نيكاراڠوا
نيكاراڠوا
وُصفت نيكاراڠوا انها فردوس مداري. وهي كذلك بالفعل. فشواطئها الشرقية تمتد بمحاذاة مياه البحر الكاريبي الصافية الزرقاء الضاربة الى الخضرة. وأمواج المحيط الهادئ الواسع تندفع على شواطئها الغربية. أما اليابسة فتبدو للناظر اليها من فوق مزيجا من الغابات، المزارع، والانهار، الى جانب عدد كبير من البحيرات التي تترصع بها فوهات البراكين القديمة. الا ان هذه البحيرات تبدو كبِرَك زرقاء صغيرة عندما تُقارَن بالبحيرتين العظميَين — بحيرة نيكاراڠوا وبحيرة ماناڠوا. فبحيرة نيكاراڠوا وحدها، البالغة مساحتها ٢٠٠,٨ كيلومتر مربع، تغطي اكثر من ٦ في المئة من مساحة البلد بكامله!
تقع العاصمة، ماناڠوا، على الضفة الجنوبية لبحيرة ماناڠوا التي تبلغ مساحتها حوالي ٠٠٠,١ كيلومتر مربع. لذلك من الملائم تسميتها «ماناڠوا»، الاسم الذي يعني بإحدى اللغات المحلية «مكانا فيه مجتمع مياه». ماناڠوا هي مركز النشاط الحكومي والتجاري، ويبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة ويشكّلون ٢٠ في المئة من سكان البلد البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة. انها تقع في منطقة المنخفضات الضيقة المتاخمة للمحيط الهادئ، حيث يسكن حوالي ٦٠ في المئة من شعب نيكاراڠوا. وفي الهضاب الوسطى يعيش ٣٠ في المئة من السكان، والباقي — اقل بقليل من ١٠ في المئة —
يعيشون الى الشرق في منطقتين غير مكتظتين بالسكان تتمتعان بحكم ذاتي وتؤلفان نصف مساحة البلد.عند الحدود الجنوبية لنيكاراڠوا، يضيق هذا البرزخ الواقع في اميركا الوسطى، بحيث يصير البحر الكاريبي على بعد ٢٢٠ كيلومترا فقط من المحيط الهادئ. وبما ان نهر سان خوان يجري من بحيرة نيكاراڠوا ويصب في البحر الكاريبي، لا يبقى سوى برزخ ريڤاس الذي يبلغ عرضه ١٨ كيلومترا كفاصل بين البحيرة والمحيط الهادئ. قبل انشاء قناة پاناما، كان الطريق الملاحي الممتد من نهر سان خوان الى بحيرة نيكاراڠوا طريقا غالبا ما يستخدمه المسافرون، الامر الذي جعل كثيرين يطمعون جدا بهذه المنطقة. وفي الواقع، يكشف التاريخ انها وقعت تحت سيطرة شعوب كثيرة، منها المايا، الازتكيون، التولتك، والتشيبتشا، الى جانب القوى الاجنبية — اسپانيا، فرنسا، بريطانيا العظمى، هولندا، الولايات المتحدة، والاتحاد السوڤياتي.
ويُرى بوضوح تأثير القبائل والقوميات المختلفة في مجتمع نيكاراڠوا المتعدد اللغات والحضارات. وفي حين ان سكان المنطقة المتاخمة للمحيط الهادئ هم بشكل رئيسي من الهجناء الناطقين بالاسپانية المتحدرين من الشعب الاسپاني والشعب الاصلي، فإن سكان منطقة البحر الكاريبي يضمّون عدة عروق. فالموسكيتو، الكرييوليون، والهجناء موجودون بأعداد كبيرة الى جانب جماعات اصغر تضم السومو، الراما، والڠاريفونا — وهو فريق افريقي-كاريبي. ورغم ان الكثير من هذه المجتمعات احتفظت بلغتها وحضارتها التقليدية، فالشعب متواضع ومنفتح وودّي. كما انه متديّن جدا، وكثيرون منه يحبون الكتاب المقدس.
