائل الممكنة للفرار والاختباء.‏

قرَّرت اللجنة في ملاوي ان يذهب فرناندو موتِمبا الى تيتي من اجل تزويد العون للاخوة هناك.‏ وعندما وصل الاخ موتِمبا الى مْواتيزيه،‏ قرَّرت السلطات ان تفتِّش حقائبه.‏ وفي الوقت المناسب،‏ تمكَّن الاخوة من انقاذ المطبوعات التي في حوزته.‏ لذلك عندما بحثت الشرطة في حقائبه،‏ ماذا وجدوا؟‏ يقول،‏ «بعض الخِرَق فقط.‏» فسألت الشرطة الخائبة:‏ «هل هذا كل شيء؟‏» نعم،‏ كان ذلك كل شيء.‏ كان ذلك كل امتعة رجل حمل مسؤولية كبيرة في المخيمات.‏ وكما كانت حال الجميع،‏ عاد مجرَّدا من كل ما يملك.‏ وفي الواقع،‏ لم يكن مظهر الاخوة الجسدي في ذلك الوقت مرتَّبا على الاطلاق —‏ كانوا وسخين،‏ لابسين خِرَقا،‏ جائعين،‏ ومن الواضح انه اسيئت معاملتهم.‏ وقد لاءمهم كثيرا الوصف الموحى به لكثيرين من خدام اللّٰه في الماضي:‏ «طافوا في جلود غنم وجلود معزى معتازين .‏ .‏ .‏ مُذَلين.‏ وهم لم يكن العالم مستحقا لهم.‏ تائهين في براري .‏ .‏ .‏ ومغاير وشقوق الارض.‏» —‏ عبرانيين ١١:‏٣٧،‏ ٣٨‏.‏

اخيرا،‏ النقل الى ماپوتو

في ماپوتو شرعت لجنة عيَّنتها الجمعية في الاتصال بمختلف الوكالات الحكومية وغير الحكومية،‏ محاولة ان تجد وسيلة نقل للاخوة في تيتي وفي زامبيا.‏ وكم كان ايزاك مالاتيه وفرانسيسكو زونڠوزا فرحَين عندما ذهبا الى لجنة الامم المتحدة لشؤون اللاجئين وجرى اعلامهما:‏ «سُمح حتى الآن بأكثر من ٥٠ رحلة لإعادة شهود يهوه»!‏ وكانوا شاكرين على سماح الحكومة بذلك.‏

وإذ لم يعلم الاخوة في تيتي الذين كانوا في مخيمات قرب المطار بهذا الترتيب،‏ كانوا يذهبون كل يوم الى المطار على امل ان تنقل طائرة شحن عددا منهم على الاقل.‏ وإذ تثيره المشاعر،‏ يتحدث فرناندو موتِمبا عن ١٦ ايار ١٩٨٧:‏ «كانت الساعة ٣٠:‏٧ صباحا.‏ عندما نظرت الى المطار،‏ رأيت طائرتَي بوينڠ كبيرتين كانتا ستبدأان برحلات هي بمثابة ‹جسر جوِّي› لإجلاء كل شهود يهوه الى ماپوتو.‏» فيا له من توقُّع مثير!‏ العودة الى مدنهم —‏ بعد ١٢ سنة!‏

ولكن من المؤسف ان مظهرهم لم يكن لائقا.‏ فقد استعار إميديو ماتيه،‏ شيخ في جماعة ماشاكينيه،‏ سروالا من شخص كان لديه اكثر من سروال ليصل الى ماپوتو بلباس مرتَّب.‏ والاخوة الذين ينتظرون وصولهم الى ماپوتو اخذوا ايضا ثيابا الى الطائرات لكي يتمكن اللاجئون من النزول بشيء من الكرامة.‏ وهل كانوا خجلين؟‏ يجيب إميديو:‏ «كلا،‏ فعلى الرغم من اننا جُرِّدنا ماديا،‏ كان لدينا الرجاء ان يهوه سيستخدمنا ذات يوم في ترفيع اسمه.‏ ولم نكن مهتمين بالامور المادية؛‏ ولم نشعر بالخجل.‏ وكنا نمشي لابسين الخِرَق،‏ لكنَّ ايماننا بيهوه لم يتزعزع.‏» وتبرع الاخوة في جنوب افريقيا وزمبابوي بسرور بأطنان الطعام واللباس لإخوتهم الموزَمبيقيين العائدين.‏

وزوَّدت الحكومة المزيد من وسائل النقل للشهود العائدين الى اقاليم اخرى.‏ وكانت ستنشأ مشاكل بعدُ للعائدين الى اقليم سوفالا،‏ الى المنطقة المعروفة برواق بيرا (‏بسبب الحماية التي زوَّدها جنود زمبابوي)‏.‏ وجرى اعتقال ثمانية عشر منهم،‏ بمَن فيهم شيخ،‏ وأخذهم الى قاعدة لحركة المقاومة.‏

