الانتقال الى المحتويات

الانتقال إلى المحتويات

نيكاراڠوا

نيكاراڠوا

نيكاراڠوا

وُصفت نيكاراڠوا انها فردوس مداري.‏ وهي كذلك بالفعل.‏ فشواطئها الشرقية تمتد بمحاذاة مياه البحر الكاريبي الصافية الزرقاء الضاربة الى الخضرة.‏ وأمواج المحيط الهادئ الواسع تندفع على شواطئها الغربية.‏ أما اليابسة فتبدو للناظر اليها من فوق مزيجا من الغابات،‏ المزارع،‏ والانهار،‏ الى جانب عدد كبير من البحيرات التي تترصع بها فوهات البراكين القديمة.‏ الا ان هذه البحيرات تبدو كبِرَك زرقاء صغيرة عندما تُقارَن بالبحيرتين العظميَين —‏ بحيرة نيكاراڠوا وبحيرة ماناڠوا.‏ فبحيرة نيكاراڠوا وحدها،‏ البالغة مساحتها ٢٠٠‏,٨ كيلومتر مربع،‏ تغطي اكثر من ٦ في المئة من مساحة البلد بكامله!‏

تقع العاصمة،‏ ماناڠوا،‏ على الضفة الجنوبية لبحيرة ماناڠوا التي تبلغ مساحتها حوالي ٠٠٠‏,١ كيلومتر مربع.‏ لذلك من الملائم تسميتها «ماناڠوا»،‏ الاسم الذي يعني بإحدى اللغات المحلية «مكانا فيه مجتمع مياه».‏ ماناڠوا هي مركز النشاط الحكومي والتجاري،‏ ويبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة ويشكّلون ٢٠ في المئة من سكان البلد البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة.‏ انها تقع في منطقة المنخفضات الضيقة المتاخمة للمحيط الهادئ،‏ حيث يسكن حوالي ٦٠ في المئة من شعب نيكاراڠوا.‏ وفي الهضاب الوسطى يعيش ٣٠ في المئة من السكان،‏ والباقي —‏ اقل بقليل من ١٠ في المئة —‏ يعيشون الى الشرق في منطقتين غير مكتظتين بالسكان تتمتعان بحكم ذاتي وتؤلفان نصف مساحة البلد.‏

عند الحدود الجنوبية لنيكاراڠوا،‏ يضيق هذا البرزخ الواقع في اميركا الوسطى،‏ بحيث يصير البحر الكاريبي على بعد ٢٢٠ كيلومترا فقط من المحيط الهادئ.‏ وبما ان نهر سان خوان يجري من بحيرة نيكاراڠوا ويصب في البحر الكاريبي،‏ لا يبقى سوى برزخ ريڤاس الذي يبلغ عرضه ١٨ كيلومترا كفاصل بين البحيرة والمحيط الهادئ.‏ قبل انشاء قناة پاناما،‏ كان الطريق الملاحي الممتد من نهر سان خوان الى بحيرة نيكاراڠوا طريقا غالبا ما يستخدمه المسافرون،‏ الامر الذي جعل كثيرين يطمعون جدا بهذه المنطقة.‏ وفي الواقع،‏ يكشف التاريخ انها وقعت تحت سيطرة شعوب كثيرة،‏ منها المايا،‏ الازتكيون،‏ التولتك،‏ والتشيبتشا،‏ الى جانب القوى الاجنبية —‏ اسپانيا،‏ فرنسا،‏ بريطانيا العظمى،‏ هولندا،‏ الولايات المتحدة،‏ والاتحاد السوڤياتي.‏

ويُرى بوضوح تأثير القبائل والقوميات المختلفة في مجتمع نيكاراڠوا المتعدد اللغات والحضارات.‏ وفي حين ان سكان المنطقة المتاخمة للمحيط الهادئ هم بشكل رئيسي من الهجناء الناطقين بالاسپانية المتحدرين من الشعب الاسپاني والشعب الاصلي،‏ فإن سكان منطقة البحر الكاريبي يضمّون عدة عروق.‏ فالموسكيتو،‏ الكرييوليون،‏ والهجناء موجودون بأعداد كبيرة الى جانب جماعات اصغر تضم السومو،‏ الراما،‏ والڠاريفونا —‏ وهو فريق افريقي-‏كاريبي.‏ ورغم ان الكثير من هذه المجتمعات احتفظت بلغتها وحضارتها التقليدية،‏ فالشعب متواضع ومنفتح وودّي.‏ كما انه متديّن جدا،‏ وكثيرون منه يحبون الكتاب المقدس.‏

كما سنرى في هذا التقرير،‏ ساهمت الكوارث الطبيعية والمشاكل التي سبَّبها الانسان في صوغ شخصية شعب نيكاراڠوا.‏ على سبيل المثال،‏ دُمّرت ماناڠوا مرتين في القرن الماضي،‏ اذ ضربتها الزلازل التي نشأت في جانب البرزخ المتاخم للمحيط الهادئ.‏ وعانت نيكاراڠوا الشرقية نوعا آخر من الكوارث الطبيعية —‏ اعاصير مدارية مدمّرة مصدرها المحيط الاطلسي.‏ وما زاد الطين بلة هو الويلات الاضافية التي سببتها الحرب الاهلية،‏ الانتفاضات السياسية،‏ والحكومات الدكتاتورية القاسية.‏

رغم ذلك،‏ دخلت مياه حق الكتاب المقدس النقية الى هذا البلد الجميل،‏ بلد البحيرات والانهار،‏ جالبة التعزية والرجاء لآلاف الاشخاص المستقيمي القلوب.‏ (‏كشف ٢٢:‏١٧‏)‏ وفيض التدابير الروحية المتدفق في نيكاراڠوا اليوم يشهد لبركة يهوه الغنية على عمل البشارة بالملكوت في هذا البلد،‏ وخصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار انه قبل ستة عقود فقط،‏ كانت البشارة محدودة النطاق.‏

في البداية،‏ البشارة محدودة

في ٢٨ حزيران (‏يونيو)‏ ١٩٤٥،‏ وصل الى ماناڠوا فرنسيس ووليَم والاس،‏ اخَوان في الجسد ومتخرّجان من الصف الاول لمدرسة جلعاد برج المراقبة للكتاب المقدس.‏ وقد بدأا عمل الكرازة بالبشارة المنظّم في نيكاراڠوا وهيّأا الطريق امام الأجيال اللاحقة من المرسَلين.‏ ولكنهما لم يكونا اول مَن ادخل رسالة الملكوت الى هذا البلد.‏ ففي سنة ١٩٣٤،‏ زارت اخت فاتحة البلد ووزّعت مطبوعات في ماناڠوا وانحاء اخرى.‏ ومع ذلك،‏ في سنة ١٩٤٥ كان قليلون جدا قد سمعوا عن شهود يهوه.‏

عندما بدأ الاخَوان والاس بالكرازة،‏ استخدما فونوڠرافا قابلا للحمل واسطوانات مؤسسة على الكتاب المقدس —‏ امر جديد وغريب جدا في تلك الايام في نيكاراڠوا!‏ لذلك،‏ خلال الشهر الاول،‏ استمع ٧٠٥ اشخاص الى رسالة الملكوت.‏

في تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ من السنة عينها،‏ وصل اربعة مرسَلين اضافيين —‏ الزوجان هارولد وإيڤلين دانكن،‏ والزوجان ويلبرت وآن جايزلمان.‏ وإذ كانوا توّاقين الى اعلان الملكوت بكل طريقة ممكنة،‏ خططوا لعقد سلسلة من الاجتماعات العامة.‏ وهكذا،‏ في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏ ١٩٤٥،‏ وُزِّعت في الشوارع على مواطني نيكاراڠوا اوراق دعوة لحضور محاضرة في الكتاب المقدس.‏ ورغم ان البرنامج كاد يُوقَف نتيجة اضطراب سياسي ونزاع في احد الشوارع القريبة،‏ فقد عُقد الاجتماع بسلام.‏ وكان اكثر من ٤٠ شخصا حاضرين للاستماع الى هذا الخطاب العام الاول.‏ كما ابتُدئ في تلك الفترة بعقد درس برج المراقبة واجتماع الخدمة اسبوعيا في بيت المرسَلين.‏

كانت سنة ١٩٤٦ وقتا مبهجا للمرسَلين ولأول من قبلوا رسالة الكتاب المقدس.‏ وكان احد هؤلاء الاوائل ارنولدو كاسترو البالغ ٢٤ سنة من العمر.‏ يتذكر بابتسامة كيف تعرّف بحق الكتاب المقدس،‏ ويقول:‏ «قررت انا ورفيقاي في الغرفة،‏ إيباريستو سانشيس ولورنسو أوبريڠون،‏ ان نتعلم الانكليزية معا.‏ وذات يوم عاد إيباريستو من السوق حاملا كتابا بيده وملوّحا به.‏ قال:‏ ‹وجدت شخصا اميركيا سيعلّمنا الانكليزية!‏›.‏ طبعا،‏ لم تكن هذه نية ‹الاستاذ›،‏ ولكنّ هذا ما فهمه إيباريستو.‏ وهكذا عندما حانت الساعة المعيّنة،‏ كنا نحن الشبان الثلاثة ننتظر بسعادة درسا باللغة الانكليزية.‏ وقد دُهش ‹الاستاذ›،‏ المرسَل ويلبرت جايزلمان،‏ عندما وجد ان ‹تلاميذ للكتاب المقدس› توّاقين كهؤلاء ينتظرونه،‏ والكتاب بيدهم».‏

يوضح ارنولدو:‏ «كان عنوان الكتاب ‏‹الحق يحرركم›،‏ وقد درسنا فيه مرتين في الاسبوع.‏ وفي النهاية،‏ لم نتعلم الكثير من اللغة الانكليزية،‏ ولكننا تعلمنا حق الكتاب المقدس».‏ اعتمد ارنولدو في آب (‏اغسطس)‏ ١٩٤٦ في محفل في كليڤلنْد،‏ أوهايو،‏ الولايات المتحدة الاميركية،‏ ثم عاد الى نيكاراڠوا للبدء بخدمة الفتح.‏ وفي نهاية تلك السنة،‏ اعتمد ايضا رفيقاه في الغرفة.‏

يبلغ إيباريستو سانشيس الآن ٨٣ سنة من العمر.‏ وهو يتذكر بفرح تلك السنوات الباكرة،‏ قائلا:‏ «في البداية،‏ لم يكن لدينا مكان نجتمع فيه.‏ ولكن بسبب عددنا القليل،‏ تمكّنا من الاجتماع حيث يسكن المرسَلون.‏ لاحقا،‏ استأجرنا بيتا مؤلفا من طابقين،‏ وصار يجتمع هناك قانونيا ٣٠ الى ٤٠ شخصا».‏

كان هؤلاء الشبان الثلاثة اول مواطنين من نيكاراڠوا يرافقون المرسَلين في الخدمة.‏ وقد خدموا اولا في ماناڠوا،‏ ثم في المناطق النائية.‏ آنذاك،‏ كانت ماناڠوا،‏ بسكانها الـ‍ ٠٠٠‏,١٢٠ تقريبا،‏ اصغر مما هي الآن.‏ وكانت المنطقة المعبّدة الوحيدة تشمل ١٢ حيّا في وسط المدينة.‏ يتذكر إيباريستو:‏ «كنا نتنقل سيرا على الاقدام.‏ فلم يكن هنالك باصات او طرق معبّدة.‏ ولم يكن هنالك سوى سكك للقطارات ودروب للعربات التي تجرها الثيران.‏ فكنا نسير في الغبار او في الوحل،‏ وفقا للفصل اذا كان جافا او ممطرا».‏ ولكن جهودهم كوفئت عندما حضر الذِّكرى ٥٢ شخصا في نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٤٦.‏

تأسيس فرع

في ذلك الشهر نفسه،‏ قام ناثان ه‍.‏ نور وفردريك و.‏ فرانز،‏ من المركز الرئيسي في بروكلين،‏ بزيارة نيكاراڠوا للمرة الاولى.‏ وخلال الزيارة التي دامت اربعة ايام،‏ سمع ١٥٨ شخصا المحاضرة العامة التي ألقاها الاخ نور بعنوان «تهلَّلوا ايها الامم».‏ وقد ترجم الاخ فرانز الخطاب بالاسپانية.‏ وقبل ان يغادرا،‏ رتّب الاخ نور لتأسيس مكتب فرع لشهود يهوه في نيكاراڠوا للإشراف على العمل.‏ وعُيّن وليَم يوجين كول،‏ البالغ من عمره ٢٦ سنة والمنتقل حديثا من كوستاريكا،‏ خادما للفرع.‏

على مر العقود التالية،‏ اسس مكتب الفرع بيوتا للمرسَلين في اماكن مثل هينوتيپي،‏ ماسايا،‏ ليون،‏ بلوفيلدز،‏ ڠرانادا،‏ وماتاڠالپا.‏ وصُنعت الترتيبات ايضا ان يزور ناظر الدائرة الجماعات والفرق المشكّلة حديثا ليقوّي ويشجّع الاخوة.‏

نجاح المقاومين القصير الامد

بسرعة اثمرت غيرة الاخوة،‏ الامر الذي ازعج رجال دين العالم المسيحي.‏ فظهرت اول علامات المقاومة في مدينة بلوفيلدز على الشاطئ الكاريبي،‏ حيث كان مرسَلان معيّنَين هناك.‏ وتصعّدت الامور في ١٧ تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ سنة ١٩٥٢،‏ عندما صدر حكم بحق شهود يهوه يقضى بحظر كل نشاط لهم.‏ ورغم ان مسؤولا في وزارة الهجرة وقّع هذا الحكم،‏ فقد كان رجال الدين الكاثوليك هم الذين حرَّضوا على صدوره.‏

أُعلم المرسَلون في بلوفيلدز،‏ ليون،‏ هينوتيپي،‏ وماناڠوا بالحكم الصادر.‏ فرُفعت الاستئنافات الى السلطات المختصة —‏ بمن فيها الرئيس آنذاك،‏ اناستازيو سوموزا ڠارسيا —‏ ولكنها باءت بالفشل.‏ فابتدأ الاخوة يجتمعون في فرق صغرى،‏ وتوقف توزيع المجلات في الشوارع،‏ ونُقلت المطبوعات المخزنة في الفرع الى اماكن آمنة.‏ وتمكن اعداؤنا الدينيون من حظر العمل بادّعائهم كذبا ان شهود يهوه شيوعيون.‏ فوُكِّل محامٍ لاستئناف القرار الى محكمة العدل العليا.‏

على الرغم من ان بعض الاخوة استسلموا لخوف الانسان،‏ بقي الاغلبية ثابتين.‏ وكان المرسَلون الناضجون روحيا والشجعان دعما قويا للاخوة المحليين،‏ الذين استمروا في الكرازة والاجتماع معا اطاعة لكلمة اللّٰه.‏ (‏اعمال ١:‏٨؛‏ ٥:‏٢٩؛‏ عبرانيين ١٠:‏٢٤،‏ ٢٥‏)‏ ثم في ٩ حزيران (‏يونيو)‏ سنة ١٩٥٣ —‏ بعد ان دام الحظر ثمانية اشهر فقط —‏ اعلنت المحكمة العليا قرارها الاجماعي لصالح شهود يهوه،‏ مؤكدة الحق الدستوري لحرية العبادة وحرية الكلام.‏ ففشلت المؤامرة من كل النواحي.‏

التحديات التي واجهها المرسَلون الاولون

لم تكن المقاومة من رجال الدين التحدي الوحيد الذي واجهه المرسَلون الاولون.‏ لنتأمل في ما حدث مع سيدني وفيليس پورتر،‏ المتخرّجَين من الصف الـ‍ ١٢ لمدرسة جلعاد.‏ عندما وصلا الى نيكاراڠوا في تموز (‏يوليو)‏ ١٩٤٩،‏ عُيّن سيدني ليخدم كناظر دائرة،‏ وكانت دائرته تشمل كل البلد.‏ يصف سيدني كيف كان العمل الجائل آنذاك،‏ قائلا:‏ «استخدمنا القطارات والباصات من اجل التنقل.‏ في اغلب الاحيان لم يكن هنالك اخوة لنمكث عندهم.‏ لذلك كنا نحمل معنا شراشفنا وموقدا صغيرا لتسخين الماء والطبخ.‏ في مرات عديدة،‏ كنا نغيب عن الفرع عشرة اسابيع متتالية.‏ الا ان المقاطعة كانت مثمرة جدا،‏ مما صعَّب علينا ملاحقة الاهتمام في بعض المناطق.‏ على سبيل المثال،‏ عندما خدمنا في وقت لاحق دائرة ماناڠوا،‏ كان لدى فيليس ١٦ درسا في الكتاب المقدس!‏ وكيف تمكنت من تخصيص الوقت؟‏ لقد عقدت دروسها في ايام فرصتنا وفي الامسيات التي لم تُعقد فيها اجتماعات الجماعة».‏ فكم كان اولئك المرسَلون الاولون متفانين في خدمتهم!‏

دوريس نيهوف،‏ التي وصلت في سنة ١٩٥٧،‏ تخبر عن انطباعها الاول:‏ «وصلت في نهاية شهر آذار (‏مارس)‏،‏ الفصل الجاف،‏ لذلك كان كل شيء في الريف بني اللون.‏ كانت السيارات قليلة جدا آنذاك،‏ والجميع يركبون الاحصنة —‏ ويحملون المسدسات!‏ فشعرت كأنني موجودة في مكان تصوير احد افلام الغرب الاميركي.‏ في تلك الايام،‏ كان معظم الناس إما اغنياء او فقراء،‏ ولكن اغلبيتهم كانوا فقراء.‏ وما زاد الطين بلة هو ان نيكاراڠوا كانت في حالة حرب مع هندوراس بسبب نزاع على الارض،‏ وأنه قبل ستة اشهر من وصولي،‏ اغتيل الرئيس سوموزا ڠارسيا وصار البلد خاضعا للأحكام العرفية».‏

تتابع دوريس:‏ «عُيّنت في مدينة ليون حيث توجد جامعة.‏ وبما انني لم أكن افهم الاسپانية جيدا،‏ فقد كان التلاميذ هناك يحبون ان يخدعوني.‏ على سبيل المثال،‏ عندما عرضت ان اعود لأتحدث الى بعض التلاميذ عن الكتاب المقدس،‏ قبلوا ولكنهم ضحكوا عندما قالوا لي ‹اسماءهم›.‏ فقد عرّف احدهم بنفسه باسم الشخص الذي اغتال الرئيس،‏ وعرّف آخر بنفسه باسم محارب ذائع الصيت في حرب العصابات!‏ وما يدعو الى العجب انني لم أُلقَ في السجن عندما عدت وسألت عن هذين التلميذين!‏».‏

مواجهة مع اسقف ماتاڠالپا

على بُعد حوالي ١٣٠ كيلومترا شمالي ماناڠوا،‏ تتوارى مدينة ماتاڠالپا في تلال منطقة يُزرع فيها البن.‏ وقد عُيّن هناك في سنة ١٩٥٧ اربعة مرسَلين.‏ كان أڠوستين سيكيرا آنذاك پروفسورا في الرياضيات في كلية تديرها الراهبات اليوسفيات.‏ وهو يتذكر الجو الديني في ماتاڠالپا في ذلك الوقت،‏ قائلا:‏ «كان غالبية الناس يعتنقون الكاثوليكية،‏ ويخافون من الكهنة وخصوصا من الاسقف.‏ وكان الاسقف عرّاب احد اولادي».‏

وهذا الخوف المهيمن صعّب على الفرع ايجاد مسكن للمرسَلين.‏ على سبيل المثال،‏ عند الترتيب لاستئجار بيت،‏ اعلم مكتب الفرع صاحبَ المُلك،‏ وهو محامٍ،‏ ان المرسَلين سيعقدون اجتماعات مسيحية هناك.‏ فقال:‏ «لا توجد اية مشكلة».‏

تقول دوريس نيهوف،‏ واصفة ما حدث بعد ذلك:‏ «يوم وصلنا مع كل اثاثنا،‏ اتى صاحب المُلك وعلى وجهه علامات القلق.‏ وقال انه ارسل لنا برقية ينصحنا فيها الّا نأتي.‏ لماذا؟‏ لأن الاسقف هدّده بعدم قبول ابنه في المدرسة الكاثوليكية اذا اجّرَنا البيت.‏ لحسن التوفيق،‏ لم نتلقَّ البرقية وكنا قد دفعنا ايجار شهر».‏

تتابع دوريس:‏ «وجدنا بيتا آخر في ذلك الشهر،‏ ولكن بصعوبة كبيرة.‏ وقد حاول الاسقف ان يضغط على رجل الاعمال الجريء الذي يملك البيت.‏ لكنه اجابه:‏ ‹اذا دفعت لي الاربع مئة كوردوبة كل شهر،‏ فإنني اطردهم›.‏ بالطبع،‏ لم يدفع الاسقف.‏ إلا انه لم ينثنِ عن عزمه،‏ بل ذهب الى كل المتاجر وعلّق ملصقات،‏ محذّرا الناس من التحدث الى شهود يهوه.‏ كما انه امر اصحاب الدكاكين الّا يبيعونا بضائعهم».‏

على الرغم من غيرة المرسَلين،‏ لم يبدُ ان احدا في ماتاڠالپا توّاق الى اعتناق حق الكتاب المقدس.‏ ولكنّ أڠوستين،‏ پروفسور الرياضيات،‏ كانت لديه عدة اسئلة دون اجابة.‏ على سبيل المثال،‏ تساءل كيف يُعقل ان تبقى الاهرام في حين ان الفراعنة الذين بنوها ماتوا من زمن بعيد!‏ ولا يزال يتذكر بوضوح ان مرسَلا زاره وأظهر له من الكتاب المقدس الاجوبة عن اسئلته.‏ يوضح أڠوستين:‏ «أسرَتني الآيات التي تظهر ان الانسان لم يُخلق ليموت،‏ بل ليعيش الى الابد على ارض فردوسية وأن الاموات سيُقامون.‏ فأدركت بسرعة ان هذا هو الحق».‏ وكيف تجاوب أڠوستين؟‏ يقول:‏ «بدأت اكرز لكل شخص في الكلية حيث كنت اعلّم،‏ حتى للمديرة التي كانت راهبة.‏ فدعتني ان ازورها يوم الاحد لنناقش موضوع ‹نهاية العالم›.‏ لدى وصولي،‏ فوجئت برؤية اسقف ماتاڠالپا ينتظرني».‏

قال:‏ «هكذا اذًا يا صديقي،‏ لقد أخبروني انك تفقد ايمانك».‏

اجبت:‏ «اي ايمان؟‏ الايمان الذي لم يكن لديّ قط؟‏ لقد بدأت الآن اتعلّم كيف يكون لدي ايمان حقيقي».‏