كما سنرى في هذا التقرير، ساهمت الكوارث الطبيعية والمشاكل التي سبَّبها الانسان في صوغ شخصية شعب نيكاراڠوا. على سبيل المثال، دُمّرت ماناڠوا مرتين في القرن الماضي، اذ ضربتها الزلازل التي نشأت في جانب البرزخ المتاخم للمحيط الهادئ. وعانت نيكاراڠوا الشرقية نوعا آخر من الكوارث الطبيعية — اعاصير مدارية مدمّرة مصدرها
المحيط الاطلسي. وما زاد الطين بلة هو الويلات الاضافية التي سببتها الحرب الاهلية، الانتفاضات السياسية، والحكومات الدكتاتورية القاسية.رغم ذلك، دخلت مياه حق الكتاب المقدس النقية الى هذا البلد الجميل، بلد البحيرات والانهار، جالبة التعزية والرجاء لآلاف الاشخاص المستقيمي القلوب. (كشف ٢٢:١٧) وفيض التدابير الروحية المتدفق في نيكاراڠوا اليوم يشهد لبركة يهوه الغنية على عمل البشارة بالملكوت في هذا البلد، وخصوصا اذا اخذنا بعين الاعتبار انه قبل ستة عقود فقط، كانت البشارة محدودة النطاق.
في البداية، البشارة محدودة
في ٢٨ حزيران (يونيو) ١٩٤٥، وصل الى ماناڠوا فرنسيس ووليَم والاس، اخَوان في الجسد ومتخرّجان من الصف الاول لمدرسة جلعاد برج المراقبة للكتاب المقدس. وقد بدأا عمل الكرازة بالبشارة المنظّم في نيكاراڠوا وهيّأا الطريق امام الأجيال اللاحقة من المرسَلين. ولكنهما لم يكونا اول مَن ادخل رسالة الملكوت الى هذا البلد. ففي سنة ١٩٣٤، زارت اخت فاتحة البلد ووزّعت مطبوعات في ماناڠوا وانحاء اخرى. ومع ذلك، في سنة ١٩٤٥ كان قليلون جدا قد سمعوا عن شهود يهوه.
عندما بدأ الاخَوان والاس بالكرازة، استخدما فونوڠرافا قابلا للحمل واسطوانات مؤسسة على الكتاب المقدس — امر جديد وغريب جدا في تلك الايام في نيكاراڠوا! لذلك، خلال الشهر الاول، استمع ٧٠٥ اشخاص الى رسالة الملكوت.
في تشرين الاول (اكتوبر) من السنة عينها، وصل اربعة مرسَلين اضافيين — الزوجان هارولد وإيڤلين دانكن، والزوجان ويلبرت وآن جايزلمان. وإذ كانوا توّاقين الى اعلان الملكوت بكل طريقة ممكنة، خططوا لعقد سلسلة من الاجتماعات العامة. وهكذا، في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٤٥، وُزِّعت في الشوارع على مواطني نيكاراڠوا اوراق دعوة لحضور محاضرة في الكتاب المقدس. ورغم ان البرنامج كاد يُوقَف نتيجة اضطراب
سياسي ونزاع في احد الشوارع القريبة، فقد عُقد الاجتماع بسلام. وكان اكثر من ٤٠ شخصا حاضرين للاستماع الى هذا الخطاب العام الاول. كما ابتُدئ في تلك الفترة بعقد درس برج المراقبة واجتماع الخدمة اسبوعيا في بيت المرسَلين.كانت سنة ١٩٤٦ وقتا مبهجا للمرسَلين ولأول من قبلوا رسالة الكتاب المقدس. وكان احد هؤلاء الاوائل ارنولدو كاسترو البالغ ٢٤ سنة من العمر. يتذكر بابتسامة كيف تعرّف بحق الكتاب المقدس، ويقول: «قررت انا ورفيقاي في الغرفة، إيباريستو سانشيس ولورنسو أوبريڠون، ان نتعلم الانكليزية معا. وذات يوم عاد إيباريستو من السوق حاملا كتابا بيده وملوّحا به. قال: ‹وجدت شخصا اميركيا سيعلّمنا الانكليزية!›. طبعا، لم
تكن هذه نية ‹الاستاذ›، ولكنّ هذا ما فهمه إيباريستو. وهكذا عندما حانت الساعة المعيّنة، كنا نحن الشبان الثلاثة ننتظر بسعادة درسا باللغة الانكليزية. وقد دُهش ‹الاستاذ›، المرسَل ويلبرت جايزلمان، عندما وجد ان ‹تلاميذ للكتاب المقدس› توّاقين كهؤلاء ينتظرونه، والكتاب بيدهم».يوضح ارنولدو: «كان عنوان الكتاب ‹الحق يحرركم›، وقد درسنا فيه مرتين في الاسبوع. وفي النهاية، لم نتعلم الكثير من اللغة الانكليزية، ولكننا تعلمنا حق الكتاب المقدس». اعتمد ارنولدو في آب (اغسطس) ١٩٤٦ في محفل في كليڤلنْد، أوهايو، الولايات المتحدة الاميركية، ثم عاد الى نيكاراڠوا للبدء بخدمة الفتح. وفي نهاية تلك السنة، اعتمد ايضا رفيقاه في الغرفة.