‏‹يهوه عظيم،‏ يهوه عظيم!‏›‏

بعدما استجوبهم آمر القاعدة وأدرك انهم من شهود يهوه،‏ استدعى رجل دين مسؤولا عن كنيسة في المنطقة الواقعة تحت سيطرة حركة المقاومة.‏ وقال لهذا الرجل:‏ «هؤلاء هم شهود يهوه،‏ والآن سيصلّون معك.‏ فعاملهم جيدا.‏» ولدهشة الاخوة،‏ هزَّ هذا القسيس (‏الذي كان قد حصل منذ فترة على بعض مطبوعات برج المراقبة وهو في زمبابوي)‏ رأسه متعجبا وهتف:‏ «يهوه عظيم .‏ .‏ .‏ يهوه عظيم!‏» وتابع:‏ «لقد صلينا الى يهوه ليرسل الينا على الاقل شخصا واحدا ليعلِّمنا.‏»‏

وفي اليوم التالي جمع كنيسته المؤلفة من ٦٢ عضوا وطلب من الشيخ ان يتحدث اليهم.‏ فابتدأ الاخ بالقول ان كل تماثيلهم يجب ان تُنزع.‏ (‏تثنية ٧:‏٢٥؛‏ ١ يوحنا ٥:‏٢١‏)‏ فأطاعوا فورا.‏ وأظهر ايضا ان يهوه لا يقبل ولا يجيز طرد الابالسة بواسطة خدامه اليوم وأن قرع الطبول الشعائري ليس جزءا من العبادة الحقة كما هي مدوَّنة في الكتاب المقدس.‏ (‏متى ٧:‏٢٢،‏ ٢٣؛‏ ١ كورنثوس ١٣:‏٨-‏١٣‏)‏ وفي الختام،‏ وقف قائد الفريق وقال:‏ «من اليوم فصاعدا عائلتي وأنا من شهود يهوه.‏» وعبَّرت المجموعة كلها باستثناء زوجين عن الرغبة عينها.‏

خلال الاشهر الاربعة التي بقي فيها الاخوة هناك،‏ كانوا يعقدون الاجتماعات قانونيا.‏ وعندما حان وقت مغادرتهم،‏ اخذوا معهم عددا كبيرا من هذا الفريق،‏ الذي كان كثيرون منه سابقا اعضاء نشاطى في الاحزاب المتحاربة.‏

انضم كثيرون الى شعب يهوه خلال هذه الفترة،‏ لأن الاخوة لم يتوقفوا قط عن الكرازة ببشارة ملكوت اللّٰه والتلمذة على الرغم من احوالهم المعيشية الصعبة.‏ —‏ متى ٢٤:‏١٤؛‏ ٢٨:‏١٩،‏ ٢٠‏.‏

العودة الى الحياة في المدن

كان الاخوة شاكرين على عودتهم الى المدن.‏ ولكن دون وثائق،‏ اماكن للسكن،‏ او عمل دنيوي،‏ ظلت حياتهم شاقة.‏ وكانت تلك مرحلة جديدة في حياة التحديات التي عاشوها.‏ والامة نفسها كانت تعاني الاضطرابات،‏ وكانت تبتليها الحرب الاهلية،‏ الجوع،‏ الجفاف،‏ والبطالة.‏ فهل يستطيع شعب يهوه ان يعالج هذه الشدائد بنجاح؟‏

هبَّت الحكومة لمساعدتهم،‏ فأنشأت ادارة اعادة التوحيد الاجتماعية.‏ وأُعيد شهود كثيرون الى استخدامهم السابق،‏ محتلِّين مراكز مهمة في الشركات في القطاعَين العام والخاص.‏ وصار آخرون مقاولين.‏

وتمكن كثيرون من العودة الى مكان اقامتهم السابق،‏ اذ كان الاقرباء لا يزالون يقيمون فيه.‏ ولكن لم يكن الوضع سهلا بالنسبة الى آخرين.‏ فكان الغرباء او الاقرباء غير الوديين قد اخذوا بيوتهم او كانت الدولة قد امَّمتها.‏ فاختار الشهود العائدون ألّا يسبِّبوا ايّ اضطراب،‏ مظهرين الوداعة خلافا لما كانت الدولة تخشاه.‏ وفتح الشهود الذين لم يُرسَلوا الى المخيمات بيوتهم لاستقبال اخوتهم المشرَّدين.‏ وتدريجيا وجدوا او بنوا اماكن ليستقروا فيها.‏ وببركة يهوه على اجتهادهم،‏ لدى كثيرين اليوم بيت حسن،‏ لدهشة الذين شاهدوا حالتهم المثيرة للشفقة عند عودتهم.‏ والجدير بالذكر انه في خضم الفقر المدقع لم يحتَج واحد من شهود يهوه ان يلجأ الى التسوُّل.‏ وبعد عدة سنوات،‏ عندما أُتيح للناس امتلاك بيتهم الخاص بشرائه من الدولة،‏ كان اول من فعل ذلك في البلد كله واحدا من شهود يهوه كان في كاريكو.‏ ومستودع المطبوعات العامل حاليا في ماپوتو هو في هذا الموقع.‏