وهكذا بدأت مناقشة دامت ثلاث ساعات،‏ وكانت الراهبة تصغي.‏ وغيرة أڠوستين لإيمانه الذي وجده حديثا دفعته ان يكون صريحا جدا احيانا.‏ حتى انه دعا المعتقد غير المسيحي لخلود النفس البشرية مخططا لجمع المال يستغل الناس الابرياء.‏ ولإيضاح النقطة للاسقف،‏ قال أڠوستين:‏ «تخيّل،‏ على سبيل المثال،‏ ان امي ماتت.‏ بالطبع،‏ سأذهب اليك لتقيم قداسا لأن نفسها في المطهر.‏ فتطلب مني مالا من اجل القداس.‏ وبعد ثمانية ايام،‏ يُقام قداس آخر.‏ وبعد سنة،‏ قداس آخر،‏ وهكذا دواليك.‏ ولكنك،‏ لا تقول لي ابدا:‏ ‹يا صديقي،‏ لن أُقيم قداديس اخرى بعد الآن لأن نفس امك لم تعد في المطهر›».‏

فقال الاسقف:‏ «ذلك لأن اللّٰه وحده يعلم متى تخرج نفسها من المطهر!‏».‏

اجاب أڠوستين:‏ «اذًا،‏ كيف علمت متى دخلت نفسها الى المطهر لتبدأ بطلب المال مني؟‏».‏

خلال المناقشة،‏ عندما بدأ أڠوستين يقتبس من الكتاب المقدس،‏ قالت الراهبة للاسقف:‏ «انظر،‏ مونسينيور!‏ انه يستعمل كتابا مقدسا غير مقبول؛‏ انه كتاب لوثري!‏».‏

فأجاب الاسقف:‏ «لا،‏ انه الكتاب المقدس الذي اعطيته اياه».‏

اذ استمرت المناقشة،‏ فوجئ أڠوستين بسماع الاسقف يقول ان المرء لا يجب ان يؤمن بكل شيء في الكتاب المقدس.‏ يقول أڠوستين:‏ «بعد ذلك الاجتماع،‏ اقتنعت ان رجال دين العالم المسيحي،‏ مثل القادة الدينيين في ايام يسوع،‏ يفضّلون تقاليد الكنيسة على كلمة اللّٰه».‏

وفي شباط (‏فبراير)‏ سنة ١٩٦٢،‏ صار أڠوستين سيكيرا اول ناشر معتمد في ماتاڠالپا.‏ وقد استمر يحرز تقدما روحيا،‏ وخدم لاحقا كفاتح وشيخ.‏ ومنذ سنة ١٩٩١،‏ يخدم كعضو في لجنة الفرع في نيكاراڠوا.‏ وفي سنة الخدمة ٢٠٠٢،‏ كانت هنالك في ماتاڠالپا جماعتان نشيطتان يبلغ مجموع ناشري الملكوت فيهما ١٥٣.‏

فاتحون خصوصيون لا يكلّون

اندفع كثيرون من الذين قبلوا بشارة ملكوت اللّٰه الى توسيع خدمتهم بالاشتراك في عمل الفتح.‏ وكان من بين هؤلاء:‏ هيلبرتو سوليس؛‏ زوجته ماريّا سيسيليا؛‏ وأخته الصغيرة ماريّا إلسا.‏ اعتمد هؤلاء الثلاثة في سنة ١٩٦١،‏ وبعد اربع سنوات صاروا فاتحين خصوصيين وشكّلوا فريقا فعّالا جدا.‏ وقد ساهم هذا الثلاثي في تشكيل او تقوية تسع جماعات في شتى انحاء البلد.‏ وكان أحد تعييناتهم في جزيرة اوميتيپي في بحيرة نيكاراڠوا.‏

تبلغ مساحة جزيرة اوميتيپي ٢٧٦ كيلومترا مربعا.‏ وتتكوّن هذه الجزيرة من بركانين،‏ ارتفاع احدهما ٦٠٠‏,١ متر.‏ وهما يعطيانها الشكل 8 عندما يُنظر اليها من فوق.‏ في اوميتيپي،‏ كان الفاتحون الثلاثة يبدأون خدمتهم عند الفجر.‏ فكانوا يستقلون باصا الى آخِر خط سيره ثم يتابعون سيرا على الاقدام —‏ غالبا وهم حفاة —‏ على طول الشاطئ الرملي الى القرى المتعددة في الجزيرة.‏ وعلى مدى حوالي ١٨ شهرا،‏ نظّموا عددا من فرق تلاميذ الكتاب المقدس المنعزلة في كل انحاء اوميتيپي،‏ وكان اكبر فريق في قرية لوس آتييوس.‏

في السابق،‏ كانت زراعة التبغ مصدرا رئيسيا لدخْل كثيرين من الناشرين الجدد في لوس آتييوس.‏ ولكنّ ضمائرهم المدرّبة على الكتاب المقدس لم تعد تسمح لهم بأن يقوموا بهذا العمل.‏ فاتّكل الاغلبية على صيد السمك،‏ مع ان ذلك عنى دخْلا اقل.‏ ويا لَلفرح الذي حصدته عائلة سوليس عند رؤية مثل هذا الايمان،‏ فضلا عن الادلة العديدة الاخرى على بركة يهوه الوافرة على خدمتهم!‏ فسرعان ما ازداد عدد الناشرين في المنطقة الى ٣٢،‏ ونشأت حاجة الى قاعة ملكوت.‏ كان احد الناشرين الجدد،‏ ألفونسو ألمان،‏ يعمل في زراعة البطيخ.‏ وقد كان لطفا منه ان يتبرع بقطعة ارض من اجل بناء القاعة.‏ ولكن كيف كان الناشرون في لوس آتييوس سيحصلون على المال للبناء؟‏

رتّب هيلبرتو سوليس ان يقوم متطوعون بزراعة بذار البطيخ التي زوّدها الاخ ألمان في قطعة الارض التي تبرع بها.‏ وشجّع هيلبرتو الفريق على الاعتناء بالبطيخ كأنهم يعملون ليهوه،‏ راسما لهم المثال بالعمل بكدّ.‏ تصف ماريّا إلسا،‏ امرأة صغيرة القد ولكن نشيطة،‏ كيف اعتنى الفريق الصغير من الناشرين بالبطيخ المزروع.‏ تقول:‏ «كنا نستيقظ باكرا،‏ والظلام مخيّم بعد،‏ لري الحقل.‏ وقد حصلنا على غلة وافرة ثلاث مرات.‏ فاستخدم الاخ ألمان مركبه ونقل البطيخ عبر بحيرة نيكاراڠوا الى ڠرانادا،‏ حيث باعه واشترى مواد للبناء.‏ وهكذا بُنيت قاعة الملكوت في لوس آتييوس.‏ لذلك يدعوها اخي القاعة الصغيرة من البطيخ».‏ من تلك البدايات البسيطة،‏ صارت الآن في جزيرة اوميتيپي ثلاث جماعات مزدهرة.‏

اعرب هيلبرتو وزوجته وأخته عن التواضع،‏ الموقف الايجابي،‏ والاتكال التام على يهوه.‏ وقد مسّت هذه الصفات قلوب كثيرين.‏ كان هيلبرتو يقول غالبا:‏ «يجب ان ننظر دائما الى الجدد على انهم عجول صغيرة.‏ فهم رائعون ولكن ضعفاء.‏ لذلك لا يجب ان ننزعج ابدا من ضعفاتهم،‏ بل يجب ان نساعدهم ليصيروا اقوياء».‏ لا شك ان هذا الموقف الحبي كان احد الامور التي مكّنت هؤلاء الفاتحين المثاليين الثلاثة من مساعدة ٢٦٥ شخصا لينتذروا ويعتمدوا!‏ لقد ماتت زوجة هيلبرتو كشاهدة امينة.‏ وصحة هيلبرتو،‏ الذي يبلغ من العمر الآن ٨٣ سنة،‏ تتدهور كثيرا.‏ الا ان رغبته في خدمة يهوه لا تزال قوية كما كانت.‏ اما بالنسبة الى ماريّا إلسا،‏ فعندما سُئلت مؤخرا عن شعورها بعد ٣٦ سنة في خدمة الفتح الخصوصي،‏ اجابت:‏ «مثلما شعرت عندما باشرت بالخدمة!‏ انني سعيدة وأشكر يهوه على الدوام على جلبنا الى هيئته المقدسة وإعطائنا مكانا صغيرا في هذا الفردوس الروحي الرائع».‏ وعلى مر السنين رأى فاتحون نشيطون عديدون،‏ مثل عائلة سوليس،‏ ثمارا كثيرة للملكوت في نيكاراڠوا،‏ وذلك بفضل بركة يهوه السخية.‏

زلزال ماناڠوا سنة ١٩٧٢

بُعيد منتصف ليل ٢٣ كانون الاول (‏ديسمبر)‏ سنة ١٩٧٢،‏ هزّ ماناڠوا زلزال عنيف بلغت شدته ٢٥‏,٦ على مقياس ريختر،‏ ما يعادل طاقة حوالي ٥٠ قنبلة ذرية.‏ كان مكتب الفرع يقع في الجانب الشرقي لماناڠوا،‏ على بُعد ١٨ حيّا من المركز السطحي للزلزال.‏ يقول ليڤي إلوود ويذرسپون،‏ ناظر الفرع آنذاك:‏ «كان جميع المرسَلين نائمين.‏ وعندما توقف الاهتزاز،‏ اسرعنا خارجا الى وسط الشارع.‏ ثم ضربت هزتان اخريان الواحدة تلو الاخرى.‏ فانهارت البيوت حولنا.‏ وغلّفت المدينة سحابة كثيفة من الغبار،‏ وأشار الوهج الاحمر المنبعث من وسط المدينة الى وجود نيران مشتعلة».‏

كان المركز السطحي للزلزال مباشرة تحت المنطقة التجارية،‏ وفي مجرد ٣٠ ثانية صارت ماناڠوا غير صالحة للسكن.‏ حاول الناجون شق طريقهم بين الغبار والركام،‏ باذلين جهدهم ليتنفسوا.‏ ولكنّ كثيرين لم ينجحوا.‏ وعلى الرغم من ان بعض التقديرات تذكر ان عدد الضحايا تجاوز الـ‍ ٠٠٠‏,١٢ شخص،‏ فإن الرقم الصحيح غير معروف.‏ وقد دُمِّر حوالي ٧٥ في المئة من بيوت ماناڠوا،‏ مما خلَّف حوالي ٠٠٠‏,٢٥٠ شخص مشرد.‏ وفي الايام الثلاثة التي تلت الزلزال،‏ كان يهرب كل يوم من المدينة حوالي ٠٠٠‏,١٠٠ شخص.‏

المحبة المسيحية تدفع الى تقديم العون

بحلول ظهر اليوم نفسه الذي ضرب فيه الزلزال،‏ تلقى مكتب الفرع تقريرا كاملا من نظار الجماعات في ماناڠوا.‏ فقد تحرّك هؤلاء الاخوة الامناء معا بسرعة وذهبوا لرؤية كل عضو في الجماعة لمعرفة حاجاته.‏ ومن الجيد انه لم تكن هنالك وفيات بين الشهود الاكثر من ٠٠٠‏,١ في المدينة،‏ ولكن اكثر من ٨٠ في المئة خسروا بيوتهم.‏

كما دفعت المحبة المسيحية شعب يهوه في البلدان المجاورة ان يهبّوا الى مساعدة اخوتهم بسرعة.‏ فبعد الزلزال بأقل من ٢٢ ساعة،‏ وصلت الى الفرع شاحنات محمّلة طعاما،‏ ماء،‏ دواء،‏ وثيابا.‏ وفي الواقع،‏ كان الفرع من اوائل المراكز التي قدمت مؤن اغاثة.‏ وقد تدفق المتطوعون من شتى الجماعات في نيكاراڠوا،‏ وسرعان ما صار الجميع مشغولين بتوضيب الطعام وفرز الثياب قبل إرسالها.‏ حتى ان مؤن الاغاثة بدأت تصل من الشهود في اقصى انحاء العالم.‏

بعد يوم من الزلزال،‏ التقى ناظر الفرع بممثّلين زائرين من فروع السلڤادور،‏ كوستاريكا،‏ وهندوراس لتنظيم المزيد من الاعانات.‏ وفتح الشهود العائشون خارج ماناڠوا بيوتهم بمحبة للاخوة الذي اضطروا الى مغادرة العاصمة.‏ أما الشهود الذين بقوا في العاصمة فنُظِّموا في فرق من اجل الاجتماعات المسيحية وخدمة الحقل.‏ وقد زار ناظر الدائرة هذه الفرق لتشجيعهم ولإيصال مؤن الاغاثة اليهم.‏

بسبب الزلزال،‏ تدهور الوضع الاقتصادي في البلد كله.‏ ولكن مع ان الحياة صارت اصعب،‏ فقد استمر عمل اعادة بناء قاعات الملكوت وبيوت الاخوة.‏ بالاضافة الى ذلك،‏ نمت الجماعات بوجود كثيرين من المهتمين حديثا.‏ وكان من الواضح ان يهوه سُرَّ بشعبه لأنهم استمروا في وضع مصالح الملكوت اولا في حياتهم.‏ —‏ متى ٦:‏٣٣‏.‏

ذكر الكتاب السنوي لعام ١٩٧٥ (‏بالانكليزية)‏:‏ «لا تزال اغلبية الجماعات الـ‍ ١٤ في منطقة ماناڠوا تجتمع في ابنية متصدعة الجدران او في باحة مسقوفة بصفائح معدنية.‏ وعلى نحو مثير للاهتمام،‏ تضاعف عدد الحضور في تلك الاجتماعات مقارنة بالسنة الماضية.‏ وازداد معدل الناشرين عن السنة الماضية بنسبة ٢٠ في المئة.‏ والآن يوجد ٦٨٩‏,٢ ناشرا يوصلون الحق الى الآخرين،‏ وقد اعتمد ٤١٧».‏

بسبب هذا النمو المستمر لم يعد الفرع القديم ملائما.‏ لذلك يمكننا تخيل فرحة الناشرين عندما أُكمل مكتب فرع جديد وبيت للمرسَلين في كانون الاول (‏ديسمبر)‏ سنة ١٩٧٤ —‏ بعد الزلزال الكبير بسنتين فقط!‏ وكان الفرع الجديد يقع في شارع هادئ يُدعى إل رايسون،‏ على بعد ١٦ كيلومترا جنوبي وسط مدينة ماناڠوا.‏

مثال المرسَلين في المحبة والوحدة

من حين وصول الاخوَين والاس في سنة ١٩٤٥،‏ اثبت المرسَلون في نيكاراڠوا انهم امثلة في الايمان،‏ الاحتمال،‏ ومحبة الناس.‏ وقد ساهمت هذه الصفات الرائعة في جعل المرسَلين قريبين اكثر واحدهم الى الآخر وإلى الاخوة المحليين.‏ يقول المرسَل كينيث براين:‏ «بعد زلزال ماناڠوا،‏ قدَّمنا المساعدة في الفرع،‏ ساعدنا الاخوة في الخروج من بيوتهم المتضررة،‏ وعاونّاهم على دفن اقربائهم الموتى.‏ ان العمل معا في هذه الظروف يقرّبنا كثيرا واحدنا من الآخر».‏ وتعلّق مارڠريت مور (‏فوستر سابقا)‏،‏ في كلامها عن رفقائها المرسَلين:‏ «مع اننا من شتى القوميات والخلفيات ولدينا شخصيات مختلفة،‏ فقد ساعدنا الجو العائلي الموحّد ان نكون سعداء في تعييننا،‏ رغم نقائصنا الشخصية».‏

وبالنسبة الى المرسَلَين كينيث وشاران براين،‏ فهما يعتبرانه امتيازا خصوصيا ان يستفيدا من امثلة المرسَلين ذوي الخبرة،‏ مثل فرنسيس وآنجيلين والاس،‏ سيدني وفيليس پورتر،‏ وإميلي هاردين.‏ تتذكر شاران:‏ «عمل الجميع بكدّ،‏ وكان واضحا انهم يحبون ما يقومون به».‏

على مر السنين،‏ خدم ايضا عدة ازواج مرسَلين في العمل الجائل.‏ وفي الواقع،‏ ساهم الاساس المتين الذي وضعه المرسَلون الغيورون في النمو الروحي الرائع الذي شوهد في نيكاراڠوا على مر العقود الثلاثة الاولى من العمل هناك.‏ الا ان ذلك البناء الروحي كان على وشك ان يُمتَحن،‏ ليس بزلزال آخر،‏ بل بشيء يدوم اطول ويشكّل خطرا روحيا —‏ روح القومية والثورة.‏ —‏ ١ كورنثوس ٣:‏١٢،‏ ١٣‏.‏

المشاعر القوية المؤيدة للثورة السياسية تشكِّل امتحانا

في اواخر سبعينات الـ‍ ١٩٠٠،‏ بدأت الثورة السياسية بقيادة جبهة التحرير الوطني الساندينيّة تكتسح نيكاراڠوا.‏ وقد ادّت الثورة الى قلب الحكم العسكري/‏السياسي الذي خضعت له البلد ٤٢ سنة تحت سلطة السلالة الحاكمة.‏ روبي بلوك،‏ التي بقيت مرسَلة في نيكاراڠوا طوال ١٥ سنة،‏ تقول عن تلك الفترة:‏ «تلك السنوات التي تزايدت فيها الدعاية السياسية جعلت الجميع متوترين.‏ وكانت المواجهات العنيفة بين الجيش والثوار الساندينيين متكررة.‏ ولإتمام خدمتنا،‏ كان علينا ان نتكل كاملا على يهوه».‏

رغم حياد المسيحيين في الشؤون السياسية،‏ غالبا ما اتَّهم مؤيدو الثوار الساندينيين شهود يهوه بأنهم عملاء إما لحكم سوموزا او لوكالة المخابرات المركزية الاميركية (‏CIA)‏.‏ وأُثيرت ايضا مشاعر عداء قوية تجاه الاجانب.‏ على سبيل المثال،‏ فيما كانت المرسَلة إيلفريده أوربان في الخدمة،‏ اتّهمها رجل انها جاسوسة.‏ فقالت له:‏ «كيف ذلك؟‏ انا لا احمل كاميرا او آلة تسجيل.‏ وعلاوة على ذلك،‏ على مَن او على ماذا سأتجسس في هذا الحي؟‏!‏».‏

فأجاب:‏ «انت مدرّبة جيدا بحيث ان عينَيك هما الكاميرا وأذنَيك ودماغك آلة التسجيل».‏

في تلك الايام كان يُردَّد في شوارع ماناڠوا الشعار الشعبي:‏ «بين المسيحية والثورة،‏ لا يوجد اي تناقض!‏».‏ وهذا التفكير،‏ الذي اكتسب شعبية كبيرة في اميركا اللاتينية خلال سبعينات الـ‍ ١٩٠٠،‏ عكس معتقد لاهوت التحرير،‏ وهي فكرة عززتها حركة ماركسية داخل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.‏ وتقول دائرة المعارف البريطانية ان هدف لاهوت التحرير هو مساعدة «الفقراء والمظلومين من خلال التورط [الديني] في السياسة والشؤون المدنية».‏

تتذكر روبي بلوك:‏ «كان الناس في اغلب الاحيان يطرحون علينا السؤال التالي:‏ ‹ما رأيكم في الثورة؟‏›.‏ فكنا نفسر لهم ان الحل الوحيد لمشاكل الجنس البشري هو ملكوت اللّٰه».‏ وكان تحدّيا كبيرا ان يبقى المرء وليا ليهوه في ذلك الوضع السياسي المتأزم.‏ تضيف روبي:‏ «كنت اصلّي دائما الى يهوه ان يمنحني القوة لأبقى حيادية،‏ ليس فقط في كلامي بل ايضا في فكري وقلبي».‏

بعد اشهر من الثورات العنيفة،‏ شنّت جبهة التحرير الوطني الساندينيّة في ايار (‏مايو)‏ ١٩٧٩ هجوما شاملا للإطاحة بالحكومة.‏ وأُجبر الرئيس سوموزا دي بايلي على الهرب من البلد،‏ وحُلّت وحدات حرسه الوطني.‏ وفي شهر تموز (‏يوليو)‏ من تلك السنة،‏ تولّى الحكم مجلس الثورة الجديد في «الحكومة القومية لإعادة الإعمار».‏ ويُقدَّر ان ٠٠٠‏,٥٠ مواطن قُتلوا اثناء الثورة.‏

وكيف كانت حالة الاخوان؟‏ ظهر الاعلان التالي في خدمتنا للملكوت عدد تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ سنة ١٩٧٩:‏ «حالة الاخوة النفسية جيدة وهم يستأنفون اجتماعاتهم وعملهم الكرازي والتعليمي.‏ خلال فترة العنف كلها،‏ .‏ .‏ .‏ خسر ثلاثة من اخوتنا حياتهم.‏ وكثيرون صاروا مشرّدين.‏ ولكن بما ان الاغلبية يسكنون في بيوت مستأجرة،‏ كانت الخسارة الرئيسية سرقة ممتلكاتهم وتدميرها.‏ اما بالنسبة الى وسائل النقل،‏ فهي قليلة جدا.‏ لقد دُمّرت معظم الباصات،‏ والبنزين غير متوافر.‏ اما الطرق فيجري الآن العمل على إصلاحها».‏ لكنَّ شعب يهوه كانوا سيواجهون تجارب اعظم.‏

توقيف وترحيل

سرعان ما اتَّضح ان الحكومة الجديدة لم تكن موافقة على موقف شهود يهوه الحيادي.‏ على سبيل المثال،‏ صعّبت دائرة الجمارك استيراد المطبوعات.‏ بالاضافة الى ذلك،‏ سُنّ قانون في سنة ١٩٨١ فرض على كل الجمعيات المدنية والدينية ان تتسجّل ثانية ليُعتَرف بها شرعيا.‏ وكانت مسألة الوضع الشرعي السابق للاخوة ستُعلَّق حتى يُمنَحوا الاعتراف.‏ ولكن للأسف،‏ لم تُقبَل الطلبات ليتسجّلوا ثانية.‏

في ايلول (‏سبتمبر)‏ ١٩٨١،‏ أُوقف اندرو وميريام ريد فيما كانا في العمل الدائري في منطقة الهضاب الوسطى.‏ وطوال عشرة ايام احتُجزا في شتى السجون وفي ظروف مزرية جدا.‏ وأخيرا،‏ أُخذا الى المركز الرئيسي لشرطة الأمن،‏ حيث أُبقيا في زنزانتين منفصلتين معظم الوقت.‏ وفي محاولة لمعرفة اسماء الاخوة المسؤولين استُجوِبا مرارا،‏ وغالبا طوال ساعات كل مرة.‏ وقيل لكل منهما ان رفيق زواجه اعترف انه عميل لوكالة المخابرات المركزية،‏ مع انهما ليسا مواطنَين اميركيَّين!‏ وفي النهاية،‏ قيل لهما ان الامر كله حدث خطأ.‏ ومع انهما لم يُتّهما بأية تهمة رسمية،‏ فقد رُحّلا الى كوستاريكا.‏ الا انه قبل مغادرتهما،‏ قيل لهما ان رفض شهود يهوه حمل السلاح هو امر غير مقبول،‏ وإن كل مواطن في نيكاراڠوا يجب ان يكون مستعدا للمحاربة عن بلده.‏

تصرّفت لجنة الفرع بحكمة وكثّفت تدريب الاخوة المحليين للاشراف على العمل في حال أُقفل مكتب الفرع.‏ وفي الوقت نفسه،‏ عُقد مقرَّر تعليمي لنظار الدوائر وبدلائهم.‏ كما عُقدت سلسلة من صفوف مدرسة خدمة الملكوت للشيوخ وعدد من الخدام المساعدين وصفوف لمدرسة خدمة الفتح.‏ لكنَّ عقد التجمّعات الكبرى كان اصعب.‏