يبلغ إيباريستو سانشيس الآن ٨٣ سنة من العمر. وهو يتذكر بفرح تلك السنوات الباكرة، قائلا: «في البداية، لم يكن لدينا مكان نجتمع فيه. ولكن بسبب عددنا القليل، تمكّنا من الاجتماع حيث يسكن المرسَلون. لاحقا، استأجرنا بيتا مؤلفا من طابقين، وصار يجتمع هناك قانونيا ٣٠ الى ٤٠ شخصا».
كان هؤلاء الشبان الثلاثة اول مواطنين من نيكاراڠوا يرافقون المرسَلين
في الخدمة. وقد خدموا اولا في ماناڠوا، ثم في المناطق النائية. آنذاك، كانت ماناڠوا، بسكانها الـ ٠٠٠,١٢٠ تقريبا، اصغر مما هي الآن. وكانت المنطقة المعبّدة الوحيدة تشمل ١٢ حيّا في وسط المدينة. يتذكر إيباريستو: «كنا نتنقل سيرا على الاقدام. فلم يكن هنالك باصات او طرق معبّدة. ولم يكن هنالك سوى سكك للقطارات ودروب للعربات التي تجرها الثيران. فكنا نسير في الغبار او في الوحل، وفقا للفصل اذا كان جافا او ممطرا». ولكن جهودهم كوفئت عندما حضر الذِّكرى ٥٢ شخصا في نيسان (ابريل) ١٩٤٦.تأسيس فرع
في ذلك الشهر نفسه، قام ناثان ه. نور وفردريك و. فرانز، من المركز الرئيسي في بروكلين، بزيارة نيكاراڠوا للمرة الاولى. وخلال الزيارة التي دامت اربعة ايام، سمع ١٥٨ شخصا المحاضرة العامة التي ألقاها الاخ نور بعنوان «تهلَّلوا ايها الامم». وقد ترجم الاخ فرانز الخطاب بالاسپانية. وقبل ان يغادرا، رتّب الاخ نور لتأسيس مكتب فرع لشهود يهوه في نيكاراڠوا للإشراف على العمل. وعُيّن وليَم يوجين كول، البالغ من عمره ٢٦ سنة والمنتقل حديثا من كوستاريكا، خادما للفرع.
على مر العقود التالية، اسس مكتب الفرع بيوتا للمرسَلين في اماكن مثل هينوتيپي، ماسايا، ليون، بلوفيلدز، ڠرانادا، وماتاڠالپا. وصُنعت الترتيبات ايضا ان يزور ناظر الدائرة الجماعات والفرق المشكّلة حديثا ليقوّي ويشجّع الاخوة.
نجاح المقاومين القصير الامد
بسرعة اثمرت غيرة الاخوة، الامر الذي ازعج رجال دين العالم المسيحي. فظهرت اول علامات المقاومة في مدينة بلوفيلدز على الشاطئ الكاريبي، حيث كان مرسَلان معيّنَين هناك. وتصعّدت الامور
في ١٧ تشرين الاول (اكتوبر) سنة ١٩٥٢، عندما صدر حكم بحق شهود يهوه يقضى بحظر كل نشاط لهم. ورغم ان مسؤولا في وزارة الهجرة وقّع هذا الحكم، فقد كان رجال الدين الكاثوليك هم الذين حرَّضوا على صدوره.أُعلم المرسَلون في بلوفيلدز، ليون، هينوتيپي، وماناڠوا بالحكم الصادر. فرُفعت الاستئنافات الى السلطات المختصة — بمن فيها الرئيس آنذاك، اناستازيو سوموزا ڠارسيا — ولكنها باءت بالفشل. فابتدأ الاخوة يجتمعون في فرق صغرى، وتوقف توزيع المجلات في الشوارع، ونُقلت المطبوعات المخزنة في الفرع الى اماكن آمنة. وتمكن اعداؤنا الدينيون من حظر العمل بادّعائهم كذبا ان شهود يهوه شيوعيون. فوُكِّل محامٍ لاستئناف القرار الى محكمة العدل العليا.