لكنَّ اهتمام الاخوة الرئيسي لم يكن امتلاك بيت او ايّ ربح مادي آخر.‏ فكان الامر الاهم ايجاد اماكن لعقد الاجتماعات من اجل العبادة.‏ أولم يكن هذا هو السبب الرئيسي الذي من اجله اعادهم يهوه بأمان الى موطنهم؟‏ كان ذلك بالتأكيد ما آمن به الاخوة بثبات.‏ (‏قارنوا حجي ١:‏٨‏.‏)‏ وفورا اقاموا قاعات ملكوت مؤقتة من كل الانواع —‏ في الفناء الخلفي،‏ في غرف الجلوس والمطابخ،‏ في اكواخ مصنوعة من الصفيح والقش،‏ وأحيانا ‏—‏ في حالات الرفاهية —‏ كانوا يجتمعون في غرف مدارس استأجروها او قاعات مستشفيات.‏ ومعظم الجماعات الـ‍ ٤٣٨ في موزَمبيق تجتمع الآن ايضا في قاعات الملكوت المؤقتة هذه.‏ والاستثناءات نادرة.‏ وأحد هذه الاستثناءات هو في بيرا حيث تغلَّب الاخوة على عقبات عديدة،‏ بمساعدة فرع زمبابوي وفريق البناء الشجاع التابع لهم،‏ ودشَّنوا اخيرا في ١٩ شباط ١٩٩٤ اول قاعتَي ملكوت من القرميد في موزَمبيق.‏

اللجان الخصوصية —‏ الاعتراف الشرعي

للاعتناء بحاجات الاخوة المادية والروحية وهم يعيدون تنظيم حياتهم،‏ عيَّنت الهيئة الحاكمة لجانا خصوصية في تيتي،‏ بيرا،‏ وماپوتو يشرف عليها فرعا زمبابوي وجنوب افريقيا.‏ وفي ظل هذا الترتيب صار بالإمكان ان تنال الجماعات انتباها اكبر.‏ ولتزويد مطبوعات الكتاب المقدس اللازمة جدا،‏ أُقيمت مستودعات في هذه المدن.‏ وخدمت هذه ايضا كمراكز توزيع لمؤن الاغاثة من الطعام واللباس.‏ وجرى تنظيم المحافل،‏ رغم انه كان هنالك بعض العقبات التي لزم تخطيها قبل ان تُعقد هذه المحافل علنا.‏

ثم في ١١ شباط ١٩٩١ تردَّد صدى اخبار مثيرة في كل انحاء البلد،‏ لبهجة شعب يهوه حول العالم.‏ فقد منحت حكومة موزَمبيق الاعتراف الشرعي لـ‍ اسوسياساو داس تِستِمونياس دي جِيوڤا دي موسامبيكيه (‏جمعية شهود يهوه في موزَمبيق)‏.‏ وكان فرناندو موتِمبا،‏ الذي ساعد بولاء على الاعتناء بالاخوة في كاريكو،‏ سيخدم بصفته رئيسها الاول.‏ وكان شعب يهوه في موزَمبيق مبتهجين ايضا بوجود اول مرسلين مدرَّبين في جلعاد بينهم.‏ وكان هؤلاء في بيوت المرسلين في ماپوتو وفي بيرا.‏ وكان يجري اعداد بيت آخر ايضا في تيتي لاستيعاب مرسلين آخرين كانوا سيصلون قريبا.‏