على سبيل المثال،‏ اكَّد رسميو مدينة ماسايا انه يمكن استخدام مدرّج المدينة لعقد احد المحفلين الكوريين بعنوان «ولاء الملكوت» اللذين كان من المقرَّر عقدهما في كانون الاول (‏ديسمبر)‏ سنة ١٩٨١.‏ لكنهم أخلفوا بوعدهم قبل ٣٦ ساعة فقط من المحفل.‏ لم يصدر القرار من مكتب المحافظ،‏ بل من الحكومة المركزية.‏ وعندما أُعلم الاخوة بالامر،‏ رتَّبوا قبل يوم من المحفل ان تُستخدَم مزرعة دجاج تملكها اخت كموقع بديل لعقد المحفل.‏ كان المكان يبعُد حوالي ثمانية كيلومترات عن ماناڠوا.‏ وبغية اعداد الموقع،‏ عمل المتطوّعون الليل كله.‏ وأُعلم اكثر من ٨٠٠‏,٦ اخ شفهيا بالمكان الجديد لعقد المحفل.‏

اقفال الفرع

يوم السبت في ٢٠ آذار (‏مارس)‏ سنة ١٩٨٢،‏ عند الساعة ٤٠:‏٦ صباحا،‏ كان إيان هانتر يعدّ الفطور لرفقائه المرسَلين.‏ وفي الخارج،‏ وصل باص يحمل رسميّين من دائرة الهجرة وجنودا مسلّحين برشاشات.‏ فأحاط الجنود بمكتب الفرع وبيت المرسَلين.‏ يقول إيان:‏ «امرنا الرسميون ان نحزم حقيبة واحدة وشنطة يد صغيرة دون ان يذكروا السبب.‏ ولم يقولوا سوى انهم سيأخذوننا الى بيت نمكث فيه بعض الوقت،‏ بانتظار بعض التحقيقات.‏ فانسلّ راينر تومپسون،‏ منسِّق لجنة الفرع،‏ الى المكتب بحذر واتصل ببيتَي المرسَلين الآخَرَين لإخبارهم بما يحدث».‏

تتذكر روبي بلوك:‏ «تعلّمت في ذلك اليوم المعنى الحقيقي لكلمات بولس:‏ ‹لا تحملوا همّا من جهة اي شيء،‏ بل في كل شيء لتُعرَف طلباتكم لدى اللّٰه بالصلاة والتضرع .‏ .‏ .‏ وسلام اللّٰه الذي يفوق كل فكر يحرس قلوبكم وقواكم العقلية›.‏ (‏فيلبي ٤:‏٦،‏ ٧‏)‏ كان جندي مسلّح يراقبنا من المطبخ فيما قدّم راينر تومپسون صلاة وقلنا جميعا ‹آمين› من كل قلبنا.‏ بعد ذلك،‏ شعرنا بهدوء قلبي تام،‏ مع اننا لم نكن نعلم كيف سينتهي ذلك اليوم.‏ وكنا واثقين انه مهما حدث،‏ فسيمنحنا يهوه القوة لنتغلب على المصاعب.‏ هذا الدرس سأبقيه في ذهني ولن انساه ابدا».‏

يشرح الاخ هانتر ما حدث لاحقا ويقول:‏ «اركبونا في الباص وأخذونا الى مزرعة بنّ قديمة في الريف.‏ وقلت للرسميين اننا،‏ بوصفنا أجانب،‏ لدينا الحق في الاتصال بسفاراتنا.‏ فأجابوا ان حالة الطوارئ التي أُعلنت في بداية الاسبوع ابطلت هذه الحقوق وأن بإمكاننا الاتصال بمن نشاء عندما نصير خارج البلد.‏ كان ذلك اول تلميح اننا سنُطرد من نيكاراڠوا».‏ في ذلك اليوم،‏ نُقِل المرسَلون التسعة الذين يعيشون في الفرع في فرق منفصلة الى حدود كوستاريكا.‏

في تلك الاثناء،‏ عندما تلقّى المرسَلون في البيتَين الآخَرَين اتصال الاخ تومپسون،‏ تصرّفوا بسرعة.‏ فبمساعدة الاخوة المحليين،‏ نقلوا معدات كثيرة،‏ بما في ذلك مطبعة أوفست والكثير من الممتلكات الشخصية.‏ وعندما وصل رسميّو دائرة الهجرة،‏ فاجأهم ان يجدوا البيتَين خاليَين تقريبا والمرسَلين يحزمون حقائبهم.‏ في تلك الليلة،‏ أُخذ المرسَلون العشرة من بيتَي المرسَلين هذين الى المطار.‏ تروي فيليس پورتر:‏ «قالوا اننا مناهضون للثورة،‏ ومع ذلك لم يفتشونا ولا فتشوا حقائبنا.‏ وعلى الرغم من عدم حيازتنا تذاكر سفر،‏ اظهرت البطائق على حقائبنا اننا مرحّلون الى پاناما».‏ ولم يبقَ في البلد إلا مرسَلان —‏ زوجان بريطانيان يقومان بالعمل الدائري —‏ وقد رُحّلا بعد بضعة شهور.‏

في غضون ايام،‏ اجتمع المرسَلون ثانية في فرع كوستاريكا.‏ وهناك نالوا تعيينات من الهيئة الحاكمة لمتابعة خدمتهم في البلدان المجاورة:‏ الإكوادور،‏ بيليز،‏ السلڤادور،‏ وهندوراس.‏ الا ان راينر وجانّ تومپسون وإيان هانتر بقوا في كوستاريكا بعض الوقت ليكونوا على اتصال بالاخوة الذين صاروا يشرفون على العمل في نيكاراڠوا.‏

وكيف دبّر الاخوة في نيكاراڠوا امورهم؟‏ اخبر الاخ هانتر:‏ «لقد ذرف اخوتنا الاعزاء الدموع لسماعهم خبر ترحيلنا،‏ لكنهم يواظبون على العمل دون ابطاء.‏ والذين تعيّنوا في لجنة البلد يأخذون القيادة بفعالية،‏ ونحن واثقون انهم سيقومون بعمل جيد».‏ يتذكر فيليكس پيثرو پاييس،‏ ناظر دائرة من نيكاراڠوا منذ زمن طويل،‏ كيف شعر الاخوة حيال رحيل المرسَلين:‏ «شعرنا بحزن عميق.‏ فقد بذلوا انفسهم فعلا وبقوا اولياء.‏ ومثالهم شجّع الاخوة ووضع اساسا متينا للعمل في هذا البلد».‏

نشاطنا مقيَّد ولكن ليس محظورا

احيانا،‏ تسيء الحكومات فهم موقف شهود يهوه الحيادي حيال السياسة،‏ الحرب،‏ والنزاعات الاجتماعية.‏ ويؤدي ذلك غالبا الى مواقف متناقضة تجاه شعب اللّٰه.‏ على سبيل المثال،‏ تحت حكم سوموزا خلال خمسينات وستينات الـ‍ ١٩٠٠،‏ اتّهمهم المقاومون بأنهم شيوعيون.‏ لكن الثوار الساندينيين يعتبرون الاخوة الآن عملاء وكالة المخابرات المركزية الاميركية.‏ وقد انضمت اليهم وسائل الاعلام،‏ مصنّفة اياهم انهم «مناهضون للثورة».‏

مع ذلك لم يُحظَر عمل شهود يهوه،‏ رغم ان الفترة بين ١٩٨٢ و ١٩٩٠ كانت موسومة بقيود واضحة لحرية عبادتهم.‏ على سبيل المثال،‏ لم يكن بإمكانهم ادخال المطبوعات الى البلد.‏ وأُنشئ ايضا نظام لإخضاع نشاطاتهم،‏ وكذلك نشاطات الناس عامة،‏ للمراقبة عن كثب.‏

مراقَبون من الجواسيس في الأحياء

يذكر كتيّب لمكتبة الكونڠرس:‏ «مباشرة بعد الثورة،‏ أنشأت ايضا جبهة التحرير الوطني الساندينيّة منظمات كبيرة تمثّل الجماعات الاكثر شعبية من اصحاب المصالح المشتركة في نيكاراڠوا».‏ وقد شملت هذه الجماعات عمّالا،‏ جمعية نسائية،‏ مربِّي ماشية،‏ مزارعين،‏ وفلاحين.‏ ووفقا للكتيّب،‏ «بحلول سنة ١٩٨٠ ضمت منظمات الثوار الساندينيين حوالي ٠٠٠‏,٢٥٠ مواطن من نيكاراڠوا».‏ وإحدى اقوى هذه المنظمات كانت «لجان الدفاع الساندينية» التي على غرار اللجان الشيوعية.‏ وكانت هذه المنظمة مؤلفة من لجان موجودة في الاحياء.‏ وتضمّن عملها اجراء احصاءات على نطاق احياء المدن،‏ مما جعلها «تعرف مكان وجود كل شخص»،‏ بحسب المرجع المذكور آنفا.‏ فكانت اداة فعالة لجمع المعلومات ونشرها لمصلحة الحكومة.‏

وسرعان ما صارت نشاطات شهود يهوه مراقَبة عن كثب،‏ وبالأكثر بسبب حملة الدعاية القوية التي أُطلقت ضدهم.‏ فكانت لجان الدفاع الساندينية الموجودة في الاحياء تبلّغ قانونيا السلطات الساندينية عن الاشخاص الذين يُشتبَه انهم يقومون بنشاطات مناهضة للثورة ولديهم «ايديولوجيات مغايرة».‏ وغالبا ما كان عملاء «المديرية العامة لأمن الدولة»،‏ وهي شرطة سرية،‏ يوقفون هؤلاء الاشخاص.‏

شملت مهام لجان الدفاع الساندينية تنظيم حراسة ليلية.‏ فكان يُطلَب من الناس العاديين،‏ الرجال والنساء،‏ ان يشتركوا في الحراسة ويُبلِّغوا عن اي مجرم او نشاط مناهض للثورة في الاحياء التي يسكنونها.‏ لم يشترك الشهود في هذه الحراسة،‏ ولم يسمحوا باستخدام بيوتهم لعقد الاجتماعات الاسبوعية للجان الدفاع الساندينية.‏ الا انهم قبلوا القيام بأعمال طوعية اخرى،‏ مثل تنظيف الشوارع.‏ ومع ذلك،‏ اعتُبروا متعصبين وخطرا على الدولة.‏ يقول احد الاخوة:‏ «خلال معظم تلك السنوات،‏ كانت الكلمات ‹نحن نراقبك› مدهونة على واجهة بيتي».‏

حذرون وفي الوقت نفسه جريئون

كان الاخوة حذرين عند حضور الاجتماعات المسيحية والاشتراك في الخدمة لكي لا يجذبوا انتباها غير ضروري اليهم.‏ فكانوا يعقدون الاجتماعات في فرق صغيرة بعيدا عن الانظار،‏ إما في بيوت خاصة او في قاعات ملكوت لا تُعرَف انها قاعات.‏ وفي بعض الاحياء،‏ لم يكن الاخوة يرنّمون ترانيم الملكوت في الاجتماعات.‏ وبمرور الوقت،‏ لم يعد الناشرون يكتبون اسماءهم على النماذج والتقارير المستعملة في الجماعة واستبدلوها بأرقام.‏ بالاضافة الى ذلك،‏ لم يكن المهتمون يُدعون الى الاجتماعات الا اذا درسوا ستة اشهر على الاقل وصار تقدمهم الروحي ظاهرا.‏

كانت المحافل تُعقَد على نطاق اصغر وببرنامج اقصر.‏ فكانت مجامل الخطابات والمواد الاخرى تُرسَل الى كل جماعة،‏ حيث ينظّم الشيوخ فيها البرنامج ويقدّمونه لجماعتهم مستعينين بخدام مساعدين اكفاء.‏ وكان اعضاء لجنة البلد والنظار الجائلون يزورون اكبر عدد ممكن من هذه المحافل.‏

كان الاخوة يُخبَرون شفهيا بأماكن عقد المحافل،‏ ولم يُلغَ اي محفل.‏ ولكن لزم احيانا تغيير بعض المواقع قبل وقت قصير من المحفل.‏ على سبيل المثال،‏ في سنة ١٩٨٧،‏ جُهّز الفناء الخلفي لبيت اخ في احدى القرى لعقد محفل يشمل حوالي ٣٠٠ شخص.‏ وفجأة،‏ ظهر مسؤول عسكري برفقة رجاله وسأل:‏ «ما هذا كله؟‏».‏

عرف الاخ من الجزمة التي ينتعلها المسؤول انه ينتمي الى سلك امن الدولة،‏ فأجابه قائلا:‏ «سنقيم حفلة».‏ فاكتفى المسؤول بذلك وغادر.‏ وإذ عرف الاخوة والاخوات ان السلطات ارتابت بالامر،‏ عملوا كل تلك الليلة في تفكيك كل شيء.‏ وبحلول الساعة ٠٠:‏٥ صباحا،‏ كانت الكراسي،‏ المنصة،‏ وكل معدات الطبخ قد نُقلت ووُضعت في مكان آخر يبعد حوالي كيلومتر ونصف.‏ وقد أُعلِم الاخوة بالموقع الجديد بواسطة شبّان اصحّاء البنية.‏ في وقت لاحق من ذلك الصباح،‏ وصلت شاحنة محمّلة جنودا مسلّحين الى الموقع الاصلي آملين ان يوقفوا سير المحفل،‏ يأخذوا الشبان الى الخدمة العسكرية،‏ ويعتقلوا الاخوة الذين يأخذون القيادة.‏ ولكنهم لم يجدوا الا صاحب البيت.‏

سأل المسؤول:‏ «اين هم الناس؟‏».‏

اجاب الاخ:‏ «اقمنا حفلة الليلة الماضية،‏ ولكنها انتهت».‏

سأل المسؤول:‏ «هل كان عندكم محفل؟‏».‏

قال الاخ:‏ «تأكد بنفسك.‏ لا يوجد شيء هنا».‏

تابع المسؤول،‏ اذ لم يقتنع بالجواب:‏ «ماذا عن الخِيَم التي كانت منصوبة هنا البارحة؟‏».‏

كرر الاخ:‏ «الحفلة انتهت.‏ لقد اخذوا كل شيء وذهبوا».‏

بعد ذلك،‏ غادر الجنود.‏ وفي تلك الاثناء،‏ كان الاخوة يتمتعون ببرنامج بنّاء روحيا في الموقع الآخر.‏

قال يسوع:‏ «ها انا أرسلكم كخراف وسط ذئاب؛‏ فكونوا حذرين كالحيات،‏ وأبرياء كالحمام».‏ (‏متى ١٠:‏١٦‏)‏ وقد طبَّق الناشرون هذه الكلمات،‏ ليس فقط في ما يتعلق بالاجتماعات والمحافل،‏ بل ايضا في ما يتعلق بخدمة الحقل.‏ فتجنبوا تشكيل فرق كبيرة وخدموا بحرص شديد اثنين اثنين في المقاطعات المعيّنة لهم.‏ يشرح ناظر الدائرة فيليكس پيثرو پاييس:‏ «وجب ان نكون حذرين جدا.‏ لم نكن نحمل في الخدمة سوى كتابنا المقدس.‏ وكل يوم كان يرافقني اخ مختلف في الخدمة.‏ وعند زيارة بعض الجماعات،‏ كنت اذهب الى فريق لدرس الكتاب مساء الثلاثاء،‏ الى فريق آخر يوم الخميس،‏ وإلى فريق آخر يوم الاحد.‏ ولكن في بعض انحاء البلد،‏ كانت هذه الاجراءات الاحتياطية اقل صرامة».‏

مصادرات وتوقيفات

ذات ليلة في تموز (‏يوليو)‏ سنة ١٩٨٢،‏ قامت حشود من الرعاع تضم ما يتراوح بين ١٠٠ وأكثر من ٥٠٠ شخص،‏ ترافقهم عناصر من سلك امن الدولة،‏ باقتحام عدة قاعات ملكوت في شتى انحاء البلد والاستيلاء عليها «باسم الشعب».‏ وفي ٩ آب (‏اغسطس)‏،‏ بين الساعة السابعة والتاسعة مساء،‏ استُولي ايضا على خمس قاعات ملكوت اخرى،‏ قاعة محافل،‏ ومبنى الفرع في شارع إل رايسون.‏ وكان ستة اخوة من نيكاراڠوا والزوجان المرسَلان الوحيدان الباقيان لا يزالون يعيشون في الفرع بغية الحفاظ عليه،‏ بعد ترحيل المرسَلين في آذار (‏مارس)‏.‏ ولكن في النهاية،‏ اجبرت السلطات هؤلاء الاخوة على مغادرة المكان،‏ بدعم من الرعاع المتهكمين،‏ دون ان تسمح لهم بأخذ ممتلكاتهم الخاصة.‏

سمحت الحكومة للجان الدفاع الساندينية ان تضع يدها على قاعات الملكوت المحتلة،‏ التي صارت تُعتبَر «مُلك الشعب».‏ وكان من المفترض إجراء تغييرات في القاعات بحيث تصير ملائمة للاستعمال العام.‏ وفي النهاية،‏ جرى احتلال ٣٥ مِلكية من اصل ٥٠،‏ مع انها لم تُصادَر قط رسميا.‏

وسط هذا الحماس الوطني،‏ وُضع الاخوة المسؤولون تحت مراقبة شديدة وكانوا يُهدَّدون في اغلب الاحيان.‏ على سبيل المثال،‏ في بعض الاحياء،‏ تجمع الرعاع المنضمون الى لجان الدفاع الساندينية امام بيوت الاخوة وضايقوهم طوال ساعات،‏ مرددين التّهم والشعارات السياسية.‏ وفتش رجال شرطة امن الدولة البيوت ونهبوا البعض منها.‏ وأُوقف عدد من الشيوخ،‏ بمن فيهم اعضاء في لجنة البلد،‏ وأُسيئت معاملتهم.‏

كان جويل أوبريڠون،‏ ناظر دائرة في ذلك الوقت،‏ احد الشيوخ الاوائل الذين مرّوا بهذا الاختبار.‏ ففي ٢٣ تموز (‏يوليو)‏ سنة ١٩٨٢،‏ احاط عناصر من سلك امن الدولة بالبيت الذي كان يستضيفه هو وزوجته نيلا وأوقفوه.‏ وبعد خمسة اسابيع من المساعي المستمرة التي قامت بها زوجته،‏ سُمح لها بأن ترى زوجها،‏ مدة ثلاث دقائق فقط وبحضور عنصر مسلّح.‏ كان واضحا انهم اساءوا معاملته،‏ لأن نيلا لاحظت انه نحيل ويستصعب التكلم.‏ قال لها احد العناصر:‏ «جويل لا يريد ان يتعاون معنا».‏

بعد ٩٠ يوما من الاعتقال،‏ أُطلق اخيرا سراح جويل،‏ وقد خسر ٢٠ كيلوڠراما من وزنه.‏ أُوقف ايضا شيوخ في انحاء اخرى،‏ استُجوبوا،‏ ثم أُطلق سراحهم.‏ وكم قوّى مثال استقامتهم ايمان الاخوة!‏ —‏ انظر الاطار «فترة احتجاز قصيرة عند الشرطة السرية»،‏ في الصفحات ٩٩-‏١٠٢.‏

التجنيد الاجباري يمتحن الاحداث المسيحيين

تأثر الاخوة الشبان خصوصا بالقانون الذي صدر في سنة ١٩٨٣ المتعلق بنظام تجنيد اجباري شامل يُعرَف بـ‍ «الخدمة العسكرية الوطنية».‏ فالذكور الذين تتراوح اعمارهم بين ١٧ و ٢٦ سنة ملزَمون قانونيا بقضاء سنتين في الخدمة العسكرية الفعلية وسنتين أخريَين في قوات الاحتياط.‏ وعندما يلتحقون بالجيش،‏ يؤخذون مباشرة الى معسكر للتدريب.‏ لم يكن هنالك اي ترتيب يتعلق بالمعترضين بسبب الضمير؛‏ لذلك عنى رفْض التدريب الاحتجاز في انتظار المحاكمة،‏ ثم حكما بالسجن مدة سنتين.‏ وقد واجه الاخوة هذا الامتحان بشجاعة،‏ مصممين على البقاء اولياء ليهوه.‏

على سبيل المثال،‏ في ٧ شباط (‏فبراير)‏ سنة ١٩٨٥،‏ كان ڠيلييرمو پونسيه،‏ فاتح قانوني في ماناڠوا في الـ‍ ٢٠ من عمره،‏ في طريقه لعقد بعض الدروس البيتية في الكتاب المقدس عندما اوقفته الشرطة.‏ ولأنه لا يملك بطاقة عسكرية أُرسل الى معسكر تدريب.‏ ولكن بدلا من ان يحمل السلاح،‏ ابتدأ يشهد للمجنّدين الاحداث.‏ اذ رأى احد القواد ذلك،‏ قال بحدّة:‏ «لسنا في كنيسة؛‏ نحن في معسكر.‏ هنا،‏ عليك ان تطيعنا!‏».‏ فأجاب ڠيلييرمو بذكر كلمات الاعمال ٥:‏٢٩‏:‏ «ينبغي ان يُطاع اللّٰه حاكما لا الناس».‏ فانتزع القائد الغضبان،‏ وهو مدرِّب عسكري كوبي،‏ الكتاب المقدس منه وقال مهدّدا:‏ «يجب ان نتحدث الليلة» —‏ مما عنى ان ڠيلييرمو سيخضع لشكل من اشكال التعذيب النفسي بغية اضعاف عزيمته.‏

من المفرح ان القائد لم ينفِّذ تهديده.‏ ولكن بعد ثلاثة ايام،‏ نُقل ڠيلييرمو الى سجن أُبقي فيه طوال الاشهر التسعة التالية في اوضاع مزرية.‏ ومع ذلك تابع خدمة الفتح،‏ اذ كان يعقد دروسا في الكتاب المقدس وكذلك اجتماعات داخل السجن.‏ وفي وقت لاحق خلال هذه الفترة الصعبة،‏ صار ڠيلييرمو دعما قيّما للجنة البلد.‏

بدلا من دخول السجن،‏ كان بعض الاخوة الاحداث يُنقَلون الى الجبال للانضمام الى الوحدات العسكرية المدعوة «كتائب الحرب غير النظامية».‏ وقد تألفت كل كتيبة من خمس او ست سرايا تضم كل سرية منها ٨٠ الى ٩٠ رجلا مدرّبا على القتال في ادغال الجبال،‏ حيث حصلت اعنف المعارك مع الكونتراس (‏محاربون مقاومون للثوار الساندينيين)‏.‏ ومع ان الاخوة رفضوا لبس البدلة العسكرية وحمل السلاح،‏ أُرغموا على الذهاب الى ساحة المعركة،‏ كما عوقبوا وشُتموا.‏

وقد تعرّض جيوڤاني ڠايتان البالغ الثامنة عشرة من العمر لمثل هذه المعاملة.‏ قبيل المحفل الكوري في كانون الاول (‏ديسمبر)‏ سنة ١٩٨٤ الذي كان ينوي ان يعتمد فيه،‏ حاولوا اجباره على الانضمام الى الجيش.‏ فأُرسل الى معسكر تدريب حيث حاول الجنود طوال ٤٥ يوما اجباره على تعلم استعمال البندقية والقتال في الادغال.‏ ولكن انسجاما مع ضميره المدرّب على الكتاب المقدس،‏ رفض جيوڤاني ‹تعلّم الحرب›.‏ (‏اشعياء ٢:‏٤‏)‏ ولم يلبس بدلة عسكرية ولا حمل السلاح.‏ ومع ذلك،‏ فقد أُجبر على السير مع الجنود طوال الاشهر الـ‍ ٢٧ التالية.‏

يقول جيوڤاني:‏ «كنت اقوّي نفسي بالصلاة بلا انقطاع،‏ بالتأمل في ما تعلّمته في الماضي،‏ وبالبشارة لأي جندي يظهر اهتماما.‏ وغالبا ما كنت اتذكر كلمات صاحب المزمور:‏ ‹ارفع عينيَّ الى الجبال من حيث يأتي عوني.‏ معونتي من عند الرب صانع السموات والارض.‏ لا يدع رِجلك تزل.‏ لا ينعس حافظك›».‏ —‏ مزمور ١٢١:‏١-‏٣؛‏ ١ تسالونيكي ٥:‏١٧‏.‏

وعلى الرغم من إقحام جيوڤاني وسط المعارك في حوالي ٤٠ معركة،‏ فقد بقي حيا ولم يُصَب بأذى.‏ وبعد اطلاق سراحه،‏ اعتمد في ٢٧ آذار (‏مارس)‏ سنة ١٩٨٧،‏ وبُعيد ذلك انخرط في خدمة الفتح.‏ وقد مرّ العديد من الاخوة الاحداث الامناء باختبارات مماثلة.‏ —‏ انظر الاطار «أُقحمتُ في ساحة المعارك»،‏ في الصفحتين ١٠٥-‏١٠٦.‏

الدفاع عن موقفهم الحيادي

اتّهمت لجان الدفاع الساندينية والصحافة التي تسيطر عليها الحكومة شهودَ يهوه زورا بأنهم يلجأون الى الخدمة من بيت الى بيت لشن حملة ضد «الخدمة العسكرية الوطنية».‏ وادَّعوا ان الشهود يعرّضون الامن القومي للخطر لأنهم يقنعون الشبيبة في نيكاراڠوا برفض الخدمة العسكرية.‏ وعلى الرغم من ان هذه الاتّهامات باطلة،‏ فقد تكررت كثيرا الى حدّ انها جعلت المدّعين العامين والقضاة ينحازون.‏ وما زاد الطين بلّة هو ان قادةَ كنائس انجيلية بارزة،‏ يعترفون بتأييدهم للثورة،‏ قاموا بتوجيه تهم الى الذين يبقون حياديين لأسباب دينية وصنّفوهم بأنهم «اعداء الشعب».‏

اهتم احد المحامين الشهود بقضايا استئناف تتعلق بـ‍ ٢٥ أخا شابا حُكم عليهم بالسجن سنتين لرفضهم الخدمة العسكرية.‏ ولأن الاعتراض بسبب الضمير لم يكن معترفا به رسميا،‏ كان هدف الاستئناف تخفيض مدة الاحكام،‏ بالتكلم عن سجل المتَّهمين النظيف ورضوخهم عند الاعتقال.‏ ونتيجة لذلك،‏ خُفّضت بعض الاحكام،‏ ولكن ليس كلها؛‏ وقد تراوح التخفيض بين ٦ و ١٨ شهرا.‏

يقول الاخ هوليو بندانيا الذي حضر المحاكمات:‏ «من الجدير بالملاحظة انه باستثناء شهود يهوه،‏ لم يرفض اي حدث الخدمة العسكرية لأسباب دينية.‏ وقد كنت فخورا ان ارى احداثنا الذين في الـ‍ ١٧ من العمر يدافعون عن حيادهم باقتناع راسخ امام قاضٍ ومدّعٍ عام عسكري وهم محاطون بمشاهدين مقاومين».‏ —‏ ٢ كورنثوس ١٠:‏٤‏.‏

الطباعة في السرّ

خلال هذه الفترة،‏ استمرت الهيئة الحاكمة بمنح العون والتوجيه للاخوة في نيكاراڠوا من خلال فرع كوستاريكا ولجنة البلد في نيكاراڠوا.‏ ولكن بما ان استيراد المطبوعات كان محظورا،‏ فكيف زُوّد ‹الطعام في حينه›؟‏ (‏متى ٢٤:‏٤٥‏)‏ مرة اخرى،‏ مهّد يهوه السبيل.‏

في سنة ١٩٨٥،‏ تمكن الاخوة من الحصول على مواد درس برج المراقبة والمواد الاخرى المؤسسة على الكتاب المقدس بمساعدة دار طباعة.‏ ولكنّ اتِّباع هذا الاسلوب كان امرا محفوفا بالمخاطر،‏ لأنه يتيح للمقاومين إلحاق الضرر بعملنا.‏ لذلك،‏ قُرّر استخدام مطبعة الأوفست التي كانت تُستعمل لطباعة برامج المحافل ودعوات الذِّكرى حتى وقت اغلاق الفرع.‏ وشُغّلت المطبعة في بيت اخت تعيش خارج ماناڠوا.‏

ولكن للأسف،‏ في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏ من تلك السنة،‏ عرفت الحكومة بأمر المطبعة وصادرتها.‏ لم يدَع الاخوة هذه العقبة توقف العمل،‏ فبادروا الى تصليح آلة نسخ قديمة،‏ وسمّوها «الديك».‏ كانت آلة النسخ هذه تُستخدَم سابقا لطبع اوراق الدعوة،‏ الرسائل،‏ والبرامج.‏ وعندما صار صعبا الحصول على قطع غيار،‏ تمكّن الاخوة من الحصول على آلة نسخ مستعملة اخرى،‏ وسمّوها «الصوص».‏ ولاحقا،‏ ارسل اليهم فرع السلڤادور آلة اخرى.‏ وإذ التصقوا بالاسماء المستوحاة من المزرعة،‏ سمّوا هذه الآلة «الدجاجة».‏

كانت طريقة الطباعة اقل تطورا،‏ ولكن ليست اقل فعالية.‏ وقد شملت استخدام ألواح نسخ،‏ دعاها الاخوة لاس تابليتاس،‏ اي الالواح الصغيرة.‏ كانت هذه الآلة من صنع الاخ پيثرو رودريڠس،‏ وهو نجّار اثاث اعتمد في سنة ١٩٥٤.‏ وكانت مؤلفة من اطارين مستطيلين تجمعهما مفصّلات.‏ في الاطار العلوي ثبِّتت قطعة قماش مخرّمة.‏ وفي الاطار السفلي،‏ او القاعدة،‏ ثبِّت لوح زجاجي او خشبي.‏ كان التصميم بسيطا،‏ وكذلك عملية الطباعة.‏ فكانت توضع في الاطار العلوي ورقة ستانسِل مطبوعة بحيث يكون الجانب الخلفي منها على قطعة القماش المخرّمة.‏ وكانت توضع ورقة نظيفة على الاطار السفلي.‏ ثم تُمرّر دُحروجة الحبر على قطعة القماش المخرّمة،‏ وبعد كل طبعة تُدخَل ورقة جديدة.‏

رغم ان طريقة الطباعة هذه مملة،‏ فقد انتجت عدة مطبوعات،‏ بما فيها كتاب الترانيم رنِّموا تسابيحَ ليهوه الذي يحتوي على الترانيم الـ‍ ٢٢٥ كلها.‏ يتذكر إدموندو سانشيس الذي كان يشارك في الطباعة:‏ «بعد ان صار الاخوة ماهرين في استعمال الالواح الصغيرة طبعوا ٢٠ صفحة في الدقيقة.‏ وجملة،‏ انتجنا حوالي ٠٠٠‏,٥ نسخة من كتاب الترانيم وحده».‏

كانت زوجة إدموندو،‏ إلدا،‏ من بين اوائل الاخوات اللواتي ساعدن في إعداد اوراق الستانسِل لاستعمالها في آلات النسخ.‏ كانت تستخدم آلتها الكاتبة اليدوية في طبع مواد دروس برج المراقبة على اوراق ستانسِل،‏ مبتدئة في ساعات الصباح الباكرة وعاملة في احيان كثيرة حتى وقت متأخر في الليل،‏ رغم كونها امّا لولدَين.‏ تتذكر:‏ «كان إدموندو يعطيني نسخة من المجلة التي يتسلمها من كوستاريكا.‏ لم اعرف قط عدد فرق الطباعة او مكان عملهم؛‏ كنت اعرف فقط الجزء المعيّن لي من العمل.‏ وكنت اعرف ايضا انه اذا افتُضح امرنا،‏ يُصادَر بيتنا،‏ اثاثنا —‏ كل شيء لدينا —‏ ونُعتقَل،‏ وربما ينتهي بنا الامر ان نصير من ‹المفقودين›.‏ الا ان محبة يهوه وخوفه طردا خوف الانسان الذي كان من الممكن ان نشعر به».‏

اماكن الطباعة

يتذكر ڠيلييرمو پونسيه كيف كانت اماكن الطباعة.‏ لقد كان مصحّحا لنُسخ الطباعة وصِلة وصل بين الاخوة الذي يعدّون اوراق الستانسِل والذين يطبعونها ويوزِّعونها.‏ يشرح الاخ پونسيه:‏ «أُقيمت اماكن الطباعة في بيوت بعض عائلات الشهود.‏ وكانت عبارة عن غرفة مبنية داخل غرفة مما جعل مكان العمل ضيقا.‏ ولإخفاء صوت آلة النسخ،‏ وضعنا مسجّلة او راديو خارج غرفة الطباعة وعلّينا الصوت».‏

عمل الاخوة وهم يتصببون عرقا من تسع الى عشر ساعات يوميا داخل هذه الغرف الصغيرة في نسْخ برج المراقبة او مطبوعات اخرى.‏ وعندما كان الجيران يحاولون معرفة ما يجري او عندما كان شخص ما يبلِّغ السلطات،‏ غالبا ما لزم نقل كل شيء فورا الى بيت آخر.‏

اعتُبر هذا العمل بمثابة الخدمة في بيت ايل،‏ والذين شاركوا فيه كانوا اخوة احداثا عزابا.‏ كان فيليپيه تورونيو في الـ‍ ١٩ من عمره ومعتمدا حديثا عندما دُعي الى الخدمة في احد اماكن الطباعة.‏ يقول فيليپيه:‏ «اول شيء رأيته هو غرفة صغيرة جدا يكاد لا يدخلها الهواء عابقة برائحة قوية منبعثة من السائل الذي يُستعمَل في تصحيح الاخطاء في اوراق الستانسِل.‏ كانت الحرارة لا تُطاق،‏ وكان يُستخدَم مصباح صغير للاضاءة».‏

كانت هنالك تحديات اخرى ايضا.‏ مثلا،‏ عندما كانت تخرب احدى الآلات،‏ الامر الذي حدث مرارا،‏ لم يكن بالامكان اخذها الى محل للتصليح.‏ فالناس كانوا سيسألون:‏ ‹لمن آلة النسخ هذه؟‏ ماذا يُطبع عليها؟‏ هل العمل مرخّص فيه من الحكومة المركزية؟‏›.‏ لذلك لزم ان يصلحها الاخوة بأنفسهم وفي بعض الاحيان لزم ان يصنعوا لها قطع غيار.‏ كان انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر مشكلة اخرى واجهها الاخوة.‏ يتذكر الاخ پونسيه:‏ «لم تُردْ فرق الطباعة ان تتأخر في الانتاج.‏ فكنت اجدهم احيانا يشتغلون على ضوء مصباح يعمل على الكيروسين،‏ وأنوفهم ملطّخة بالسخام.‏ ان التقدير،‏ الموقف العقلي الايجابي،‏ وروح التضحية بالذات التي اعرب عنها هؤلاء الشباب الرائعون هي ما حثني ان اواظب على العمل».‏

بعض الذكريات العزيزة

يتذكر فيليپيه تورونيو بإعزاز سنواته الاربع في الطباعة بالسرّ.‏ يقول:‏ «كنت افكر دائما ان الاخوة ينتظرون بشوق هذا الطعام الروحي المهم.‏ لذلك خدمنا بفرح،‏ رغم التقييدات الكثيرة التي فُرضت علينا».‏ ويتذكر أومَر ويدي،‏ الذي اشترك في هذا العمل من حزيران (‏يونيو)‏ ١٩٨٨ حتى نهايته في ايار (‏مايو)‏ ١٩٩٠:‏ «كان جوّ المودة الاخوية احد الامور التي اثّرت فيّ بعمق.‏ فقد عُلِّم الاشخاص الجدد التوّاقون الى التعلّم شتى الاعمال بصبر.‏ ورغم ان اوضاع العمل لم تكن مثالية،‏ الا ان المتطوعين،‏ مع انهم شبان،‏ كانوا اشخاصا روحيين يقدّرون تقديرا رفيعا التضحيات المشمولة بشكل الخدمة هذا».‏

خدم جيوڤاني ڠايتان ايضا في اماكن الطباعة.‏ يتذكر:‏ «ما ساعد على دعمنا هو التقدير ليهوه وهيئته.‏ فلم يحصل احد منا آنذاك على بدل نفقات.‏ ولكنّ ذلك لم يشغل بالنا؛‏ فكان لدينا ما نحتاج اليه.‏ مررت،‏ شخصيا،‏ بحالات كثيرة كان عليّ فيها ان اعتمد كليا على يهوه.‏ فلم تكن حاجاتي المادية تشغل بالي كثيرا.‏ والاخوة امثال ڠيلييرمو پونسيه،‏ نلسون ألبارادو،‏ وفيليپيه تورونيو،‏ رغم حداثة سنهم،‏ كانوا امثلة رائعة لي.‏ والاخوة الاكبر سنا الذين اخذوا القيادة كانوا ايضا مصدر تشجيع لي.‏ عندما اتذكر الماضي،‏ لا يسعني إلا القول ان كل ما اختبرته اغنى حياتي حقا».‏

ان جميع الذي اشتركوا في النشاطات السرية رأوا دعم يهوه بشتى الطرق،‏ حتى في ما يتعلق بعمل الطباعة نفسه.‏ يقول الاخ ڠايتان:‏ «عادة،‏ كانت ورقة الستانسِل الواحدة تُنتِج ٣٠٠ الى ٥٠٠ طبعة.‏ ولكننا تمكنا من استعمالها لطبع ٠٠٠‏,٦ طبعة!‏».‏ ولماذا كان من الضروري زيادة الكمية المنتَجة باستعمال نفس اوراق الستانسِل ومواد الطباعة الاخرى؟‏ كانت الكميات محدودة في البلد وغير موجودة إلا في متاجر تسيطر عليها الدولة.‏ لذلك كان سيُلاحَظ بسرعة ايّ شراء لكميات كبيرة،‏ مما يجعل الشاري عرضة للاعتقال.‏ نعم،‏ لقد بارك يهوه جهود الاخوة،‏ لأنه باستثناء مطبعة الأوفست الاصلية،‏ لم تجد السلطات ولم تقفل ايّا من اماكن الطباعة.‏

ساهم بعض الاخوة في عمل الطباعة رغم انهم اضطروا في الوقت نفسه الى الحصول على عمل دنيوي ليعيلوا عائلاتهم.‏ وكثيرا ما تعرَّضوا للخطر نتيجة ذلك.‏ على سبيل المثال،‏ اوصل كثيرون منهم المواد المطبوعة الى كل انحاء البلد،‏ مستخدمين سياراتهم الخاصة.‏ وكانوا احيانا يجولون اليوم بكامله،‏ مارّين بعدة حواجز تفتيش عسكرية.‏ ورغم معرفتهم انهم قد يخسرون سياراتهم ويُعتَقلون ويُسجَنون اذا ما اكتُشف امرهم،‏ لم يخافوا.‏ ولا شك ان هؤلاء الاخوة احتاجوا الى الدعم التام من زوجاتهم،‏ اللواتي لعب البعض منهن دورا حيويا خلال هذه الفترة الصعبة،‏ كما سنرى الآن.‏

نساء روحيات شجاعات

اظهرت عدة نساء مسيحيات شجاعة وولاء مميزين خلال سنوات الحظر في نيكاراڠوا.‏ فبالتعاون مع ازواجهن،‏ فتحن بيوتهن لتجري فيها الطباعة سرّا،‏ وغالبا ما كان ذلك طوال عدة اشهر في كل مرة.‏ كما انهن اعددن الطعام على نفقتهن الخاصة لتقديمه للعاملين في الطباعة.‏ يتذكر نلسون ألبارادو،‏ الذي ساعد في تنسيق عمل الطباعة:‏ «نشأت علاقة مسيحية حميمة بيننا نحن الاخوة الشبان وبين هؤلاء الاخوات.‏ فقد صرن امهات لنا.‏ وجعلناهن يعملن كثيرا،‏ تماما كما يفعل الابناء لأمهاتهن.‏ احيانا،‏ كنا نشتغل حتى الساعة الرابعة صباحا لننتج الكميات المطلوبة في الاوقات المعينة،‏ وخصوصا عند وجود اعمال اضافية،‏ مثل كراس فاحصين الاسفار المقدسة يوميا.‏ وأحيانا كان اثنان منا يعملان بالتناوب ٢٤ ساعة تقريبا.‏ ومع ذلك،‏ كانت الاخوات تعدّ لنا دائما وجبات طعام،‏ حتى في ساعات الصباح الباكرة».‏

اهتمت ايضا العائلات التي توجد في بيتها مطبعة بمسألة الامان.‏ وكان هذا التعيين عادة من اختصاص ربات المنزل،‏ بسبب تواجد معظم الازواج في عملهم الدنيوي خلال النهار.‏ تتذكر احدى الاخوات:‏ «لإخفاء صوت الآلات،‏ علّينا صوت الراديو الى اقصى حد ممكن.‏ وعندما كان يدخل احد من البوابة،‏ كنا ننذر الاخوة الموجودين في غرفة الطباعة بواسطة الضغط على زر لإضاءة مصباح كهربائي خصوصي».‏

كان الزائرون في اغلب الاحيان من الرفقاء الشهود او الاقرباء.‏ ومع ذلك،‏ حاولت الاخوات صرفهم بأسرع وألبق طريقة ممكنة.‏ وكما يمكن ان نتخيل،‏ لم يكن ذلك بالامر السهل دائما،‏ لأن هؤلاء الاخوات هن عادة مضيافات جدا.‏ لنتأمل في ما حدث مع هْوانا مونتييل،‏ التي كانت تملك شجرة أكاجو في فناء منزلها.‏ كان الرفقاء الشهود يأتون في احيان كثيرة لقطف ثمر من الشجرة،‏ فصار فناء منزلها مكانا يلتقي فيه الاخوة عادة.‏ تتذكر هْوانا:‏ «عندما حصلنا على الامتياز ان تتم الطباعة في بيتنا،‏ اضطررنا انا وزوجي ان نقطع الشجرة.‏ ولم يكن بإمكاننا ان نشرح للاخوة سبب تغيّرنا فجأة وصيرورتنا اقل اختلاطا بالناس،‏ ولكننا علمنا انه يجب ان نحمي عملية الطباعة».‏

اعتمدت كونسويلو بيتيتا في سنة ١٩٥٦.‏ وقد استُخدم بيتها ايضا من اجل الطباعة.‏ ولم يكن بإمكان الاخوة ان يوقفوا سياراتهم امام بيتها لأخذ المطبوعات دون ان يثيروا الشكوك.‏ لذلك اوقفوها في مكان آمن اكثر —‏ امام بيت اخ في الحي الثاني.‏ في مقابلة معها قبل موتها،‏ تذكرت الاخت بيتيتا تلك الايام.‏ قالت وفي عينيها بريق:‏ «كانت المجلات تُلَفّ وتوضع في اكياس مخصصة لمختلف الجماعات.‏ وكان كل كيس يزن حوالي ١٥ كيلوڠراما.‏ وللوصول الى بيت الاخ،‏ كنا نحمل انا وكنّتي الاكياس على رأسنا ونعبر خندقا خلف بيتي.‏ لم يشكّ الجيران في شيء قط،‏ لأن الاكياس شبيهة تماما بالاكياس التي تحملها معظم النساء على رؤوسهن».‏

وكم اعزَّ الاخوة هؤلاء الاخوات الشجاعات الوليات!‏ يقول ڠيلييرمو پونسيه،‏ متحدثا بلسان الاخوة الكثيرين الذين خدموا معه في ذلك الوقت:‏ «كان العمل معهن امتيازا رائعا حقا».‏ ولا شك ان هؤلاء النساء المسيحيات الرائعات،‏ الى جانب ازواجهن،‏ رسمن مثالا ممتازا لذريتهن.‏ فلنتأمل الآن في بعض التحديات التي واجهها الاولاد خلال تلك السنوات الزاخرة بالاحداث.‏

اولاد اولياء جديرون بالثقة

اعرب اولاد الذين ساهموا في دعم عملية الطباعة السرية وتوزيع المطبوعات،‏ مثل آبائهم،‏ عن ولاء بارز.‏ تتذكر كلاوديا بندانيا،‏ التي كان ولداها لا يزالان في تلك الفترة يعيشان في البيت:‏ «طوال خمسة اشهر تمتعنا بامتياز استخدام غرفة خلفية من بيتنا من اجل الطباعة.‏ وحالما كان الولدان يصلان من المدرسة،‏ كانا يريدان مساعدة الاخوة.‏ ولكن ماذا بإمكانهما ان يفعلا؟‏ بدلا من ان يصرفهما الاخوة،‏ سمحوا لهما بأن يثبّتا اوراق برج المراقبة المنسوخة.‏ وكم احب الولدان ان يكونا مع هؤلاء الشبان،‏ الذين شجعوهما ان يحفظا غيبا آيات من الكتاب المقدس وبعض ترانيم الملكوت!‏».‏

تقول الاخت بندانيا:‏ «من اجل المحافظة على السريّة،‏ شرحنا انا وزوجي لولدَينا اننا نعيش في اوقات صعبة،‏ ان هذا العمل هو ليهوه،‏ وأنه من المهم جدا ان نبقى اولياء.‏ وأوضحنا لهما انه يجب ان يُبقيا الامر سريّا وألا يتحدثا عنه مع ايّ كان —‏ لا مع الأقرباء ولا حتى مع الاخوة والاخوات المسيحيين.‏ ونحن شاكران ان الولدَين كانا امينَين وطائعَين».‏

كان بيت اورا ليلا مارتينيس من اوائل البيوت التي استُخدمت كمركز للطباعة.‏ وقد شارك حفداؤها في تجميع الصفحات بالترتيب،‏ تثبيتها،‏ وحزمها.‏ وصاروا هم ايضا متعلقين جدا بالاخوة الذين يعملون في بيتهم.‏ ولم يتكلموا قط عن هذا الامر مع الآخرين.‏ تتذكر آيونيس:‏ «كنا نذهب الى المدرسة ونلعب كل يوم تقريبا مع اولاد عائلة بندانيا وآيوڠاريوس،‏ ومع ذلك لم يعرف قط اي منا ان المطبوعات تُطبع في بيت الآخرين الا بعد عدة سنوات.‏ وقد سألنا واحدنا الآخر بتعجب:‏ ‹حقا؟‏ في بيتكم انتم ايضا؟‏!‏›.‏ كنا اعز الاصدقاء،‏ ومع ذلك لم يبُحْ ايّ منا بشيء عن الطباعة الى الآخرين.‏ من الواضح انها كانت طريقة يهوه لحماية العمل».‏