المرسلون يجلبون الفرح لإخوتهم

انفتح حقل ارسالي حقيقي في موزَمبيق.‏ وإذ كان المتخرجون من جلعاد والفاتحون الخصوصيون ذوو الخبرة،‏ الذين كانوا يخدمون في حقول اخرى،‏ مضحِّين بالذات وراغبين في الاشتراك في اعادة البناء وعمل الحصاد الروحيَّين،‏ قبلوا بتوق الدعوة الى الخدمة هنا.‏ وأتوا من القارات الخمس،‏ وكان كثيرون منهم من بلدان ناطقة باللغة الپرتغالية مثل البرازيل والپرتغال.‏ ولم يكن تعيينهم الجديد دون تحديات،‏ لأنه في سنتَي ١٩٩٠ و ١٩٩١ كان البلد يبتدئ بالتعافي من الورطة الاقتصادية التي سبَّبتها الحرب والجفاف.‏ يتذكر هانس يِسپرسِن،‏ وهو مرسل دنماركي كان قد خدم في البرازيل ويخدم حاليا كناظر كورة:‏ «لم يكن هنالك شيء تقريبا في المحلات،‏ وكانت علامات الحرب وعواقبها واضحة جدا.‏» لكنَّ التعافي الاقتصادي المستمر كان واضحا.‏ ومع ذلك،‏ لا يزال كثيرون من اخوتنا في المناطق الشمالية والريفية يعيشون في ظروف صعبة جدا.‏

واجه المرسلون امورا كثيرة جديدة بالنسبة اليهم.‏ مثلا،‏ قبل توقيع معاهدة سلام بين حكومة الـ‍ فريليمو والـ‍ رِنامو،‏ كانت تعيينات المرسلين تتطلب احيانا ان يتنقلوا في كولوناس (‏قوافل طويلة من السيارات ترافقها قوات الحكومة المسلَّحة)‏،‏ وكانت هذه تتعرض احيانا للهجوم.‏ لكنَّهم اختبروا فرحا عظيما في التعرُّف بإخوتهم؛‏ وبالنسبة الى كثيرين من هؤلاء الاخوة كان الالتقاء بالشهود من عروق وقوميات اخرى بمثابة حلم يتحقق.‏

في منطقة نائية من الشمال،‏ سار ولد يوما بكامله مع ابيه لرؤية مرسل من اوستراليا.‏ وعندما رأى الاب تعابير التعجب على وجه الولد قال:‏ «ألم اقُل لك ان لنا اخوة بيضا؟‏» وكان كثيرون يعبِّرون عن ابتهاجهم عند تحية المرسلين،‏ قائلين:‏ «لم نكن نعرف عنكم إلا من الاختبارات في الكتاب السنوي.‏»‏ وقال شهود موزَمبيقيون كانوا لا يزالون في مخيمات اللاجئين في زامبيا سنة ١٩٩٣:‏ «عندما سمعنا في زامبيا ان هنالك بيتا للمرسلين في تيتي،‏ بذلنا اقصى جهدنا للعودة لكي نرى ذلك بأم العين ولكي نستمر في خدمتنا هنا،‏ بعد ١٨ سنة من اخذنا الى كاريكو.‏»‏

ان الهدف الرئيسي لهؤلاء المرسلين في موزَمبيق هو الكرازة ببشارة ملكوت اللّٰه.‏ وقد جلب ذلك السرور.‏ يتذكر المرسلون الاوائل في ماپوتو وبيرا:‏ «كان الجوع الروحي شديدا جدا بحيث كانت تُوزَّع كميات هائلة من المطبوعات يوميا.‏» ومطبوعات الجمعية بأربعة الوان هي فريدة في هذا البلد وتلفت كثيرا انتباه العامة.‏ وغالبا ما تُستعمل بيوت المرسلين كقواعد مركزية تُعقد فيها دروس الكتاب المقدس،‏ لأن كثيرين من التلاميذ يبدو انهم يفضِّلون ذلك.‏

هنالك حاليا ستة بيوت للمرسلين في كل انحاء البلد،‏ و ٥٠ مرسلا يخدمون في تعيينات مختلفة.‏ ويسافر بعض المرسلين كل شهر في طرقات عيَّنها الفرع لجمع التقارير وتسليم المراسلات،‏ المجلات،‏ والمطبوعات.‏ ويشمل احد هذه الطرقات الموقع السابق لدائرة كاريكو في ميلاندْجي.‏

وماذا حصل للشهود الذين بقوا في هذه المنطقة وصاروا منعزلين عن باقي اخوتهم؟‏

دائرة كاريكو تنفتح

في ٤ تشرين الاول ١٩٩٢ جرى توقيع معاهدة السلام العامة بين الـ‍ فريليمو والـ‍ رِنامو في روما،‏ مما انهى رسميا الحرب الاهلية في موزَمبيق التي دامت ١٦ سنة.‏ وهذا الحدث الذي احتُفل به على نحو واسع مكَّن من ازالة الستار الذي كان يغلق على منطقة دائرة كاريكو السابقة.‏ وماذا جرى اكتشافه؟‏ اكثر من ٥٠ جماعة لشهود يهوه تخرج من عزلة دامت سبع سنوات.‏ فكيف ظلوا اقوياء روحيا خلال هذه العزلة الشديدة؟‏