لا يزال لتلك الاختبارات الباكرة تأثير ايجابي في هؤلاء الاحداث.‏ يقول إمرسون مارتينيس،‏ الذي هو الآن خادم مساعد وفي الخدمة الخصوصية كامل الوقت:‏ «كان الاخوة في اماكن الطباعة تلك امثلة عُليا بالنسبة اليّ.‏ فرغم انهم كانوا في الـ‍ ١٨ او الـ‍ ١٩ من العمر،‏ علّموني ان اقدّر المسؤوليات الروحية،‏ مهما كانت صغيرة،‏ وتعلّمت ايضا اهمية إنجاز العمل على احسن وجه.‏ فإذا اغفلت عن ورقة واحدة اثناء التجميع،‏ فستفوت هذه المعلومات شخصا ما.‏ وقد طبع ذلك في ذهني اهمية بذل اقصى جهدي من اجل يهوه وإخوتنا».‏

إلدا ماريّا،‏ ابنة إدموندو وإلدا سانشيس،‏ ساعدت في إيصال اوراق الستانسِل لمجلة برج المراقبة والمطبوعات الاخرى التي طبعتها امها على الآلة الكاتبة.‏ فكانت تحملها على دراجتها الى بيت الاخ پونسيه الذي يبعد عنهم خمسة احياء.‏ وكانت الاخت سانشيس،‏ تلفّ اوراق الستانسِل بعناية وتضعها في سلة صغيرة قبل ان تعطيها لابنتها.‏ تقول إلدا ماريّا:‏ «مذ كنت صغيرة جدا،‏ درّبني والداي ان اكون مطيعة.‏ وعندما اتت فترة الحظر،‏ كنت معتادة ان اتبع التعليمات بدقة».‏

وهل فهمَت المخاطر التي يواجهها الاخوة الذين يشرفون على الطباعة —‏ بمن فيهم والدها؟‏ تقول إلدا ماريّا:‏ «كثيرا ما قال لي والدي قبل ان يغادر البيت انه لا يجب ان اخاف او احزن اذا أُوقف.‏ ومع ذلك،‏ عندما كان يتأخر في العودة الى البيت،‏ اتذكر انني كنت اصلّي كثيرا مع امي من اجل وصوله سالما.‏ وغالبا ما كنا نرى اشخاصا من سلك امن الدولة جالسين في سياراتهم امام بيتنا لمراقبتنا.‏ وعندما كانت امي تفتح الباب لأحد،‏ كنت اجمع كل ادواتها وأخبئها.‏ انني شاكرة جدا على مثال والديّ في اظهار الولاء ليهوه ولإخوتنا وتدريبهما لي ان افعل الامر نفسه».‏

بنى احداث كثيرون عاشوا في تلك الفترة اساسا متينا في حداثتهم.‏ لذلك هم الآن في الخدمة كامل الوقت،‏ وكثيرون منهم يخدمون في مراكز مسؤولية في الجماعات.‏ وتقدّمهم هو دليل على بركة يهوه الغنية على شعبه،‏ الذين لم يُحرَم ايّ منهم من الطعام الروحي خلال تلك الفترة الصعبة.‏ وقد استمرت بشارة ملكوت اللّٰه في التقدّم،‏ ولاقت ‹تربة جيدة› بين آلاف المسجونين خلال العهد السانديني.‏ (‏مرقس ٤:‏٨،‏ ٢٠‏)‏ فكيف حدث ذلك؟‏

زرع بذار الملكوت في السجن

بعد الثورة الساندينية،‏ احتُجز آلاف الاشخاص من الحرس الوطني المهزوم بالاضافة الى المنشقين السياسيين ليمثلوا امام محاكم مختصة انعقدت جلساتها من اواخر سنة ١٩٧٩ حتى سنة ١٩٨١.‏ فحُكم على معظم عناصر الحرس الوطني السابقين بقضاء ما يصل الى ٣٠ سنة في سجن موديلو،‏ سجن كبير في تيپيتاپا،‏ على بُعد حوالي ١١ كيلومترا شمالي شرقي ماناڠوا.‏ وسنرى الآن كيف تحرّر روحيا كثيرون من المستقيمي القلوب داخل هذه السجون المكتظة التي كانت الظروف فيها صعبة الاحتمال.‏

في اواخر سنة ١٩٧٩،‏ تلقى شيخ في ماناڠوا رسالة من شاهد تمّ احتجازه لأنه خدم في الجيش في عهد حكومة سوموزا قبل ان يعرف الحق،‏ ولكنه لم يكن قد نُقل بعد الى سجن موديلو.‏ وقد طلب في رسالته مطبوعات ليوزعها على السجناء الآخرين.‏ ورغم انه لم يُسمَح للشيخَين اللذين اوصلا المطبوعات برؤيته،‏ لم يتثبط،‏ بل استمر يشهد لرفقائه السجناء وعقد ايضا دروسا في الكتاب المقدس مع البعض منهم.‏

كان احد هؤلاء التلاميذ اناستازيو رامون ميندوسا.‏ وقد احرز تقدما روحيا سريعا.‏ يتذكر ويقول:‏ «احببت كثيرا ما تعلّمته بحيث بدأت ارافق الاخ وهو يبشر السجناء الآخرين.‏ وفي حين ان البعض رفضَنا،‏ اصغى الينا البعض الآخر.‏ وسرعان ما صرنا ١٢ شخصا ندرس معا خلال وقت الاستراحة في الباحة الخارجية».‏ بعد سنة تقريبا،‏ اعتمد شخص من هذا الفريق.‏

في اوائل سنة ١٩٨١،‏ نُقل هذا الفريق الصغير من تلاميذ الكتاب المقدس مع سجناء آخرين الى سجن موديلو،‏ حيث استمروا يبشرون الآخرين.‏ وفي الوقت نفسه،‏ كانت المطبوعات المؤسسة على الكتاب المقدس تُتداول سرّا بين السجناء،‏ وقد وصل البعض منها الى المزيد من «التربة الجيدة».‏

تأمل في مثال هوسّيه دي لا كروس لوپيس وعائلته،‏ الذين لم يكن ايّ منهم من الشهود.‏ بعد ستة اشهر من سجن هوسّيه،‏ حصلت زوجته على نسخة من كتابي لقصص الكتاب المقدس من شهود التقتهم في الشارع.‏ وكان هدفها الوحيد اعطاءه لزوجها.‏ يقول هوسّيه:‏ «عندما بدأت اقرأ الكتاب ظننت انه مطبوعة للانجيليين.‏ فلم اكن اعرف شيئا عن شهود يهوه.‏ وقد ترك فيّ الكتاب اثرا كبيرا بحيث قرأته عدة مرات وبدأت اخبر رفقائي الـ‍ ١٦ في الزنزانة عن محتوياته.‏ فتمتع به الجميع وكان لهم كجرعة مياه منعشة.‏ ثم بدأ السجناء في الزنزانات الاخرى يطلبون ان يستعيروه.‏ وهكذا جال في كامل جناح السجن،‏ وصار باليا ومهترئا مثل اوراق لعب قديمة».‏

كان عدة سجناء مع هوسّيه اعضاء في كنائس انجيلية؛‏ والبعض كانوا ايضا قسوسا.‏ فبدأ هوسّيه يقرأ الكتاب المقدس معهم.‏ ولكنه اصيب بخيبة امل عندما سألهم عن معنى تكوين ٣:‏١٥ وقالوا له انه لغز.‏ وذات يوم،‏ قال له احد السجناء،‏ وهو تلميذ للكتاب المقدس:‏ «الجواب موجود في الكتاب الذي معك،‏ وهو من اصدار شهود يهوه.‏ وأستطيع ان ادرسه معك ان شئت».‏ قبِل هوسّيه العرض،‏ وبمساعدة كتابي،‏ عرف معنى تكوين ٣:‏١٥‏.‏ بعد ذلك ابتدأ يرافق السجناء الذين يعاشرون الشهود.‏

كان السلوك الحسن احد الامور التي جذبت هوسّيه الى هؤلاء الاشخاص المميزين في سجن موديلو.‏ يقول هوسّيه:‏ «عرفت ان بعض الاشخاص كان لديهم نمط حياة فاسد جدا،‏ ولكنهم صاروا الآن يسلكون سلوكا جيدا بسبب درسهم الكتاب المقدس مع شهود يهوه».‏ في الوقت نفسه،‏ استمرت زوجة هوسّيه تحصل على المطبوعات من الشهود وتعطيها لزوجها،‏ الذي كان يتقدم روحيا.‏ حتى ان الفريق الذي كان يحضر معه الاجتماعات عيّن له قسما من احد اجنحة السجن ليبشّر فيه من زنزانة الى زنزانة.‏ وهكذا تمكّن من ان يعير مطبوعاته القليلة للأشخاص المهتمين وأن يدعوهم ايضا الى الاجتماعات التي كانت تُعقد في هذا الجناح وقت الاستراحة.‏

الاهتمام بحاجات السجناء الروحية

اهتمت جماعة ماناڠوا الشرقية بالحاجات الروحية للعدد المتزايد من السجناء في سجن موديلو الذين كانوا يقرأون المطبوعات ويحرزون تقدما روحيا.‏ ولهذه الغاية،‏ اعدّت الجماعة برنامجا لكي يُدخِل بعض الاخوة والاخوات المطبوعات سرّا الى السجناء.‏ كانت الزيارات مسموحة كل ٣٠ او ٦٠ يوما،‏ ولكن لم يكن بالامكان ان يزور احد السجين إلّا اذا كان الشخصَ نفسه الذي سبق ان طلبه السجين.‏ لذلك لم يتمكن الشهود المحليّون من زيارة كل الاشخاص المهتمين.‏ ومع ذلك،‏ لم يشكّل الامر مشكلة كبيرة لأن السجناء سرعان ما كانوا يجتمعون معا وينقلون المعلومات واحدهم الى الآخر.‏

ساعد شيوخ جماعة ماناڠوا الشرقية في تنظيم وتوجيه نشاطات الفريق الذي يكبر داخل سجن موديلو.‏ فقد بقوا خصوصا على اتصال قانوني بالسجناء الذين يأخذون القيادة في الامور الروحية،‏ شارحين لهم كيفية ادارة الاجتماعات الاسبوعية،‏ انجاز العمل الكرازي بطريقة منظمة،‏ وكتابة تقارير عن هذه النشاطات.‏ وكان هؤلاء السجناء،‏ بدورهم ينقلون هذه المعلومات الى الآخرين.‏ فالتنظيم الثيوقراطي صار بالتأكيد امرا ضروريا،‏ لأنه بحلول ذلك الوقت كان قد تشكل فريق كبير من تلاميذ الكتاب المقدس في السجن.‏

في الاصل،‏ تألف سجن موديلو من اربعة اجنحة،‏ يسع كلّ منها ٠٠٠‏,٢ سجين.‏ يشرح هوليو نونييس،‏ احد الشيوخ الذين كانوا يزورون السجن:‏ «كان كل جناح منفصلا عن الاجنحة الاخرى،‏ فكانت الاجتماعات الاسبوعية تُعقد في باحة استجمام كل جناح على حدة.‏ وبلغ مجموع عدد الحضور حوالي ٨٠ شخصا تقريبا».‏

المعمودية في برميل

اذ احرز الجدد تقدما،‏ عبّر عدد منهم عن رغبتهم في المعمودية.‏ فكان الشيوخ الذين يزورون السجن يوافقون على طلب المرشّحين للمعمودية،‏ ويساعدون السجناء الذين يأخذون القيادة روحيا ان يرتّبوا لإجراء المعمودية في تاريخ يتزامن مع عقد محفل خارج السجن.‏ عادة،‏ كان يُلقى خطاب المعمودية في احدى الزنزانات في الامسية التي تسبق المعمودية،‏ وفي الصباح التالي عندما يذهب السجناء ليستحموا،‏ يعتمد المرّشحون للمعمودية.‏

اعتمد هوسّيه دي لا كروس لوپيس في السجن في تشرين الثاني (‏نوفمبر)‏ سنة ١٩٨٢.‏ يروي:‏ «اعتمدت في برميل للنفايات.‏ فقد نظفناه جيدا بمساحيق التنظيف،‏ ثم غطيناه من الداخل بشرشف وملأناه ماء.‏ ولكن عندما اجتمعنا حول البرميل من اجل المعمودية وصل حرّاس مسلّحون.‏ فسألوا:‏ ‹من سمح ان تُجرى هذه المعمودية؟‏›.‏ شرح الاخ الذي يأخذ القيادة ان المرء ليس بحاجة الى اذن ليفعل ما يقوله اللّٰه.‏ فقبِل الحرّاس ان تُجرى المعمودية ولكنهم ارادوا ان يشاهدوا ما يجري.‏ فسُئلت،‏ امام انظار الحراس،‏ السؤالَين اللذين يُطرحان على مرشّحي المعمودية،‏ ثم غُطست في البرميل».‏ ولاحقا اعتمد ٣٤ سجينا على الاقل بهذه الطريقة.‏

أحرز بعض السجناء تقدما سريعا.‏ وكان احد هؤلاء أومَر أنطونيو إسپينوسا،‏ الذي قضى ١٠ سنين من سنوات حكمه الـ‍ ٣٠ في سجن موديلو.‏ كان السجناء يُنقَلون دوريا،‏ وخلال السنة الثانية التي قضاها أومَر في السجن،‏ كان احد رفقائه في الزنزانة واحدا من الشهود.‏ لاحظ أومَر ان سجناء آخرين يزورون هذا الرجل ليعلّمهم الكتاب المقدس.‏ فتأثر أومَر بما رآه وسمعه،‏ وطلب هو ايضا درسا في الكتاب المقدس.‏

بدأ أُومَر يدرس بمساعدة كتاب الحق الذي يقود الى الحياة الابدية،‏ مغطيا فصلا في اليوم.‏ وبعد ١١ يوما،‏ اراد ان يكون ناشرا.‏ وعندما انتهى درس الفصول الـ‍ ٢٢ من الكتاب،‏ طلب المعمودية.‏ لكنّ الاخوة طلبوا منه ان يفكِّر اكثر قليلا في المسألة.‏ ونصحوه ايضا ان يدرس مطبوعة ثانية،‏ كتاب يمكنكم ان تحيوا الى الابد في الفردوس على الارض،‏ الذي حصلوا عليه مؤخرا في السجن.‏ وبعد اكثر من شهر بقليل،‏ اكمل أُومَر درس هذا الكتاب ايضا.‏ اضافة الى ذلك،‏ اوقف التدخين وصنع تغييرات اخرى ايضا.‏ فكان واضحا ان حق الكتاب المقدس يؤثر في حياته.‏ وعندما رأى الاخوة هذه التغييرات،‏ اقتنعوا ان رغبته حقيقية،‏ فاعتمد أُومَر في برميل في ٢ كانون الثاني (‏يناير)‏ سنة ١٩٨٣.‏

استخدام لغة اشارات في السجن

لنقل المعلومات المتلقاة من الشيوخ الذين يزورون السجن او لجمع المعلومات،‏ مثل تقارير الخدمة،‏ كان على الناشرين المسجونين في مختلف اجنحة السجن ان يتصلوا واحدهم بالآخر.‏ يخبرنا الاخ ميندوسا،‏ الذي اعتمد في السجن سنة ١٩٨٢،‏ كيف فعلوا ذلك.‏

يقول:‏ «تعلّم بعض منا لغة اشارات ابتكرها السجناء.‏ وفي يوم الذِّكرى،‏ كنا نخمِّن متى تغيب الشمس ثم نتصل احدنا بالآخر بواسطة لغة الاشارات هذه لكي نشترك جميعنا في الصلاة في الوقت نفسه.‏ وقد فعلنا ذلك سنة بعد سنة.‏ كما ساعدتنا لغة الاشارات في درسنا لمجلة برج المراقبة.‏ فعندما كان الاخوة في احد اجنحة السجن ينقصهم العدد الذي سيُدرَس في ذلك الاسبوع،‏ كنا نوصل اليهم المقالة بكاملها عن طريق لغة الاشارات.‏ فكان الاخ الذي يرى الاشارات في الجناح الآخر يقولها بصوت عالٍ بحيث يسمعها اخ غيره ويكتب المقالة على الورق».‏ ولكن كيف وصل هذا الطعام الروحي اصلا الى السجن؟‏

الطعام الروحي يغذي السجناء

كان الشيوخ،‏ عائلاتهم،‏ وناشرون آخرون من جماعة ماناڠوا الشرقية يأتون قانونيا الى سجن موديلو لزيارة السجناء.‏ وطوال عشر سنوات تقريبا،‏ جلبوا لإخوتهم مؤنا مادية وروحية،‏ بما فيها برج المراقبة و خدمتنا للملكوت.‏ وبالطبع،‏ كان يجب اخفاء هذا الطعام الروحي.‏

خبأ احد الشيوخ المجلات في تجويف عكّازتيه الخشبيتين الكبيرتين.‏ ويخبر هوليو نونييس:‏ «كان الصغار ايضا يساعدون لأنهم نادرا ما يُفتَّشون».‏ كما تمكّن الزوار من ادخال رمزَي الذِّكرى الى السجن.‏

عُيِّن لكل جناح في السجن يوم مخصص للزوار.‏ وكان الاشخاص الذين يُسمَح لهم بالزيارة يقضون عادة اليوم بكامله مع السجين في فناء كبير.‏ وبهذه الطريقة،‏ تمكّن عدد قليل من السجناء الشهود من قضاء وقت مع اخوتهم وأخواتهم من ماناڠوا والحصول على المؤن الروحية.‏ ولاحقا،‏ عندما كان هؤلاء السجناء يعودون الى اجنحتهم،‏ كانوا يشاركون اخوتهم في الامور التي حصلوا عليها.‏

حتى ترانيم الملكوت لم يُغفَل عنها.‏ يقول الاخ لوپيس:‏ «في جناحنا،‏ كان يُسمح لواحد منا فقط برؤية الاخوة الزوار.‏ فوقع على عاتق هذا الاخ السجين ان يتعلم في كل مرة انغام بعض الترانيم لكي يعلّمنا اياها.‏ ولأننا لم نملك سوى كتاب ترانيم واحد،‏ كنا نتمرن جميعنا قبل الاجتماعات».‏ كان الاخ ميندوسا احد السجناء القليلين الذين سُمِح لهم بأن يزورهم الشهود.‏ يقول الاخ ميندوسا:‏ «كان كارلوس أيالا وعائلته يزورونني.‏ وقد علّمتني ابنتاه تسعًا على الاقل من ترانيم الملكوت،‏ فعلّمتها لرفقائي».‏ وكان الاخ لوپيس احد الذين تعلّموا الترانيم من سجين آخر.‏ يتذكر:‏ «لاحقا،‏ عندما بدأت احضر الاجتماعات خارج السجن،‏ سُررت جدا،‏ ولكن يجب ان اعترف انني دُهشت قليلا عندما علمت اننا كنا نرنّم حقا الالحان نفسها في السجن».‏

البقاء اقوياء روحيا في السجن

ايّ جوّ كان على الاخوة والمهتمين ان يتحملوه في السجن،‏ وكيف بقوا اقوياء روحيا؟‏ يتذكر الاخ ميندوسا:‏ «في السجن،‏ وُزِّعت حصص صغيرة من الطعام.‏ وفي عدة مناسبات ضُرب جميع السجناء،‏ وأحيانا كان الحرّاس يطلقون النار حولنا ونحن منبطحون ارضا.‏ وكان هدفهم من ذلك إبقاءنا متوترين.‏ وعندما كان بعض السجناء يتشاجرون مع الحرّاس،‏ كنا نُعاقَب جميعنا بإرسالنا عراة الى الفناء لتحرقنا اشعة الشمس.‏ لكننا،‏ نحن الشهود،‏ انتهزنا هذه الفرص لنقوّي ونعزّي واحدنا الآخر.‏ فكنا نتذكر آيات من الكتاب المقدس ونخبر احدنا الآخر نقاطا تعلمناها في درسنا الشخصي.‏ وقد ساعدتنا هذه الاختبارات على البقاء موحّدين وأقوياء».‏

استفاد عدد كبير من الشهود والمهتمين من اوقات فراغهم الكثيرة فقرأوا الكتاب المقدس اربع او خمس مرات.‏ واعتادوا ان يدرسوا بعناية كل المطبوعات المؤسسة على الكتاب المقدس التي تصلهم،‏ وأن يعيدوا درسها عدة مرات.‏ يتذكر الاخ ميندوسا الكتب السنوية التي يقدِّرها تقديرا خصوصيا.‏ يقول:‏ «درسنا كل الاختبارات من شتى البلدان،‏ ودرسنا الخرائط ايضا.‏ وكل سنة كنا نقارن الزيادات،‏ عدد الجماعات،‏ عدد المعتمدين الجدد،‏ وحضور الذِّكرى في كل بلد.‏ وقد منحتنا هذه الامور فرحا عظيما».‏

في ظل هذه الظروف،‏ احرز الناشرون الجدد بسرعة معرفة جيدة لكلمة اللّٰه وللتنظيم الثيوقراطي.‏ وصاروا ايضا مبشرين ومعلمين غيورين.‏ على سبيل المثال،‏ في شباط (‏فبراير)‏ سنة ١٩٨٦،‏ كان في سجن موديلو ٤٣ ناشرا يعقدون ٨٠ درسا في الكتاب المقدس.‏ وبلغ معدل حضور الاجتماعات الاسبوعية ٨٣ شخصا.‏

كان كل هؤلاء السجناء المحرَّرين روحيا على وشك اختبار المزيد من الحرية،‏ لأن الحكومة قررت ان تمنح العفو لكل السجناء السياسيين.‏ ونتيجة لذلك،‏ أُطلق سراح الناشرين الـ‍ ٣٠ الباقين في سجن موديلو في ١٧ آذار (‏مارس)‏ سنة ١٩٨٩.‏ وسرعان ما رتبت جماعة ماناڠوا الشرقية ان يتصل الشيوخ بالناشرين المطلَق سراحهم حديثا،‏ وذلك في المناطق التي انتقلوا اليها.‏ وقد رحّب هؤلاء الشيوخ بإخوتهم الجدد،‏ الذين صار عدد كبير منهم شيوخا،‏ خداما مساعدين،‏ وفاتحين.‏