في شباط ١٩٩٤ جرت مقابلة في ميلاندْجي مع ٤٠ من الاخوة المسؤولين.‏ وكان هنالك ايضا بين الحضور الف شخص آخر ساروا اكثر من ٢٠ ميلا (‏٣٠ كلم)‏ لمجرد رؤية المرسلين.‏ روى الشيوخ الذين كانوا قد بقوا بعد الهجرة:‏ «بعد ضرب كثيرين منا في القاعدة العسكرية،‏ سُمح لنا بالعودة الى السكن في الـ‍ ماشامباس التابعة للقرى التي لم تعد موجودة.‏ وبمرور الوقت سمحت لنا الـ‍ رِنامو ببناء قاعات ملكوت وعقد اجتماعاتنا.‏ ووعدوا —‏ ووفوا بوعدهم —‏ انه لن تجري مضايقتنا ونحن في قاعاتنا او في طريقنا الى العبادة.‏ لكنهم قالوا انهم ليسوا مسؤولين عمَّا يحصل اذا كان احد في يوم الاجتماع موجودا في البيت او حتى خارج قاعة الملكوت.‏» وماذا عن الكرازة؟‏ كان جوابهم مؤثرا:‏ «دون لباس ومجرَّدين من كل شيء،‏ كنا نعيش كالحيوانات،‏ لكننا لم ننسَ اننا من شهود يهوه وأن لدينا التزام الكرازة بالملكوت.‏» فيا له من تعبير بليغ عن التقدير والمحبة للّٰه!‏

سنة ١٩٩٣ شهد ناظر الكورة وزوجته حادثة فريدة في محفل دائري عُقد في ميلاندْجي،‏ حادثة اكَّدت ان هؤلاء الاخوة استمروا فعلا في التلمذة.‏ فعندما طلب الخطيب الذي كان يلقي خطاب المعمودية من المرشحين ان يقفوا،‏ وقف ٥٠٥ من الحضور البالغ عدده ٠٢٣‏,٢ ليقدِّموا انفسهم للمعمودية!‏ ولكن هنالك المزيد.‏

‏«شاول» كاريكو

صار شاول الطرسوسي،‏ مضطهد حماسي لأتباع يسوع المسيح في القرن الاول الميلادي،‏ خادما غيورا ليهوه.‏ وكان لكاريكو ايضا «شاول» خاص بها.‏ انه رجل بهيّ الطلعة وديع المظهر،‏ وهو الآن خادم مساعد وفاتح قانوني.‏ ويبدو انه ليس هنالك ما يميِّزه من زملائه في العمل اذ يبذلون قصارى جهدهم في العمل الجسدي لكسب رزقهم.‏ ولكن أصغوا اليه اذ يتوقف عن عمله ليخبر قصته:‏

‏«في حزيران ١٩٨١ استولت حركة المقاومة على المنطقة التي اسكن فيها.‏ فأُخذت مع الرجال الآخرين الى ثكناتها.‏ وأوضحوا لنا الاهداف النبيلة لنضالهم وأهمية دعم تحرير شعبنا.‏ تلقيت التدريب العسكري وشاركت في معارك ناجحة.‏ وصار ذلك روتين حياتي اليومي طوال السنوات السبع التالية.‏ وبسبب ولائي للحركة جرت ترقيتي الى رتبة آمر.‏ وكنت آمرا على سبع فرق صغيرة من الجنود.‏ وخضعت مناطق عديدة لسيطرتنا،‏ وكانت احداها كاريكو.‏ فأرسلتُ كتيبة من الرجال للدخول الى القرى حيث كان شهود يهوه،‏ وذلك لنيل دعمهم.‏ وسمحت بحرق بيوتهم وقتل بعضهم.‏ فقالت لي فرقة المغاوير:‏ ‹سنقتلهم جميعا،‏ ولكننا لن نغيِّرهم ابدا.‏› وبعد فترة أُرسلتُ الى قواعد اخرى.‏»‏

ومع ان هذا الآمر لم يحسَّ بوخز الضمير بسبب اضطهاده شعب يهوه،‏ منحه يهوه برحمته فرصة ليتغيَّر.‏ يوضح:‏ «بعد مرور سبع سنوات دون ان ارى زوجتي،‏ طلبت اذنا شخصيا لزيارتها.‏ وتعرَّفت للمرة الاولى بالحق في مخيم للاجئين في ملاوي.‏ فرفضته في البداية.‏ ولاحقا عندما سمعت عن العالم الجديد،‏ ملكوت اللّٰه،‏ وعالم خالٍ من الحروب،‏ تساءلت:‏ ‹هل يمكن ان يستفيد من ذلك شخص فعل كل هذه الامور الرديئة؟‏› وكان الجواب الذي أُعطي لي من الكتاب المقدس:‏ ‹نعم،‏ بامتلاك الايمان وإطاعة اللّٰه.‏› فقبلت درسا في الكتاب المقدس،‏ واعتمدت في حزيران ١٩٩٠.‏ ومنذ ذلك الحين انا فاتح وأساعد كثيرين من رفقائي المحاربين سابقا.‏ وفي مجرد مخيم واحد ساعدت ١٤ شخصا ليصيروا خداما ليهوه.‏ لقد خدمت حيث الحاجة اعظم،‏ وشاركت في المعاناة بسبب الحياد.‏ وأنا شاكر جدا ليهوه على رحمته وعلى تغاضيه عن ازمنة جهلي،‏ اذ سامحني على اساس ذبيحة يسوع المسيح.‏» (‏اعمال ١٧:‏٣٠‏)‏ هذا مجرد مثال واحد من الامثلة الكثيرة التي تظهر لماذا غالبا ما يقول الاخوة الموزَمبيقيون بتقدير عميق:‏ «يهوه عظيم.‏» —‏ مزمور ١٤٥:‏٣‏.‏

مكتب فرع في ماپوتو

مَن كان ينتظر ذلك؟‏ لقد حصل ابكر مما توقَّعوا.‏ فقد وافقت الهيئة الحاكمة على فتح مكتب فرع في موزَمبيق.‏ ومنذ سنة ١٩٢٥،‏ عندما جلب عامل المنجم البينو ميلمبي الحق من جوهانسبورڠ،‏ كانت فروع جنوب افريقيا،‏ ملاوي،‏ وزمبابوي تهتم بالعمل في موزَمبيق.‏ وأخيرا ابتداء من ١ ايلول ١٩٩٢ باشر فرع موزَمبيق في ماپوتو عمله للاشراف على هذا الحقل الواسع في بيت كبير اقتنته وجدَّدته الجمعية في منطقة تكثر فيها السفارات.‏ ومن عائلة صغيرة في البداية مؤلفة من سبعة اعضاء،‏ كان امام لجنة الفرع المعيَّنة حديثا عمل يشكِّل تحديا.‏ فكان عليهم ان ينظِّموا العمل في الحقل،‏ ان يعتنوا بالحاجات الروحية —‏ وحتى المادية —‏ للاخوة،‏ ان يساعدوا على بناء قاعات الملكوت،‏ وأن يبنوا تسهيلات الفرع الجديدة.‏ لقد كان حقا عملا عظيما.‏ لكنَّ المساعدة ابتدأت تصل.‏

ان فرق المتطوعين الاممية،‏ الذين اتوا من مختلف انحاء العالم،‏ يعملون الآن مع اخوتهم الموزَمبيقيين في بناء تسهيلات الفرع الجديدة في موقع جميل على الشاطئ.‏ ونمت عائلة البتل الى عدد من الاعضاء الدائمين يبلغ ٢٦.‏ ويساعد ايضا الاخوة والاخوات من منطقة ماپوتو.‏ وكفريق متَّحد يعملون جميعا لترفيع عبادة الاله الحقيقي يهوه في هذه الناحية من الارض.‏ —‏ اشعياء ٢:‏٢‏.‏

‏«ليكن مثله مكرَّما عندكم»‏

يقوم النظار الجائلون ايضا بعمل شاق هنا.‏ فهنالك رجال مثل أدسون امبِندِرا،‏ الذي كان يزور الجماعات في الشمال والذي خدم لاحقا كعضو في لجنة الـ‍ O.‎N.‎ في المخيمات؛‏ لامِك نياڤيكوندو،‏ الذي يتذكره الاخوة في سوفالا بتقدير؛‏ إلياس ماهنّي،‏ الذي اتى من جنوب افريقيا ليخدم،‏ عانى الفظائع،‏ وحذَّر مسبقا:‏ «لقد اختفت الـ‍ PIDE [شرطة الاستعمار]،‏ لكنَّ مصدرها،‏ الشيطان ابليس،‏ لا يزال موجودا.‏ فتقووا وتشجَّعوا.‏» (‏١ بطرس ٥:‏٨‏)‏ وإذ لم يتوقَّعوا اية وسائل للراحة،‏ تخلَّوا عن كل الرفاهية التي كان يمكن ان يحصلوا عليها ليخدموا اخوتهم.‏