تقييد العمل لم يوقف الكرازة

رغم الصعوبات والمخاطر،‏ استمر عدد الناشرين في نيكاراڠوا في الازدياد بسرعة خلال الفترة التي قُيّد فيها العمل.‏ وفي الواقع،‏ تشكّلت في بعض المناطق جماعات مؤلفة كليا تقريبا من اشخاص جدد.‏ وأحد الامثلة هو جماعة لا ريفورما.‏ كان الفاتحان الخصوصيان أنطونيو ألمان وزوجته أديلا يذهبان يوميا للشهادة في المجتمعات الريفية بين ماسايا وڠرانادا.‏ وكان لا ريفورما احد هذه المجتمعات.‏ فهنا،‏ درس الزوجان ألمان في اوائل سنة ١٩٧٩ مع روساليو لوپيس،‏ شاب كانت زوجته قد ماتت منذ فترة وجيزة.‏ كان روساليو يعيش مع عائلة زوجته.‏ وسرعان ما اخبرهم بالامور التي يتعلمها.‏ فتكلم اولا مع حماته،‏ ثم بالتتابع مع كل من اخوة وأخوات زوجته مع رفقاء زواجهم.‏ وبعد فترة قصيرة صار فريق مؤلف من ٢٢ عضوا في العائلة يذهبون سيرا الى الاجتماعات في ماسايا مسافة ستة كيلومترات.‏

ذات يوم قال لروساليو اقرباء زوجته:‏ «لقد تعلمنا في الاجتماعات ان شهود يهوه يكرزون من باب الى باب،‏ ولكننا نحن لا نفعل ذلك».‏

قال روساليو:‏ «حسنا،‏ سنذهب للكرازة يوم السبت القادم».‏ وهذا ما فعلوه!‏ فقد ذهب الـ‍ ٢٢ جميعا الى باب واحد،‏ وأخذ روساليو القيادة في التكلم!‏ وعندما اتى أنطونيو لعقد الدرس التالي،‏ اعلن روساليو والبسمة تعلو شفتَيه:‏ «ذهبنا جميعا للكرازة هذا الاسبوع!‏».‏ سُرّ أنطونيو بغيرة تلاميذه،‏ ولكنه شجّع الازواج الشبان ان يجعلوا اولا حياتهم الشخصية على انسجام مع مبادئ الكتاب المقدس.‏

في كانون الاول (‏ديسمبر)‏ سنة ١٩٧٩،‏ صار روساليو وأحد أبناء حميه،‏ أُوبير لوپيس،‏ اول المعتمدين من هذا الفريق.‏ بعد وقت قصير،‏ تبعهم الآخرون الواحد تلو الآخر.‏ وبعد ثلاث سنوات فقط،‏ تأسست جماعة لا ريفورما،‏ التي بدأت بـ‍ ٣٠ ناشرا —‏ جميعهم من العائلة نفسها!‏ وبعد فترة،‏ تعيّن أُوبير وأخوه رامون وروساليو شيوخا.‏ وفي سنة ١٩٨٦،‏ خدم ٥٤ عضوا من الجماعة كفاتحين.‏ —‏ انظر الاطار في الصفحات ٩٩-‏١٠٢.‏

ونتيجة للكرازة الغيورة التي قام بها اعضاء جماعة لا ريفورما،‏ تأسست اخيرا ست جماعات اخرى في المجتمعات المحيطة.‏ وكان الاخوة آنذاك لا يزالون مراقَبين مراقبة شديدة من السلطات،‏ التي لم تكن مسرورة بغيرتهم.‏ يتذكر أُوبير لوپيس:‏ «كانت السلطات تضايقنا باستمرار،‏ ولكنّ ذلك لم يوقفنا قط عن الكرازة».‏ وفي الواقع،‏ ازداد عمل الكرازة خلال تلك الفترة الصعبة.‏ وكيف ذلك؟‏ خسر الكثيرون من الاخوة وظائفهم فانخرطوا في خدمة الفتح القانوني او الاضافي.‏

وقد بارك يهوه جهودهم.‏ ففي سنة ١٩٨٢،‏ كان هنالك ٤٧٧‏,٤ ناشرا للبشارة في نيكاراڠوا،‏ ولكن بحلول سنة ١٩٩٠ —‏ بعد ثماني سنوات من القيود والاضطهاد —‏ بلغ هذا العدد ٨٩٤‏,٧ ناشرا.‏ فكانت الزيادة ٧٦ في المئة!‏

ازالة القيود عن العمل

في شباط (‏فبراير)‏ سنة ١٩٩٠،‏ جرت انتخابات تحت مراقبة دولية وتغيرت الحكومة في نيكاراڠوا.‏ بُعيد ذلك،‏ رُفعت القيود عن شهود يهوه،‏ أُلغي التجنيد العسكري الالزامي،‏ وحُلّت لجان الدفاع.‏ ورغم ان الاخوة بقوا حذرين،‏ لم يعودوا يخافون من عيون الجيران الفضوليين.‏ وفي ايلول (‏سبتمبر)‏ من تلك السنة،‏ صار إيان هانتر،‏ الذي كان يخدم في لجنة الفرع في ڠواتيمالا،‏ المنسِّق الجديد للجنة البلد في نيكاراڠوا.‏

طوال السنوات الثماني الماضية،‏ كانت لجنة البلد تشرف على العمل في نيكاراڠوا دون ان يكون هنالك مكتب او تجهيزات مكتبية.‏ وكم سُرّ الاخ هانتر لأنه جلب معه الآلة الكاتبة التي كان يستعملها في فرع ڠواتيمالا!‏ وقد اعرب هوليو بندانيا،‏ وهو اخ من نيكاراڠوا،‏ عن لطفه بتقديم الكثير من التجهيزات المكتبية الخاصة به ليستعملها الاخوة الذين كان لديهم الكثير من العمل.‏

وجرى الحصول على بيت في ضواحي ماناڠوا ليكون مكتب فرع.‏ ولكنّ الروتين العادي في بيت ايل كان غريبا على عدد من الاخوة،‏ لأنهم اعتادوا العمل سرّا في مواقع متفرقة وفي ساعات غير نظامية.‏ ولكنهم تجاوبوا جيدا مع التدريب وصنعوا التعديلات اللازمة.‏ ومعظم اولئك الشبان لا يزالون يخدمون يهوه بأمانة في اوجه مختلفة من الخدمة كامل الوقت.‏

أُرسل ايضا اخوة من بلدان اخرى الى نيكاراڠوا للمساعدة في العمل في الفرع.‏ وأُعيد تعيين المرسَلَين كينيث وشاران براين في نيكاراڠوا في اواخر سنة ١٩٩٠ بعد ان كانا في هندوراس.‏ وفي كانون الثاني (‏يناير)‏ سنة ١٩٩١،‏ اتى من كوستاريكا هْوان وريبيكا رييِس،‏ متخرّجان من الصف الاول في مدرسة جلعاد الفرعية في المكسيك.‏ وتبعهما آرنالدو تشاڤيز،‏ وهو ايضا متخرّج من الصف الاول في المكسيك،‏ مع زوجته ماريّا.‏ وبعد سنتين وصل لوتار وكارمن ميهانك من پاناما،‏ حيث خدم لوتار في لجنة الفرع.‏ وقد عُيّن معظمهم في الفرع الجديد،‏ حيث ساعدوا في إعادة تأسيس العمل على القواعد التنظيمية الملائمة.‏ واليوم تتألف عائلة بيت ايل في نيكاراڠوا من ٣٧ عضوا من شتى الجنسيات.‏

في شباط (‏فبراير)‏ سنة ١٩٩١،‏ عُيّنت لجنة فرع لتحل محل لجنة البلد،‏ وأعيد فتح فرع نيكاراڠوا رسميا في ١ ايار (‏مايو)‏ سنة ١٩٩١.‏ وهكذا وُضع الاساس لنمو مستقبلي.‏ وكم كان هذا النمو هائلا!‏ فمن سنة ١٩٩٠ حتى سنة ١٩٩٥،‏ اعتمد ٠٢٦‏,٤ تلميذا جديدا —‏ زيادة بلغت ٥١ في المئة.‏ وقد خلقت هذه الزيادة حاجة ملحة الى اماكن ملائمة للاجتماع.‏ ولكن كما رأينا،‏ استولى الرعاع في سنة ١٩٨٢ على ما مجموعه ٣٥ ملكية.‏

المطالبة بالمِلكيات

عندما احتُلَّت قاعات الملكوت في البداية،‏ لم يقف الاخوة مكتوفي الايدي،‏ بل رفعوا الامر فورا الى الحكومة،‏ مستشهدين في دفاعهم بدستور نيكاراڠوا.‏ ومع ذلك،‏ رغم التزام الاخوة بكل المتطلبات القانونية،‏ لقيت مطالبهم آذانا صماء.‏ وفي سنة ١٩٨٥،‏ كتب الاخوة الى رئيس نيكاراڠوا آنذاك مطالبين بالاعتراف الشرعي وباستعادة كل المِلكيات.‏ كما انهم طلبوا عدة مرات مقابلة وزير الداخلية.‏ ولكن كل تلك الجهود كانت عقيمة.‏

عندما تولت الحكومة الجديدة السلطة في نيسان (‏ابريل)‏ سنة ١٩٩٠،‏ تقدّم الاخوة فورا بطلب آخر،‏ وهذه المرة الى وزير الداخلية الجديد،‏ مطالبين بأن يُعاد تسجيل شهود يهوه شرعيا.‏ وكم فرحوا وشكروا يهوه عندما جرت تلبية طلبهم بعد اربعة اشهر فقط!‏ ومنذ ذلك الوقت،‏ تعترف حكومة نيكاراڠوا بجمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس بوصفها جمعية ارسالية اممية وتسمح لها بالقيام بمهامها بحرية،‏ وهي مُعفاة من الضرائب شأنها في ذلك شأن سائر المنظمات غير النفعية.‏ ولكنّ استعادة قاعات الملكوت لم تكن مهمة سهلة،‏ لأن بعضها قد «أُعطي» لمؤيدي نظام الحكم السابق.‏

رفع الاخوة الامر الى «اللجنة الوطنية لإعادة النظر في المِلكيات المصادَرة» المشكّلة حديثا،‏ مطالبين باستعادة كل المِلكيات.‏ وتبيّن ان هذه العملية معقّدة ومثبّطة للعزيمة.‏ ويعود السبب جزئيا،‏ الى الكمية الكبيرة من المطالب المماثلة التي تقدّم بها غيرهم من الاشخاص والمنظمات.‏ بعد سنة من الجهود الكثيفة،‏ أُعيدت مِلكية واحدة في كانون الثاني (‏يناير)‏ سنة ١٩٩١.‏ كما ان الاخوة زاروا الاشخاص المحتلين قاعات الملكوت،‏ بغية تسوية الامر.‏ ولكنّ معظم اولئك الاشخاص شعروا ان امتلاكهم القاعات هو «ربح» شرعي من الثورة.‏

في وقت لاحق من تلك السنة،‏ أُعيدت مِلكية الفرع،‏ ولكن لزم شراء مسكن آخر للعائلة التي كانت تحتل البناء.‏ وعلى مر السنين التالية،‏ استعاد الاخوة تدريجيا ٣٠ من الـ‍ ٣٥ مِلكية وحصلوا على تعويضات في شكل سندات حكومية مقابل المِلكيات التي لم يتمكنوا من استردادها.‏

تحمّل الكوارث الطبيعية

بالاضافة الى الزلازل المذكورة آنفا في هذا التقرير،‏ تضررت نيكاراڠوا كثيرا نتيجة البراكين والاعاصير المدارية.‏ فمنذ سنة ١٩١٤،‏ ثار ١٢ مرة انشط بركان في البلد،‏ بركان سيرّو نيڠرو،‏ ناثرا الرماد بكثافة على مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية.‏ إيلفريده أوربان،‏ مرسَل خدم في ليون خلال ثوران سنتَي ١٩٦٨ و ١٩٧١،‏ يصف ما حدث:‏ «طوال اسبوعين انهمر على المدينة الرمل الاسود والرماد.‏ ووجب ازالتهما عن السطوح لئلا تنهار.‏ وكان قلق الناس مبرَّرا لأنه منذ عدة قرون دُفنت مدينة ليون القديمة بهذه الطريقة.‏ كما نثرت الريح الرمل الدقيق في كل مكان.‏ فوجدناه في احذيتنا،‏ ثيابنا،‏ اسرّتنا،‏ طعامنا،‏ حتى بين صفحات كتبنا!‏ ورغم معاناة الاخوة كل ذلك،‏ واظبوا على حضور الاجتماعات والاشتراك في خدمة الحقل».‏

في تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ سنة ١٩٩٨،‏ تضررت كل اميركا الوسطى بسبب إعصار ميتش،‏ الذي يدعوه بعض الخبراء «اعنف اعصار ضرب النصف الغربي من الكرة الارضية في القرنين الاخيرين».‏ تقول دائرة معارف إنكارتا (‏بالانكليزية)‏:‏ «قتل إعصار ميتش ما يتراوح بين ٠٠٠‏,٣ و ٠٠٠‏,٤ شخص في نيكاراڠوا وسبّب اضرارا جسيمة في الممتلكات .‏ .‏ .‏ وشكّلت الامطار الغزيرة بحيرة في فوَّهة بركان كاسيتاس،‏ مسبّبة انزلاقا ارضيا غطى ٨٠ كيلومترا مربعا (‏٣٠ ميلا مربعا)‏ ودمّر عدة قرى».‏ وتقدّر الاحصاءات الاخيرة انه مات اكثر من ٠٠٠‏,٢ شخص.‏

كما في البلدان المتضررة الاخرى،‏ قام شهود يهوه في نيكاراڠوا بحملة اغاثة كبيرة.‏ وفي بعض المدن،‏ شكّل المتطوعون الشهود فِرَقا من راكبي الدراجات ذهبوا الى مناطق يتعذر وصول السيارات اليها ليستعلموا عن الاخوة ويوصلوا اليهم الطعام والحاجيات الاخرى.‏ وغالبا ما كانوا اول الواصلين من بين عمال الاغاثة،‏ وذلك لبهجة اخوتهم الذين باتوا مشردين.‏ كما أسرع الشهود في كوستاريكا وپاناما في ارسال ٧٢ طنا من الطعام واللباس.‏ وبعد الاهتمام بالحاجات الملحّة،‏ استمر عمال الاغاثة طوال عدة اشهر يرمِّمون قاعات الملكوت ويبنون بيوتا جديدة للاخوة.‏

نيكاراڠوا «الاخرى»‏

في سنة ١٩٨٧،‏ شكّلت الحكومة في الجزء الشرقي من نيكاراڠوا مقاطعتين متمتعتَين بحكم ذاتي كانتا تُعرَفان سابقا باسم سيلايا.‏ أما اليوم فهما تُدعيان «منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الشمالية» و «منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الجنوبية».‏ وعلى الرغم من ان هاتَين المنطقتَين تشكّلان حوالي ٤٥ في المئة من مساحة اليابسة في نيكاراڠوا،‏ يقطن فيهما حوالي ١٠ في المئة فقط من السكان.‏

تنتشر مناجم الذهب والفضة في هاتَين المنطقتَين،‏ اللتين تمتدان من المنحدرات الشرقية للهضاب الوسطى الوعرة الى البحيرات الشاطئية الضحلة ومستنقعات ساحل الموسكيتو.‏ وفي الوسط،‏ هنالك تنوع من المناظر الطبيعية:‏ غابة مطيرة مدارية،‏ مراعي الساڤانا التي ينمو فيها الصنوبر والنخيل،‏ وعدة انهر وجداول تتعرج نزولا حتى تصل الى البحر الكاريبي.‏ وعلى مر السنين،‏ تأسست في هذه المنطقة القرى،‏ البلدات،‏ والمدن الصغيرة التي يقطنها الهجناء والموسكيتو وغيرهم من الشعوب الاصليين.‏

بالنسبة الى اغلبية سكان هذه المنطقة من الموسكيتو،‏ السومو،‏ الراما،‏ والكرييوليين،‏ تبدو العاصمة ماناڠوا عالما آخر.‏ وفي الواقع،‏ لا توجد بعد طريق معبّدة تربط الشرق بالغرب.‏ وعلى الرغم من انه يُنطَق بالاسپانية في المنطقة الواقعة على المحيط الاطلسي،‏ كثيرون من الناس يتكلمون الموسكيتو،‏ الكرييولية،‏ او بعض اللغات المحلية الاخرى.‏ والغالبية في هذه المنطقة يدينون بالپروتستانتية،‏ وعموما الموارڤية،‏ في حين يعتنق غالبية الساكنين في المنطقة الواقعة على المحيط الهادئ الكاثوليكية.‏ فمن كل الاوجه تقريبا —‏ جغرافيا،‏ لغويا،‏ تاريخيا،‏ حضاريا،‏ ودينيا —‏ يتباين الشرق والغرب تباينا واضحا.‏ فكيف كان الناس سيتلقون البشارة في نيكاراڠوا «الاخرى» هذه؟‏

رسالة الملكوت تصل الى المناطق النائية

قام المرسَلون الشهود بزيارات استكشافية للمنطقة الشرقية قديما في سنة ١٩٤٦ ووزعوا المطبوعات.‏ وفي خمسينات الـ‍ ١٩٠٠،‏ زار ناظر الدائرة سيدني پورتر وزوجته فيليس المدينتَين الساحليتَين الصغيرتَين بلوفيلدز وپورتو كابيساس،‏ جزيرتَي إيسلاس دِل ماييس،‏ وبلدات المناجم روسيتا وبونانسا وسيونا.‏ يروي سيدني:‏ «في زيارة واحدة لبلدات التعدين وزّع كلّ منا اكثر من ٠٠٠‏,١ مجلة و ١٠٠ كتاب.‏ فالجميع يحبون القراءة».‏ وسرعان ما تشكّلت فرق منعزلة في عدة بلدات.‏ ومنذ سبعينات الـ‍ ١٩٠٠،‏ تحوّلت تدريجيا هذه الفرق الى جماعات.‏

ولكنَّ انحاء اخرى من منطقتَي الحكم الذاتي بقيت غير مخدومة طوال سنوات.‏ فكانت العزلة،‏ قلة الطرق،‏ والامطار المدارية الغزيرة طيلة اكثر من ثمانية اشهر في السنة من العوامل التي شكّلت عقبات رئيسية امام العمل الكرازي.‏ ولكنها لم تكن عقبات لا تُذلَّل،‏ كما برهن عدة فاتحين غيورين وجريئين.‏ فنتيجة تصميمهم وعملهم الدؤوب بشكل رئيسي،‏ توجد اليوم في منطقتَي الحكم الذاتي سبع جماعات وتسع فرق،‏ تضم حوالي ٤٠٠ ناشرا للملكوت.‏

لإيضاح التحديات التي يواجهها الشهود في تلك المناطق،‏ تأمّل في مثال اخ يبلغ ٢٢ سنة من العمر.‏ انه يسير في الجبال حوالي ثماني ساعات ثلاث مرات في الاسبوع لحضور الاجتماعات في بلدة المناجم روسيتا،‏ حيث تقع اقرب جماعة.‏ وهو يخدم هناك كخادم مساعد وفاتح قانوني.‏ ولأنه الشاهد المعتمد الوحيد في عائلته،‏ فهو يخدم عادة وحده في هذه المنطقة الجبلية حيث غالبية البيوت يبعد احدها عن الآخر مسيرة ساعتَين تقريبا.‏ وإذا تأخر الوقت ليلا وهو لا يزال في احد البيوت،‏ ينام هناك ويستأنف الشهادة في المنطقة في اليوم التالي،‏ لأنه ليس عمليا ان يذهب الى بيته لقضاء الليل.‏ مؤخرا،‏ مات والد هذا الاخ الحدث.‏ ولأنه الابن الاكبر،‏ صار هو المسؤول عن الاهتمام بعائلته.‏ ومع ذلك،‏ لا يزال قادرا ان يخدم كفاتح.‏ وقد صار الآن احد اخوته الجسديين ناشرا غير معتمد ويرافقه في الخدمة.‏

منذ سنة ١٩٩٤،‏ ينظّم الفرع سنويا حملات تبشيرية في هذه المنطقة الشاسعة.‏ فيجري اختيار فاتحين خصوصيين مؤقتين من بين صفوف الفاتحين القانونيين الغيورين،‏ ليخدموا في البلدات والقرى النائية في منطقتَي الحكم الذاتي طوال اربعة اشهر خلال الفصل الجاف.‏ ويتحمل هؤلاء الفاتحون الشجعان الحرارة الشديدة،‏ الارض الوعرة،‏ الافاعي،‏ الحيوانات البرية،‏ المياه الملوّثة،‏ وخطر التقاط امراض خمجية.‏ وهدفهم هو اعطاء شهادة شاملة،‏ ادارة دروس في الكتاب المقدس مع الاشخاص المهتمين،‏ وعقد اجتماعات مسيحية،‏ بما فيها الذِّكرى.‏ والنتائج التي يحصلون عليها تساعد ايضا مكتب الفرع على تحديد المكان حيث يجب تعيين فاتحين خصوصيين.‏ وعلى مر السنين،‏ ادّى هذا الترتيب الى تشكيل جماعات وفرق في بلدتَي واسپام وسان كارلوس،‏ الواقعتَين على نهر كوكو في اقصى شمال شرق البلاد.‏

رغم ان الهجناء الذين يتكلمون الاسپانية تدفقوا بأعداد كبيرة على منطقتَي الحكم الذاتي،‏ يبقى الموسكيتو الاصليون اكبر فريق هناك.‏ ويتوفر الآن بعض المطبوعات المؤسسة على الكتاب المقدس بلغة الموسكيتو،‏ وقد تعلّم عدد من الفاتحين هذه اللغة.‏ ونتيجة لذلك،‏ كان لرسالة الملكوت تأثير ايجابي في كثيرين من هذا الشعب المضياف الذي يحب الكتاب المقدس.‏

على سبيل المثال،‏ قرب نهر ليكوس في «منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الجنوبية» تقع كويويتينڠني،‏ قرية للموسكيتو تضم ٤٦ بيتا،‏ ٦ منها كانت خالية خلال حملة الفاتحين في سنة ٢٠٠١.‏ وفي تلك السنة،‏ عقد الفاتحون الخصوصيون المؤقتون ٤٠ درسا في الكتاب المقدس في القرية —‏ درسا في كل بيت!‏ بعد شهر واحد فقط،‏ عبّر ثلاثة تلاميذ عن رغبتهم في المعمودية،‏ وكان أحدهم معاون القس في الكنيسة الموراڤية المحلية.‏ كما ان اربعة اشخاص،‏ كان كل اثنين منهم يعيشان معا دون زواج،‏ ارادوا ان يصيروا ناشرين.‏ فشرح لهم الفاتحون بلطف مقاييس الكتاب المقدس المتعلقة بالزواج والمعمودية.‏ وكم فرح الفاتحون عندما اقترب منهم،‏ قبيل موعد رحيلهم،‏ هؤلاء الاربعة حاملين شهادتَي الزواج!‏

منذ تلك الحملة المثمرة،‏ يقطع الناشرون من واسپام قانونيا مسافة ١٩ كيلومترا الى كويويتينڠني لمساعدة المهتمين حديثا على الاستمرار في التقدم الروحي ولتدريبهم في الخدمة.‏

وقد التقى الفاتحون الخصوصيون المؤقتون الذين يكرزون في شتى قرى الموسكيتو على طول نهر كوكو فريقا كبيرا من الاميركيين الذين يقومون بأعمال اجتماعية.‏ فوزّع لهم الفاتحون عددا من المجلات باللغة الانكليزية.‏ وفي قرية فرانسيا سيرپي،‏ قرب نهر واوا،‏ كان اعضاء من الكنيسة المعمدانية يبنون مدرسة صغيرة.‏ فقال رئيس فريق البناء لأحد الفاتحين:‏ «انا مُعجَب بعمل شهود يهوه.‏ فأنتم هنا لتعليم الكتاب المقدس.‏ اتمنى لو ان ديانتي تشجّع على هذا العمل».‏