ومؤخرا جرى تأسيس دائرة في منطقة ميلاندْجي،‏ حيث كانت القرى «السجون.‏» والاخوة الساكنون في هذه المنطقة شاكرون ليهوه خصوصا لأنهم يستفيدون بشكل اكمل من العناية المزوَّدة بواسطة هيئته المنظورة.‏ اورلاندو پِنڠا وزوجته اعتبراه امتيازا ان يغادرا ماپوتو ليخدما هناك،‏ حيث كان قد لعب هو وآلاف غيره دورا على «مسرح كاريكو.‏» وإلى غرب مدينة تيتي،‏ يسافر بنجامين جِرِمايا وزوجته اياما سيرا على الاقدام الى اماكن حيث لم يرَ اشخاص كثيرون سيارة قط،‏ مساعدَين على اعادة توحيد آخرين ممَّن عزلتهم الحرب طوال سنوات.‏ رايمُند پيري،‏ اخ عازب لديه روح التضحية بالذات،‏ اضطر ان ينام على قمة جبل مع باقي الجماعة التي كان يخدمها،‏ وذلك هربا من هجومات محتملة،‏ وهناك اعدَّ تقاريره لمكتب الفرع.‏ وهانس وأنيتا يِسپرسِن يخدمان ايضا في المقاطعة الريفية وقد تعرَّفا كلاهما بغنى اخوتهما الروحي وفقرهم المادي.‏

يظهر هؤلاء الاخوة جميعا الروح التي دفعت الرسول بولس ان يكتب عن أَبَفرودِتُس:‏ «ليكن مثله مكرَّما عندكم.‏» —‏ فيلبي ٢:‏٢٩‏.‏

التقدُّم بغيرة تقوية

بالاضافة الى المحافظة على الاستقامة خلال المحن العسيرة،‏ يظهر الامناء في موزَمبيق محبتهم للّٰه ورفيقهم الانسان بطريقة اخرى.‏ ففي الخدمة العلنية يستغلُّون جيدا حريتهم الحديثة وتدابير يهوه الوافرة كالمجلات والمطبوعات الاخرى.‏ ويمكن ان يُشاهَدوا وهم يكرزون بحرية في الشوارع،‏ في الساحات العامة،‏ وفي الاسواق مثل شيپامانين.‏ والنتائج واضحة اذ يزداد عدد مسبِّحي يهوه بسرعة.‏

وبالاضافة الى الناشرين الجدد،‏ عزَّزت الزيادةَ عودةُ الاخوة من مخيمات اللاجئين في البلدان المجاورة.‏ فقد عادت دوائر بكاملها.‏ وبنوا بسرعة قاعات ملكوت،‏ مستخدمين اية مواد في متناول ايديهم.‏ وهم يفعلون ذلك حتى في مجتمعات اللاجئين المؤقتة،‏ مثل زوبْويه،‏ على حدود ملاوي،‏ وكابوا رقم ٢،‏ خارج ڤيلا أُلونڠويه.‏ وينضم كثيرون الى صفوف الفاتحين دون انتظار اوقات اقتصادية افضل.‏ وهنالك الآن اكثر من ٩٠٠‏,١ يشاركون في هذه الخدمة كامل الوقت.‏ وهم يعبِّرون عن تقديرهم العميق للتدريب الذي نالوه في مدارس خدمة الفتح،‏ التي ابتدأت هنا سنة ١٩٩٢.‏

وهل يمكنكم ان تحزروا مَن كان المدرِّسون في آخر مدرسة في ماپوتو،‏ حيث كان الصف في معظمه مؤلَّفا من اشخاص كانوا في دائرة كاريكو؟‏ فرانسيسكو زونڠوزا،‏ حامل الرقم القياسي لعدد المرات التي سجن فيها بسبب ايمانه،‏ واوجينيو ماسيتِلا،‏ الذي أُلقي القبض عليه وأُرسل الى ميلاندْجي بعد اسبوع واحد فقط من الابتداء بالدرس معه.‏ ويخدم كلاهما الآن كناظرَي دائرة.‏ وكان احد التلاميذ إرنستو شيلوليه.‏ ولديه مجموعة من الذكريات يودّ ان يشترك فيها:‏ «عندما امرّ في الشارع الذي كان فيه مبنى الـ‍ PIDE سابقا،‏ انظر الى النافذة وأتذكر —‏ هنا قال لي العملاء:‏ ‹فليكن معلوما لديكَ يا شيلوليه:‏ هذه موزَمبيق،‏ ولن تصيروا ابدا شرعيين في هذا البلد.‏› والآن هوذا هنا في الشارع يقع مكتب فرعنا الشرعي!‏»‏