الحاجة الى اخوة ذوي خبرة

خلال الفترة التي قُيّد فيها العمل،‏ حضر ٦٠ في المئة تقريبا من الشهود في نيكاراڠوا اجتماعات لا تضم اكثر من فرق عائلية صغيرة.‏ ولم يكن لديهم سوى القليل من المطبوعات للخدمة.‏ كانت المحافل تُعقَد على صعيد الجماعة،‏ وكان البرنامج موجَزا.‏ وقد حلّ عدد من الاخوة الناضجين الذين هم ايضا رؤوس عائلات محل النظار الجائلين،‏ ولكنهم لم يتمكنوا من القيام بذلك كامل الوقت.‏ اضافة الى ذلك،‏ هاجر العديد من عائلات الشهود القدامى خلال تلك السنوات المضطربة.‏ ولذلك،‏ عندما أُعيد تسجيل العمل شرعيا،‏ كانت هنالك حاجة ماسة الى شيوخ وفاتحين ذوي الخبرة.‏

وفي الواقع،‏ كان الشيوخ انفسهم تواقين الى التدريب في الاجراءات التنظيمية.‏ وكان الناشرون بحاجة الى التوجيه في امور مثل كيفية عرض المطبوعات في خدمة الحقل.‏ وبغية سدّ هذه الحاجات،‏ قررت الهيئة الحاكمة ان تعيّن في نيكاراڠوا متخرجين من مدارس تدريب الخدام التي عُقدت في السلڤادور،‏ المكسيك،‏ وپورتو ريكو.‏ كان احد هؤلاء الاخوة پيدرو إنريكيس،‏ متخرّج من الصف الاول لمدرسة تدريب الخدام في السلڤادور.‏ وقد بدأ يخدم في العمل الدائري في نيكاراڠوا سنة ١٩٩٣.‏ كما ‹عبر› ايضا الى مقدونية العصرية هذه احد عشر ناظر دائرة ذوو خبرة من المكسيك من اجل المساعدة.‏ —‏ اعمال ١٦:‏٩‏.‏

في السنوات التسع الاخيرة،‏ وصل ايضا الى نيكاراڠوا ٥٨ متخرّجا من جلعاد،‏ وعُيّنوا في ستة بيوت للمرسَلين في كل انحاء البلد.‏ وقد ساهم نضجهم في خلق جو روحي حماسي في الجماعات،‏ وساعدوا كثيرين من الاحداث على وضع الخدمة كامل الوقت هدفا لهم.‏

ان الذين اتوا الى نيكاراڠوا خلال ستينات وسبعينات الـ‍ ١٩٠٠ ليخدموا حيث الحاجة اعظم دعوا نيكاراڠوا فردوس التبشير.‏ ولا يزال هذا الامر صحيحا اليوم.‏ يعلّق اخ في دائرة الخدمة في الفرع:‏ «لا تزال نيكاراڠوا بلدا يحدِّد فيه الناشرون والفاتحون عدد دروس الكتاب المقدس التي سيعقدونها،‏ لأنه يوجد اهتمام كبير».‏ ومن الطبيعي ان يكون كثيرون من التواقين الى المساعدة حيث الحاجة اعظم والذين حسبوا النفقة قد استعلموا عن الخدمة في نيكاراڠوا.‏ وفي الواقع،‏ بحلول نيسان (‏ابريل)‏ ٢٠٠٢،‏ انتقل ٢٨٩ فاتحا من ١٩ بلدا الى هنا للمساعدة.‏ فكم الشهود المحليون شاكرون على كل عمال الحصاد هؤلاء!‏ —‏ متى ٩:‏٣٧،‏ ٣٨‏.‏

تجمّع مبهج على نطاق البلد

قبل وضع قيود على عملنا،‏ عُقد آخر محفل على نطاق البلد في سنة ١٩٧٨.‏ فتخيّل بهجة الاخوة عندما تلقوا الدعوة الى حضور محفل كوري في ماناڠوا في كانون الاول (‏ديسمبر)‏ سنة ١٩٩٩!‏ شُجّع افراد العائلات على البدء بادّخار المال لتكاليف السفر والنفقات الاخرى لكي يتمكن الجميع من حضور المحفل.‏ وكان بعض الشهود حاذقين في تجميع المال للمحفل.‏ على سبيل المثال،‏ بما ان الخنازير شائعة في نيكاراڠوا،‏ ربّى البعض عددا منها ثم باعوها.‏ ونتيجة للتخطيط الحكيم والتصميم،‏ تمكن ٣٥٦‏,٢٨ شاهدا وشخصا مهتما من شتى انحاء البلد من المجيء الى مدرَّج البايسبول القومي في ماناڠوا لحضور محفل «كلمة اللّٰه النبوية» الكوري الذي بدأ في ٢٤ كانون الاول (‏ديسمبر)‏.‏

وكم فرح المندوبون يوم السبت في المحفل برؤية ٧٨٤ شخصا يعتمدون —‏ اكبر معمودية في تاريخ العمل في نيكاراڠوا!‏ وكان المرسَلون الذين خدموا هناك في السابق حاضرين ورووا للحضور اختبارات مشجعة.‏ كما كان للمحفل تأثير موحّد قوي اذ حثّ الجميع،‏ بغضّ النظر عن اللغة او الخلفية القبلية،‏ ان يكونوا مصممين اكثر من اي وقت مضى على التقدم في ‹اللغة النقية› للحق الروحي «ليخدموا [يهوه] كتفا الى كتف».‏ —‏ صفنيا ٣:‏٩‏،‏ ع‌ج.‏

الدفاع عن حقنا في نيل معالجة طبية دون دم

توجد في نيكاراڠوا ثلاث لجان للاتصال بالمستشفيات،‏ تُنسّق عملها خدمات معلومات المستشفيات في الفرع.‏ وتساعد هذه اللجان الشهود المرضى عندما تنشأ قضية تتعلق بنقل الدم.‏ كما انها تسعى الى اعلام الاختصاصيين والتلاميذ في الحقل الطبي بالبدائل الكثيرة لنقل الدم التي يقبلها شهود يهوه.‏

لهذه الغاية،‏ قدّم اعضاء من لجان الاتصال بالمستشفيات محاضرات وعروضا سمعية بصرية امام اطباء وتلاميذ في المجال الطبي،‏ وقد اعطى بعضهم تعليقات ايجابية جدا.‏ وفي الواقع،‏ يعبّر عدد متزايد من الجرّاحين وأطباء التبنيج عن رغبتهم في التعاون مع شهود يهوه باحترام موقفهم المؤسس على الكتاب المقدس في قضية نقل الدم.‏

مصمّمون على المضي قُدُما

يزوّد تاريخ نيكاراڠوا الثيوقراطي شهادة وافرة على انه لا الكوارث الطبيعة ولا التي من صنع الانسان تستطيع ان تمنع تقدم البشارة.‏ نعم،‏ لقد جعل يهوه «الصغير يصير ألفا».‏ (‏اشعياء ٦٠:‏٢٢‏)‏ فأول تقرير لخدمة الحقل في البلد قُدّم في سنة ١٩٤٣ مثّل نشاط ثلاثة ناشرين فقط؛‏ ولكن بعد ٤٠ سنة كانت هنالك ذروة من ٤٧٧‏,٤ ناشرا.‏ وفي سنة ١٩٩٠،‏ عندما سُمح للمرسَلين بالعودة،‏ ارتفع العدد الى ٨٩٤‏,٧!‏ واستمرت بركة يهوه في تسعينات الـ‍ ١٩٠٠،‏ حين تضاعف تقريبا عدد المنادين بالملكوت.‏

من الطبيعي ان يخلق هذا النمو السريع حاجة ماسة الى المزيد من قاعات الملكوت.‏ ولذلك اعدّ مكتب الفرع برنامج بناء ضخما يتضمن بناء حوالي ١٢٠ قاعة ملكوت إضافية،‏ وفرع جديد في تيكوانتيپي،‏ على بعد ١١ كيلومترا جنوبي ماناڠوا.‏ ويُتوقّع ان ينتهي بناء الفرع في نيسان (‏ابريل)‏ ٢٠٠٣.‏

في السنوات الاخيرة احرزت نيكاراڠوا بعض التقدم الاقتصادي،‏ وخصوصا في مدينة ماناڠوا التي شهدت نموا سريعا في فرص العمل،‏ التعليم،‏ والتسلية.‏ وتشهد المدينة الآن حركة إعمار مستمرة،‏ وقد اصبحت تزخر بالمعالم العصرية من مطاعم،‏ محطات وقود،‏ ومراكز تسوّق مليئة بالسلع الاستهلاكية وشتى السمات الاخرى التي تميِّز المجتمع الغربي.‏

ان هذا المحيط بمغرياته العديدة يشكّل تحدّيات جديدة للمسيحيين.‏ ذكر احد الشيوخ القدامى:‏ «الامور تتغير بسرعة.‏ فالحالة شبيهة بوضع طبق من الحلوى امام ولد صغير لم يأكل في حياته سوى الارزّ والفاصولياء والقول له:‏ ‹حذار!‏ لا تأكل كثيرا›.‏ نعم،‏ نحن نعلم كيف نخدم يهوه تحت الشدائد،‏ ولكن الآن العدو ماكر.‏ ويصعب مقاومة هذا الوضع اكثر».‏

مع ذلك،‏ فإن الولاء،‏ الغيرة،‏ والشجاعة التي اعرب عنها شعب يهوه خلال سنوات تقييد العمل تستمر في انتاج ثمر جيد.‏ فكثيرون من الاولاد الذين تربوا في تلك الفترة يخدمون الآن كشيوخ،‏ فاتحين،‏ ومتطوعّين في بيت ايل.‏ ويوجد في نيكاراڠوا الآن ١٧ دائرة مؤلفة من ٢٩٥ جماعة و ٣١ فريقا منعزلا.‏ كما اظهر تقرير آب (‏اغسطس)‏ ٢٠٠٢ وجود ذروة جديدة من ٦٧٦‏,١٦ ناشرا،‏ وبلغ حضور الذِّكرى في هذه السنة ٧٥١‏,٦٦ شخصا!‏

لذلك،‏ نصلّي ان يأتي المزيد من الناس في هذا البلد المتنوع الى معرفة يهوه قبل ان تنتهي ‹سنته المقبولة›.‏ (‏اشعياء ٦١:‏٢‏)‏ نعم،‏ فليستمر ابونا السماوي في توسيع حدود فردوسنا الروحي الى ان تمتلئ الارض بكاملها «من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر».‏ —‏ اشعياء ١١:‏٩‏.‏

‏[الاطار في الصفحة ٧٢]‏

لمحة عن نيكاراڠوا

اليابسة:‏ نيكاراڠوا هي اكبر بلد في اميركا الوسطى.‏ تقسمها الجبال الوسطى الى قسمين.‏ القسم الغربي هو منطقة بحيرات عذبة المياه.‏ اما المنطقة الشرقية الاقل خصبا فتتألف بمعظمها من غابة مطيرة وسهول.‏ يوجد في نيكاراڠوا حوالي ٤٠ بركانا،‏ والبعض منها ناشط.‏

الشعب:‏ معظمه من الهجناء الذين يتكلمون الاسپانية،‏ اشخاص من نسب اميركي هندي وأوروپي مختلط.‏ على الساحل الغربي يعيش عدد قليل من هنود المونيمبو والسوبتيابا،‏ اما في المنطقة الشرقية فيعيش هنود الموسكيتو،‏ السومو،‏ والراما،‏ بالاضافة الى الكرييوليّين والكاريبيين الافريقيين.‏ الديانة الرئيسية هي الكثلكة الرومانية.‏

اللغة:‏ اللغة الرسمية هي الاسپانية.‏ ويجري التكلم ايضا بلغات محلية.‏

سُبُل العيش:‏ الزراعة هي عماد الاقتصاد في نيكاراڠوا.‏

الطعام:‏ المحاصيل الرئيسية المستهلَكة محليا هي الارزّ،‏ الذرة،‏ الفاصولياء،‏ نبات لسان الحَمَل،‏ المنيهوت،‏ وشتى الفواكه.‏ وتشمل المستورَدات البن،‏ السكر،‏ الموز،‏ ثمار البحر،‏ ولحم البقر.‏

المناخ:‏ مناخ نيكاراڠوا مداري.‏ تتفاوت الامطار بين ١٩٠ سنتيمترا و ٣٨٠ سنتيمترا،‏ وفقا للمنطقة.‏ يبلغ معدل الحرارة على السواحل حوالي ٢٦ درجة مئوية،‏ اما في الهضاب فالحرارة ابرد قليلا.‏

‏[الاطار/‏الصورة في الصفحات ٩٩-‏١٠٢]‏

فترة احتجاز قصيرة عند الشرطة السرية

أُوبير وتيلما لوپيس

لمحة عن حياتهما:‏ لهما ثلاثة اولاد راشدين.‏ يخدم أُوبير كشيخ في الجماعة المحلية.‏

في ظل الحكومة الثورية،‏ غالبا ما كان سلك امن الدولة يوقف الخدام المساعدين والشيوخ ويحتجزهم للاستجواب فترة تتراوح بين يوم واحد وعدة اسابيع.‏ وبسبب حياد شهود يهوه المؤسس على الكتاب المقدس،‏ اتُّهموا بتحريض الشعب ان يتمردوا على الحكومة،‏ ولكنّ هذا الاتّهام لم يوجَّه اليهم رسميا.‏ كما اراد المحقِّقون اسماء «معلِّمينا» و «قادتنا».‏

كان أُوبير لوپيس،‏ الذي هو الآن شيخ وأب لثلاثة اولاد راشدين،‏ احد الاخوة العديدين الذين مرّوا بهذا الاختبار.‏ ففي كانون الاول (‏ديسمبر)‏ سنة ١٩٨٥،‏ أُوقف الاخ لوپيس في بيته في لا ريفورما،‏ مجتمع ريفي على بُعد حوالي ٤٠ كيلومترا جنوبي شرقي ماناڠوا.‏ تروي زوجته تيلما عن معاناتهم في ذلك اليوم:‏

«في الساعة ٠٠:‏٤ بعد الظهر،‏ توقفت سيارتا جيپ امام منزلنا:‏ واحدة فيها عناصر من سلك امن الدولة،‏ والاخرى فيها جنود ترجلوا منها وطوّقوا البيت.‏ وعندما قلت لهم ان زوجي ليس موجودا،‏ امروني انا والاولاد ان نخرج من البيت،‏ قائلين انهم سيفتشونه.‏ إلا ان ابننا الاكبر إلمير،‏ الذي كان في العاشرة من عمره،‏ بقي في البيت وراقبهم وهم يفرغون المكتبة من الكتب غير الدينية والثيوقراطية على السواء.‏ وكان زوجي قد خبأ بين تلك الكتب بعض سجلات الجماعة.‏ عندما اخذوا الكتب الى سيارتَي الجيپ،‏ صرخ إلمير:‏ ‹سيدي،‏ هل ستأخذ كتبي المدرسية ايضا؟‏›.‏ اجاب احد الجنود بفظاظة:‏ ‹خذها›.‏ وبهذه الطريقة،‏ تمكن ابننا من انقاذ كتبه مع سجلات الجماعة.‏

«في ذلك المساء،‏ عاد الجنود ونحن نتعشى.‏ وفيما هم يصوّبون الينا بنادقهم،‏ اخذوا زوجي امام انظار الاولاد الذين كانوا يبكون.‏ ولكنهم لم يقولوا لنا لماذا او الى اين يأخذونه».‏

يروي الاخ لوپيس واصفا ما حدث لاحقا:‏ «أُخذت الى سجن ماسايا ووُضعت في زنزانة مع شتى المجرمين.‏ فور وصولي،‏ عرّفت بنفسي اني واحد من شهود يهوه وشهدت لهم عدة ساعات.‏ في منتصف الليل،‏ أُمرت تحت تهديد السلاح ان اخرج من الزنزانة وأصعد الى سيارة جيپ منتظرة في الظلام في الخارج.‏ أُمرت ان أُبقي رأسي منخفضا،‏ ولكن عندما صعدت الى الجيپ رأيت اربعة اشخاص في الجيپ خافضين رؤوسهم.‏ لقد كانوا خداما مساعدين وشيوخا من منطقة ماسايا تمّ اعتقالهم في الليلة نفسها.‏

‏«في تلك الليلة،‏ هدّدوا بقتلنا مرتين:‏ اولا في حقل للبُنّ ثم في منطقة في المدينة،‏ حيث جعلونا نصطف امام الحائط.‏ في كلتا الحالتين بدا انهم ينتظرون منا ان نقول شيئا ما،‏ ولكن لم يتلفظ اي منا بشيء.‏ اخيرا،‏ اخذونا الى السجن في هينوتيپي ووضعونا في زنزانات منفصلة مدة ثلاثة ايام.‏

«لم يُسمَح لنا ان ننام اكثر من بضع ساعات.‏ وكانت زنزاناتنا مظلمة،‏ فلم نكن نعرف الليل من النهار.‏ كما استُدعينا تكرارا الى غرفة الاستجواب وسُئلنا عن نشاطاتنا الكرازية،‏ الاجتماعات،‏ وأسماء ‹قادتنا›.‏ حتى ان احد المحقّقين هدّد باعتقال والديّ وإجبارهما على البوح بالمعلومات.‏ وقد سمعت فعلا اصوات والديّ،‏ زوجتي،‏ وأعضاء آخرين من العائلة وأنا في زنزانتي.‏ ولكنّ ما سمعته كان تسجيلا من المفترض ان يخدعني لأصدّق ان اعضاء عائلتي أُحضروا للاستجواب.‏

«في اليوم الرابع،‏ يوم الخميس،‏ قيل لي انه سيُطلق سراحي شرط ان اوقّع اولا بيانا أعلن فيه انني سأتوقف عن الكرازة بديني.‏ وقيل لي ايضا ان رفقائي الشهود قد وقّعوا —‏ ولكنّ ذلك كان بالطبع عاريا عن الصحة.‏ قال لي المحقّقون:‏ ‹اذا رفضت ان توقّع فسنُعيدك الى السجن حيث ستبلى›.‏

«اجبت:‏ ‹اذًا،‏ من فضلكم لا تُطلقوا سراحي،‏ اتركوني هنا›.‏

«‹لماذا تقول هذا؟‏›‏

«‹لأنني واحد من شهود يهوه،‏ وهذا يعني انني مبشّر›.‏

«لدهشتي،‏ أُطلق سراحنا نحن الخمسة في اليوم نفسه.‏ نعم،‏ لقد استجاب يهوه صلواتنا وقوّانا بحيث حافظنا على اعصاب هادئة ولم نخُن اخوتنا.‏ ولكن بعد هذه الحادثة،‏ صرنا تحت مراقبة مستمرة».‏

‏[الاطار/‏الصورة في الصفحتين ١٠٥،‏ ١٠٦]‏

أُقحمتُ في ساحة المعارك

جيوڤاني ڠايتان

تاريخ المعمودية:‏ سنة ١٩٨٧

لمحة عن حياته:‏ أُوقف قبل بضعة اسابيع من معموديته،‏ وأُجبر على مرافقة «كتائب الحرب غير النظامية» مدة ٢٨ شهرا.‏ خدم كفاتح طوال اكثر من ثماني سنوات.‏

أُجبر بعض الاخوة الشباب على مرافقة «كتائب الحرب غير النظامية» المحارِبة في اعماق الادغال في الجبال.‏

كان احد هؤلاء الشباب جيوڤاني ڠايتان.‏ فعندما كان لا يزال ناشرا غير معتمد،‏ قضى ٢٨ شهرا مع «كتائب الحرب غير النظامية».‏ وقد أُوقف قبل بضعة اسابيع من معموديته.‏ يروي جيوڤاني:‏ «بدأت محني بعد المعركة الاولى.‏ فقد امرني احد الضباط ان اغسل بدلة ملطخة بالدماء لجندي ميت.‏ ولكنني رفضت،‏ اذ فكرت ان ذلك قد يكون اول حلقة في سلسلة من الاحداث تؤدي الى المسايرة في حيادي المسيحي.‏ فغضب الضابط وصفعني بقوة على خدي.‏ ثم شهر مسدسه،‏ ألصقه برأسي،‏ وضغط على الزناد.‏ ولكنّ الرصاصة لم تنطلق.‏ فضربني بالمسدس على وجهي وهدّد بقتلي اذا خالفت اوامره مرة اخرى.‏

«على مر الاشهر الـ‍ ١٨ التالية،‏ جعل هذا الشخص حياتي شقية جدا.‏ فعدة مرات،‏ امر بأن تُربَط يداي كامل النهار،‏ بحيث لا استطيع ان آكل.‏ وغالبا ما أُجبرت،‏ وأنا في هذه الحالة،‏ على السير في الادغال في مقدّمة الفريق.‏ وقد رُبطت الى ظهري بندقية وقنابل يدوية،‏ فكنت اول وأسهل هدف للاعداء!‏ وكان يضربني ويهدّد بقتلي،‏ وخصوصا في خضم المعارك عندما كان الآخرون يموتون حولي وأنا ارفض ان ألتقط بنادقهم.‏ ومع ذلك،‏ لم اكرهه.‏ ولم يبدُ عليّ الخوف،‏ لأن يهوه منحني الشجاعة.‏

«ذات صباح في آذار (‏مارس)‏ سنة ١٩٨٥،‏ أُنزلنا انا وبعض الاخوة الآخرين من الجبال الى منطقة قرب مولوكوكو،‏ على بُعد ٣٠٠ كيلومتر تقريبا شمالي شرقي ماناڠوا.‏ وهناك سُمح لعائلاتنا بأن تزورنا.‏ وفيما كنت آكل وأتحدث مع اعضاء عائلتي،‏ لاحظت ان هذا الضابط جالس وحده.‏ فأخذت له طبق طعام.‏ عندما انتهى من الاكل،‏ استدعاني.‏ فتهيّأت لحدوث اسوإ الامور،‏ ولكنني فوجئت عندما اعتذر عن الطريقة التي عاملني بها.‏ حتى انه سألني عن معتقداتي.‏ كانت تلك آخر مرة رأيته فيها؛‏ فقد مات بُعيد ذلك في حادث اصطدام شاحنة عسكرية».‏

‏[الاطار/‏الصور في الصفحات ١١٦-‏١١٨]‏

قصة عضوين في لجنة البلد

خلال الفترة التي وُضعت فيها قيود على نشاطاتنا،‏ صار العمل في نيكاراڠوا تحت اشراف فرع كوستاريكا.‏ وعُيّنت في نيكاراڠوا لجنة للبلد لتتولى الإشراف المحلي.‏ كان اثنان من الاخوة الذين خدموا في لجنة البلد ألفونسو هويا وأڠوستين سيكيرا.‏ وهما يرويان قصتهما خلال فترة الامتحان تلك.‏

ألفونسو هويا:‏ «كنت اخدم كشيخ في ماناڠوا عندما دُعيت الى الخدمة في لجنة البلد في سنة ١٩٨٥.‏ اما عملي الدنيوي فكان ادارة اكبر فرع لمصرف مشهور.‏ وقد مكّنتني معرفتي للأعمال المصرفية من مساعدة الاخوة ان يستفيدوا قدر الامكان من اموال هيئة يهوه في وقت انخفضت فيه بسرعة قيمة العملة في نيكاراڠوا،‏ مما جعل الوضع الاقتصادي يتدهور.‏ فالحذاء العادي،‏ الذي كان يكلف حوالي ٢٥٠ كوردوبة،‏ سرعان ما صار يُباع بمليونَي كوردوبة!‏

«خلال هذا الوضع الاقتصادي الحرج،‏ عانى البلد ايضا نقصا في المحروقات،‏ مما صعّب على الاخوة إيصال المطبوعات الى الجماعات البعيدة.‏ وقد ساعدنا يهوه عندما اتاح لي الفرصة لتأمين المحروقات للاخوة.‏

«لم تعرف عائلتي انني عضو في لجنة البلد.‏ كنت آنذاك في الـ‍ ٣٥ من العمر،‏ عمر يؤهل الشخص للانضمام الى قوات الاحتياط.‏ لذلك حاولت القوات المسلحة اجباري على ذلك اربع مرات.‏ وكانت احدى هذه المرات في بيتي.‏ وما زلت اتذكر هذه الحادثة جيدا،‏ لأن زوجتي وأولادي الثلاثة الصغار كانوا بجانبي وأنا احدّق الى ماسورة البندقية.‏ ومن المستغرب انني لم اخسر وظيفتي قط في المصرف».‏

أڠوستين سيكيرا:‏ «كنت اخدم كفاتح خصوصي في بلدة صغيرة في بوآكو عندما رُحّل المرسَلون في سنة ١٩٨٢.‏ لاحقا،‏ نلت امتياز تعييني في لجنة البلد.‏ لم يعرف الاخوة في جماعتي شيئا عن هذا التعيين.‏ فكنت انهض باكرا جدا في الساعة الرابعة صباحا،‏ اقوم بعملي المكتبي،‏ ثم اشترك في خدمة الحقل مع الجماعة.‏

«استخدم كل اعضاء لجنة البلد اسماء مستعارة عند إتمام المسؤوليات،‏ واتفقنا الّا نعطي واحدنا الآخر تفاصيل عن عملنا.‏ وقد خدم ذلك كحماية في حال اعتُقل احد منا.‏ لم نعمل في مكتب،‏ بل في بيوت مختلفة.‏ ولأن الحقيبة قد تثير الفضول،‏ كنت احيانا اضع الاوراق المكتبية في كيس وأضع فوقها بعض البصلات بحيث تكون اوراقها ظاهرة.‏ كدت أُمسَك بضع مرات،‏ ولكنني لم أُعتقَل قط.‏

«زارنا اعضاء من لجنة فرع كوستاريكا عدة مرات لمنحنا التشجيع والارشاد.‏ وكان الحدث الابرز والاكثر تشجيعا بالنسبة الي تدشين فرع كوستاريكا في كانون الثاني (‏يناير)‏ سنة ١٩٨٧،‏ لأنه في تلك المناسبة فرحنا انا وعضو آخر من لجنة البلد بلقاء عضوين من الهيئة الحاكمة».‏

قُبيل ارسال هذا التقرير الى المطبعة،‏ مات الاخ سيكيرا بسلام.‏ كان في الـ‍ ٨٦ من العمر وخدم كامل الوقت طوال اكثر من ٢٢ سنة.‏ وكان عضوا في لجنة الفرع في نيكاراڠوا.‏

‏[الاطار/‏الصور في الصفحتين ١٢٢،‏ ١٢٣]‏

وجدنا الحرية الحقيقية في السجن

بين سنة ١٩٧٩ وسنة ١٩٨٩،‏ امتلأ سجن موديلو بسجناء عسكريين وسياسيين منتمين الى الحكومة السابقة.‏ وقد اخترقت رسالة الملكوت هذه الجدران،‏ ملأت قلوب وأذهان المستقيمي القلوب،‏ ونمّت فيهم شخصية شبيهة بشخصية المسيح.‏ (‏كولوسي ٣:‏٥-‏١٠‏)‏ وهذه هي بعض التعليقات من سجناء سابقين.‏

هوسّيه دي لا كروس لوپيس:‏ «‏عندما كنت مسجونا،‏ كنت ساخطا وبلا رجاء او مستقبل.‏ ثم التقيت سجناء آخرين كانوا قد صاروا من شهود يهوه.‏ تأثرت بشرحهم للكتاب المقدس وبسلوكهم الجيد.‏ وأخيرا تمكنت من نيل الاكتفاء الروحي والرجاء.‏ وفكّرت:‏ اذا كنت مستعدا للتضحية بحياتي من اجل حكومة بشرية لا تستطيع تقديم رجاء حقيقي،‏ فكم بالاحرى يجب ان اكون وليّا للذي ضحّى بابنه من اجلي؟‏!‏ بعد اطلاق سراحي،‏ درستْ ايضا الحق زوجتي وبناتي وثلاثة اعضاء آخرين في العائلة.‏ حقا،‏ لا استطيع ان اردّ ليهوه مقابل كل ما فعله من اجلي».‏

يخدم الاخ لوپيس كشيخ في ماناڠوا.‏

أومَر أنطونيو إسپينوسا:‏ «عندما كنت في الـ‍ ١٨ من العمر،‏ حُكم عليّ بالسجن ٣٠ سنة.‏ قضيت منها ١٠ سنوات في السجن قبل ان انال العفو.‏ مع اني متأسف اني خسرت حريتي،‏ فقد تعرّفت بيهوه ووجدت الحرية الحقيقية في السجن.‏ في السابق،‏ كانت احيا حياة فاسدة ادبيا،‏ ولكنني الآن تغيرت تغيرا جذريا.‏ انا شاكر ليهوه ان كأسي ريّا بمعنى روحي.‏ وتصميمي هو كتصميم يشوع:‏ ‹انا وبيتي نعبد الرب›.‏ —‏ يشوع ٢٤:‏١٥‏».‏

يخدم الاخ إسپينوسا كشيخ في مدينة ريڤاس.‏

اناستازيو رامون ميندوسا:‏ «‏بعد بضعة اشهر من سجني،‏ بدأت اقرأ الكتاب المقدس وحدي.‏ ثم ابتدأ احد رفقائي السجناء،‏ وهو واحد من شهود يهوه،‏ يدرسه معي.‏ وسرعان ما صرت مقتنعا انني وجدت الحق.‏ ومع ذلك،‏ اجّلت المعمودية لأنني كنت اضمر الغضب والضغينة للذين اعتقلوني —‏ موقف عقلي كنت اعرف انه لا يرضي يهوه.‏

«صلّيت بحرارة من اجل الغفران والمساعدة لكي اتغلب على موقفي المؤذي.‏ وقد سمع يهوه تضرعاتي،‏ لأنه علّمني بصبر ان ابغض المواقف والاعمال السيئة،‏ وليس الاشخاص.‏ اعتمدت في سنة ١٩٨٢.‏ ومنذ اطلاق سراحي في سنة ١٩٨٩،‏ درست الكتاب المقدس مع عدة عسكريين سابقين وغيرهم ممن كانوا في وضع مماثل لوضعي.‏ والبعض منهم هم الآن اخوتي الروحيون».‏

يخدم الاخ ميندوسا كخادم مساعد في ماناڠوا.‏

‏[الاطار/‏الصورة في الصفحات ١٤١-‏١٤٥]‏

صلوات قسيس تُستجاب

تيوذوسيو ڠورديان

تاريخ المعمودية:‏ سنة ١٩٨٦

لمحة عن حياته:‏ يخدم الاخ ڠورديان حاليا كشيخ في جماعة وامبلان.‏

في سنة ١٩٨٦،‏ فيما كانت الحرب محتدمة بين الساندينيين والكونتراس،‏ قام ناشران من الجماعة الصغيرة في سان خوان دل ريو كوكو باجتياز مسافة ١٠٠ كيلومتر نحو الشمال الى وامبلان،‏ بلدة تقع في الهضاب الوسطى في منطقة من التلال الجدباء تقريبا قرب حدود هندوراس.‏ كان الفريق الصغير من الشهود الذين عاشوا هناك قد تركوا وامبلان منذ سنتين بسبب القتال.‏ وكان الاخَوان يبحثان عن رجل اسمه تيوذوسيو ڠورديان.‏ يشرح تيوذوسيو السبب كما يلي:‏

«كنت قسّا في كنيسة انجيلية في وامبلان.‏ وكانت كنسيتنا تابعة للجمعية الوطنية لقسوس نيكاراڠوا،‏ هيئة قسوس مؤلفة من كل الاديان الپروتستانتية في ماناڠوا.‏ بُعيد استيلاء الثوار الساندينيين على السلطة،‏ وقّعت هذه الجمعية اتفاقا تؤيد فيه اشتراك القسوس وأعضاء الكنائس في لجان الدفاع الساندينية المنظمات الساندينية الاخرى،‏ بما فيها الجيش.‏ ولكنّ ذلك ازعجني،‏ لأنني تساءلت:‏ ‹كيف يمكن لخادم اللّٰه ان يحمل السلاح؟‏›.‏

«بعد ذلك حصلت على كتاب السلام والامن الحقيقيان —‏ من ايّ مصدر؟‏ من عائلة من الشهود كانت تعيش آنذاك في وامبلان.‏ وقد قرأت فيه حتى وقت متأخر من الليل.‏ وبدأت ايضا اقرأ مجلتَي برج المراقبة و استيقظ!‏ قانونيا.‏ وهكذا حصلت اخيرا على طعام روحي حقيقي.‏ حتى انني استخدمت المعلومات في العظات التي اقدمها.‏ وعندما لُفت نظر الرسميين الكنسيين الى الامر،‏ استدعوني الى المكاتب الرئيسية في ماناڠوا.‏

«كان الرسميون يظنون انني أُضَلّ بسبب قلة معرفتي كقسّ،‏ فعرضوا عليّ منحة دراسية مدتها ثمانية اشهر لأدرس في ماناڠوا.‏ ولكنني كنت قد تعلمت من مطبوعات الشهود امورا مؤسسة جيدا على الكتاب المقدس.‏ لذلك سألت رسميي الكنيسة عدة اسئلة،‏ مثل:‏ ‹لماذا لا نبشّر من بيت الى بيت مثلما فعل المسيحيون الاولون؟‏ ولماذا نطلب العشور في حين ان الرسل لم يفعلوا ذلك؟‏›.‏ فلم يعطوني اجوبة مقنعة عن اسئلتي.‏ وسرعان ما صاروا يعتبرونني من الشهود.‏

«بعد ذلك،‏ قطعت علاقتي بالكنيسة وذهبت لأبحث عن شهود يهوه في ماناڠوا.‏ ولكنَّ الشهود كانوا لا يزالون يجتمعون سرّا سنة ١٩٨٤.‏ لذلك بعد اسبوعين من البحث العقيم،‏ عدت الى وامبلان وبدأت ازرع الذرة والفاصولياء في قطعة ارض صغيرة لإعالة عائلتي.‏

«وزَّع الشهود الذين عاشوا في وامبلان الكثير من مطبوعاتهم قبل ان يغادروا المنطقة.‏ فكنت اسأل حينما اجد هذه المطبوعات في البيوت التي ازورها:‏ ‹هل تقرأون هذا الكتاب؟‏ هل استطيع شراءه منكم؟‏›.‏ وكان معظم الناس يعطونني اياه.‏ وهكذا بمرور الوقت،‏ صارت عندي مكتبة ثيوقراطية صغيرة.‏

«مع انني لم اعرّف بنفسي جهرا انني شاهد،‏ فقد بدأ الناس في وامبلان ايضا يعتبرونني من الشهود.‏ ولذلك،‏ لم يمضِ وقت طويل حتى استجوبني عناصر امن الدولة بشأن نشاطاتي.‏ وقد سمحوا لي بالكرازة في القرى المجاورة شرط ان اجلب لهم معلومات مثل اسماء الذين يؤيدون الكونتراس.‏ فأجبتهم:‏ ‹ان فعْل ما تطلبونه مني هو خيانة لإلهي.‏ وهذا ما لا يمكنني فعله.‏ فيهوه يتطلب تعبدا مطلقا›.‏

«في مناسبة اخرى،‏ طلب مني ضابط في الجيش ان اوقّع وثيقة تأييد للساندينيين.‏ وعندما رفضت،‏ شهر مسدسا وهددني قائلا:‏ ‹ألا تعلم انه بإمكاننا القضاء على الطفيليين الذين لا يخدمون الثورة؟‏›.‏ ولكن بدلا من ان يطلق النار عليّ،‏ منحني فرصة لأعيد التفكير.‏ في تلك الليلة،‏ ودّعت زوجتي وقلت لها:‏ ‹حتى لو وقّعت تلك الورقة فسأموت على كل حال.‏ ولكن انْ متُّ دون ان اوقّعها،‏ فقد يتذكرني يهوه في القيامة.‏ اعتني بالاولاد،‏ وثقي بيهوه.‏ فإنه سيساعدنا›.‏ في الصباح التالي قلت للضابط:‏ ‹هأنذا،‏ افعل بي ما يحلو لك،‏ ولكنني لن اوقّع›.‏ فأومأ الضابط برأسه وقال:‏ ‹تهانيّ.‏ علمت انك ستجيب هكذا.‏ فأنا اعرف من هم شهود يهوه›.‏ ثم تركني ارحل.‏

‏«بعد ذلك،‏ صرت اكرز بطريقة علنية اكثر،‏ مسافرا الى العديد من القرى البعيدة وداعيا المهتمين الى ان نجتمع معا.‏ من بين اوائل الذين تجاوبوا زوجان كبيران في السن؛‏ ثم تبعتهما عائلات اخرى.‏ وسرعان ما صرنا ٣٠ شخصا نجتمع قانونيا.‏ كنت استعمل الاعداد القديمة من برج المراقبة،‏ وأعرض المواد في شكل محاضرة بما اننا لم نكن نملك سوى نسخة واحدة.‏ كما اني درست الكتاب المقدس مع بعض الجنود،‏ ولاحقا صار احدهم من الشهود.‏

«في سنة ١٩٨٥،‏ اخبرني جندي مارّ بالمنطقة عن جماعة لشهود يهوه في هينوتيڠا،‏ على بُعد حوالي ١١٠ كيلومترات جنوبي وامبلان.‏ فطلبت من تلميذ للكتاب المقدس من وامبلان ان يرافقني الى هناك.‏ وبعد الاستعلام في السوق في هينوتيڠا،‏ وجدنا اخيرا بيت عائلة من الشهود.‏ وعندما فتحت الزوجة الباب،‏ عرّفناها بأنفسنا اننا من شهود يهوه.‏ فسألتنا إن كنا اتينا لحضور الذِّكرى.‏ وحين سألناها:‏ ‹ما هي الذِّكرى›،‏ نادت زوجها الذي دعانا الى الدخول بعدما اقتنع بصدقنا.‏ للأسف،‏ كانت الذِّكرى قد عُقدت في المساء السابق.‏ ولكننا مكثنا في بيتهما ثلاثة ايام وحضرنا لأول مرة درس الكتاب الجَماعي.‏

«بعدما عدنا الى وامبلان،‏ استمررت اكرز وأدير الاجتماعات وحدي.‏ ثم قبل يوم من عقد الذِّكرى سنة ١٩٨٦،‏ وصل الاخَوان المذكوران في البداية.‏ بسرعة قام فريقنا الصغير من تلاميذ الكتاب المقدس بإيصال الخبر الى جميع المهتمين في القرى المجاورة،‏ وحضر ٨٥ شخصا الذِّكرى الاولى التي عقدناها.‏

«اعتمدت في تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ من تلك السنة،‏ مع اول تلميذَين درست معهما الكتاب المقدس —‏ الزوجَين المتقدمين في السن اللذين ذكرتهما آنفا،‏ وكانا آنذاك في ثمانيناتهما.‏ واليوم،‏ تتألف جماعة وامبلان من ٧٤ ناشرا و ٣ فاتحين قانونيين.‏ ولديّ الامتياز ان اخدم كواحد من الشيوخ.‏ في سنة ٢٠٠١،‏ عقدنا الذِّكرى في ثلاث قرى اخرى بالاضافة الى وامبلان،‏ وكان مجموع عدد الحضور ٤٥٢ شخصا.‏»‏

‏[الجدول/‏الرسم البياني في الصفحتين ٨٠،‏ ٨١]‏

نيكاراڠوا —‏ الاحداث البارزة

١٩٢٥

١٩٣٤:‏ تزور البلد اخت فاتحة وتوزع مطبوعات.‏

١٩٣٧:‏ بدء نظام حكم سوموزا.‏

١٩٤٥:‏ وصول المتخرّجين الاوائل من جلعاد.‏

١٩٤٦:‏ ن.‏ ه‍.‏ نور و ف.‏ و.‏ فرانز يزوران ماناڠوا.‏ تأسيس الفرع.‏

١٩٥٠

١٩٥٢:‏ بتحريض من رجال الدين الكاثوليك،‏ يُفرَض الحظر.‏

١٩٥٣:‏ ترفع محكمة العدل العليا الحظر.‏

١٩٧٢:‏ يدمّر زلزال ماناڠوا.‏

١٩٧٤:‏ يُكمَل بناء مكتب فرع جديد وبيت للمرسَلين.‏

١٩٧٥

١٩٧٩:‏ ينتصر الثوار الساندينيون على نظام حكم سوموزا.‏ ويموت ٠٠٠‏,٥٠ شخص في الثورة.‏

١٩٨١:‏ تعليق الوضع الشرعي لشهود يهوه.‏

١٩٩٠:‏ يستعيد شهود يهوه الاعتراف الشرعي بهم.‏

١٩٩٤:‏ يُعيَّن مئة فاتح خصوصي وقتي.‏ يتبع ذلك حملات مماثلة.‏

١٩٩٨:‏ اعصار ميتش يضرب اميركا الوسطى بعنف،‏ قاتلا ٠٠٠‏,٤ شخص في نيكاراڠوا.‏

٢٠٠٠

٢٠٠٢:‏ ٦٧٦‏,١٦ ناشرا هم نشاطى في نيكاراڠوا.‏

‏[الرسم البياني]‏

‏(‏انظر المطبوعة)‏

مجموع عدد الناشرين

مجموع عدد الفاتحين

٠٠٠‏,٢٠

٠٠٠‏,١٥

٠٠٠‏,١٠

٠٠٠‏,٥

١٩٥٠ ١٩٧٥ ٢٠٠٠

‏[الخرائط في الصفحة ٧٣]‏

‏(‏اطلب النص في شكله المنسق في المطبوعة)‏

هندوراس

نيكاراڠوا

ماتاڠالپا

ليون

ماناڠوا

ماسايا

هينوتيپي

ڠرانادا

برزخ ريڤاس

جزيرة اوميتيپي

بحيرة نيكاراڠوا

نهر سان خوان

بلوفيلدز

كوستاريكا

‏[صورة تغطي كامل الصفحة ٦٦]‏

‏[الصورة في الصفحة ٧٠]‏

في الاعلى:‏ فرنسيس (‏الى اليسار)‏ ووليَم والاس وأختهما جاين

‏[الصورة في الصفحة ٧٠]‏

في الاسفل (‏الصف الخلفي،‏ من الاعلى الى الاسفل)‏:‏ ويلبرت جايزلمان،‏ هارولد دانكن،‏ وفرنسيس والاس؛‏ (‏الصف الامامي،‏ من الاعلى الى الاسفل)‏:‏ بلانش كايسي،‏ يوجين كول،‏ آن جايزلمان،‏ جاين والاس،‏ وإيڤلين دانكن

‏[الصورتان في الصفحة ٧١]‏

الى الاعلى:‏ أديلينا وأرنولدو كاسترو

الى اليسار:‏ دورا وإيباريستو سانشيس

‏[الصورة في الصفحة ٧٦]‏

دوريس نيهوف

‏[الصورة في الصفحة ٧٦]‏

سيدني وفيليس پورتر

‏[الصورة في الصفحة ٧٩]‏

أڠوستين سيكيرا كان اول ناشر في ماتاڠالپا

‏[الصورة في الصفحة ٨٢]‏

ماريّا إلسا

‏[الصورة في الصفحة ٨٢]‏

هيلبرتو سوليس وزوجته ماريّا سيسيليا

‏[الصورتان في الصفحة ٨٧]‏

زلزال ١٩٧٢ دمّر ماناڠوا

‏[الصورة في الصفحة ٩٠]‏

اندرو وميريام ريد

‏[الصورة في الصفحة ٩٠]‏

روبي وكيڤن بلوك

‏[الصورة في الصفحة ٩٢]‏

استُخدمت مزرعة لعقد محفل «ولاء الملكوت» الكوري

‏[الصورتان في الصفحة ٩٥]‏

المرسَلون الذين رُحّلوا من نيكاراڠوا في سنة ١٩٨٢

‏[الصورة في الصفحة ١٠٩]‏

الاخوة الذين طبعوا المطبوعات وقت الحظر،‏ مع آلات النسخ التي استعملوها:‏ الديك،‏ الدجاجة،‏ والصوص

‏[الصورة في الصفحة ١١٠]‏

أعدّت إلدا سانشيس اوراق الستانسِل بشجاعة

‏[الصورة في الصفحة ١١٥]‏

اعدّت هؤلاء الاخوات الطعام واهتممن بالحراسة فيما قام الاخوة بعمل الطباعة

‏[الصورة في الصفحة ١٢٦]‏

الصف الامامي:‏ بعض الاخوة الذين تعلموا الحق في السجن،‏ من اليسار الى اليمين:‏ ه‍.‏ لوپيس،‏ أ.‏ ميندوسا،‏ و أُ.‏ إسپينوسا؛‏ الصف الخلفي:‏ كارلوس أيالا وهوليو نونييس،‏ شيخان زارا السجن لمساعدة الاخوة روحيا

‏[الصورة في الصفحة ١٣٣]‏

بعد رفع القيود عن شهود يهوه،‏ استُخدِم هذا البيت كمكتب فرع

‏[الصورة في الصفحة ١٣٤]‏

بعد إعصار ميتش،‏ استخدم بعض المتطوعين دراجات لإيصال الطعام والحاجيات الاخرى.‏ وعمل آخرون في إعادة بناء قاعات الملكوت والبيوت

‏[الصورة في الصفحة ١٣٩]‏

مجتمع باناكروس في منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الشمالية،‏ حيث يُكرَز بالبشارة رغم الصعوبات

‏[الصورة في الصفحة ١٤٧]‏

حضر ٣٥٦‏,٢٨ شخصا محفل «كلمة اللّٰه النبوية» الكوري لسنة ١٩٩٩،‏ اول محفل على نطاق البلد يُعقد منذ سنة ١٩٧٨

‏[الصورة في الصفحة ١٤٧]‏

شاهد المندوبون معمودية ٧٨٤ شخصا —‏ اكبر معمودية في تاريخ نيكاراڠوا

‏[الصورة في الصفحة ١٤٨]‏

لجنة الفرع في اوائل سنة ٢٠٠٢،‏ من اليسار الى اليمين:‏ إيان هانتر،‏ أڠوستين سيكيرا،‏ لويس ڠونساليس،‏ ولوتار ميهانك