وكم يشعر الاخ شيلوليه دون شك بالمكافأة لأن ابنته اليتا،‏ التي كانت تجلب الطعام من مؤن الجماعات عندما كان ابوها في سجن ماشاڤا،‏ هي الآن زوجة فرانسيسكو كوانا،‏ احد اعضاء لجنة الفرع!‏ والاخ كوانا كان ذلك الفاتح الغيور في كاريكو الذي كان «يبيع» بمهارة البضائع للذين خارج المخيمات ليتمكن من الكرازة لهم.‏ بالتأكيد بارك يهوه آلاف الامناء الذين،‏ في الشمال في اقليم ميلاندْجي،‏ في دائرة كاريكو،‏ تركوا مثالا جديرا بالمدح للمحبة،‏ الايمان،‏ والاستقامة،‏ اكراما وتمجيدا ليهوه.‏ —‏ امثال ٢٧:‏١١؛‏ رؤيا ٤:‏١١‏.‏

لكنَّ المعركة لم تنتهِ.‏ فهنالك اخطار جديدة،‏ اخطار تشكِّل تحديا.‏ والروح العالمية المتساهلة التي تنتشر حول الارض يمكن ان تجني الضحايا هنا ايضا وقد حصل ذلك.‏ فالفساد الادبي،‏ المادية،‏ واللامبالاة الناتجة عن الاوقات الاسهل ظاهريا قد اخذت ضريبتها.‏ لكنَّ خدام يهوه الامناء في موزَمبيق يستمرون بجد في البقاء متيقظين باستمرار.‏ وقد نجوا من امتحانات هائلة للايمان.‏ وتصميمهم،‏ بمساعدة يهوه،‏ هو ان يستمروا في اعطاء الدليل على انهم يحبون يهوه من كل قلبهم،‏ فكرهم،‏ نفسهم،‏ وقدرتهم وأنهم يحبون قريبهم كنفسهم.‏ ولديهم ايمان لا يتزعزع بأن ملكوت اللّٰه قريبا سيحوِّل الارض الى فردوس،‏ حيث لن تتوقف الحرب والجوع فحسب بل سيفرحون ايضا فرحا عظيما بالترحيب بعودة احبائهم من الموت،‏ بمَن فيهم كل الذين اثبتوا امانتهم للّٰه حتى الموت في دائرة كاريكو.‏ —‏ امثال ٣:‏٥،‏ ٦؛‏ يوحنا ٥:‏٢٨،‏ ٢٩؛‏ رومية ٨:‏٣٥-‏٣٩‏.‏

‏[الخريطتان في الصفحة ١٢٣]‏

‏(‏اطلب النص في شكله المنسق في المطبوعة)‏

زامبيا

زمبابوي

جنوب افريقيا

ملاوي

موزَمبيق

ميلاندْجي

كاريكو

موكوبا

اينيامينڠا

بيرا

ماشيش

اينيامبان

ماپوتو

تيتي

الخريطة المدرجة:‏ نُفي اخوة عديدون الى سان توميه،‏ على بعد نحو ٥٠٠‏,٢ ميل ‏[٩٠٠‏,٣ كلم]‏‏،‏ في المحيط الاطلسي

‏[صورة تغطي كامل الصفحة ١١٦]‏

‏[الصورة في الصفحة ١٣١]‏

قيل لإرنستو شيلوليه:‏ «لن تصيروا ابدا شرعيين في هذا البلد.‏ .‏ .‏ .‏ انسوا الامر!‏»‏

‏[الصور في الصفحتين ١٤٠ و ١٤١]‏

في مخيم اللاجئين في كاريكو،‏ كان اخوتنا (‏١)‏ يقطعون الاخشاب و (‏٢)‏ يدوسون الطين لصنع القرميد،‏ فيما (‏٣)‏ كانت الاخوات يحملن الماء.‏ (‏٤)‏ لقد وجدوا طرائق لعقد المحافل.‏ (‏٥)‏ شَڤيير دِنڠو،‏ (‏٦)‏ فيليپ ماتولا،‏ و (‏٧)‏ فرانسيسكو زونڠوزا عملوا على تزويد الاشراف الروحي هنا كنظار دوائر.‏ (‏٨)‏ قاعة الملكوت التي بناها هنا الشهود الملاويون لا تزال قيد الاستعمال.‏

‏[الصورة في الصفحة ١٧٥]‏

شهود مجتمعون من اجل محفل «التعبد التقوي» الكوري قرب ماپوتو سنة ١٩٨٩ بُعيد عودتهم من المخيمات

‏[الصورتان في الصفحة ١٧٧]‏

الاعلى:‏ شيوخ ونظار دوائر في الموقع حيث يسلِّم المرسلون المطبوعات والبريد كل شهر

الاسفل:‏ المرسلون في تيتي يتلقّون دروسا في لغة تشيتشايوا

‏[الصورتان في الصفحة ١٨٤]‏

لجنة الفرع (‏من اليسار:‏ اميل كريتزينڠر،‏ فرانسيسكو كوانا،‏ ستِفِن ڠِبهارت)‏،‏ مع صورة لتسهيلات الفرع التي تُبنى الآن في ماپوتو