على الرغم من ان بعض الاخوة استسلموا لخوف الانسان، بقي الاغلبية ثابتين. وكان المرسَلون الناضجون روحيا والشجعان دعما قويا للاخوة المحليين، الذين استمروا في الكرازة والاجتماع معا اطاعة لكلمة اللّٰه. (اعمال ١:٨؛ ٥:٢٩؛ عبرانيين ١٠:٢٤، ٢٥) ثم في ٩ حزيران (يونيو) سنة ١٩٥٣ — بعد ان دام الحظر ثمانية اشهر فقط — اعلنت المحكمة العليا قرارها الاجماعي لصالح شهود يهوه، مؤكدة الحق الدستوري لحرية العبادة وحرية الكلام. ففشلت المؤامرة من كل النواحي.
التحديات التي واجهها المرسَلون الاولون
لم تكن المقاومة من رجال الدين التحدي الوحيد الذي واجهه المرسَلون الاولون. لنتأمل في ما حدث مع سيدني وفيليس پورتر، المتخرّجَين من الصف الـ ١٢ لمدرسة جلعاد. عندما وصلا الى نيكاراڠوا في تموز (يوليو) ١٩٤٩، عُيّن سيدني ليخدم كناظر دائرة، وكانت دائرته تشمل كل البلد. يصف سيدني كيف كان العمل الجائل
آنذاك، قائلا: «استخدمنا القطارات والباصات من اجل التنقل. في اغلب الاحيان لم يكن هنالك اخوة لنمكث عندهم. لذلك كنا نحمل معنا شراشفنا وموقدا صغيرا لتسخين الماء والطبخ. في مرات عديدة، كنا نغيب عن الفرع عشرة اسابيع متتالية. الا ان المقاطعة كانت مثمرة جدا، مما صعَّب علينا ملاحقة الاهتمام في بعض المناطق. على سبيل المثال، عندما خدمنا في وقت لاحق دائرة ماناڠوا، كان لدى فيليس ١٦ درسا في الكتاب المقدس! وكيف تمكنت من تخصيص الوقت؟ لقد عقدت دروسها في ايام فرصتنا وفي الامسيات التي لم تُعقد فيها اجتماعات الجماعة». فكم كان اولئك المرسَلون الاولون متفانين في خدمتهم!دوريس نيهوف، التي وصلت في سنة ١٩٥٧، تخبر عن انطباعها الاول: «وصلت في نهاية شهر آذار (مارس)، الفصل الجاف، لذلك كان
كل شيء في الريف بني اللون. كانت السيارات قليلة جدا آنذاك، والجميع يركبون الاحصنة — ويحملون المسدسات! فشعرت كأنني موجودة في مكان تصوير احد افلام الغرب الاميركي. في تلك الايام، كان معظم الناس إما اغنياء او فقراء، ولكن اغلبيتهم كانوا فقراء. وما زاد الطين بلة هو ان نيكاراڠوا كانت في حالة حرب مع هندوراس بسبب نزاع على الارض، وأنه قبل ستة اشهر من وصولي، اغتيل الرئيس سوموزا ڠارسيا وصار البلد خاضعا للأحكام العرفية».تتابع دوريس: «عُيّنت في مدينة ليون حيث توجد جامعة. وبما انني لم أكن افهم الاسپانية جيدا، فقد كان التلاميذ هناك يحبون ان يخدعوني. على سبيل المثال، عندما عرضت ان اعود لأتحدث الى بعض التلاميذ عن الكتاب المقدس، قبلوا ولكنهم ضحكوا عندما قالوا لي ‹اسماءهم›. فقد عرّف احدهم بنفسه باسم الشخص الذي اغتال الرئيس، وعرّف آخر بنفسه باسم محارب ذائع الصيت في حرب العصابات! وما يدعو الى العجب انني لم أُلقَ في السجن عندما عدت وسألت عن هذين التلميذين!».
مواجهة مع اسقف ماتاڠالپا
على بُعد حوالي ١٣٠ كيلومترا شمالي ماناڠوا، تتوارى مدينة ماتاڠالپا في تلال منطقة يُزرع فيها البن. وقد عُيّن هناك في سنة ١٩٥٧ اربعة مرسَلين. كان أڠوستين سيكيرا آنذاك پروفسورا في الرياضيات في كلية تديرها الراهبات اليوسفيات. وهو يتذكر الجو الديني في ماتاڠالپا في ذلك الوقت، قائلا: «كان غالبية الناس يعتنقون الكاثوليكية، ويخافون من الكهنة وخصوصا من الاسقف. وكان الاسقف عرّاب احد اولادي».
وهذا الخوف المهيمن صعّب على الفرع ايجاد مسكن للمرسَلين. على سبيل المثال، عند الترتيب لاستئجار بيت، اعلم مكتب الفرع
صاحبَ المُلك، وهو محامٍ، ان المرسَلين سيعقدون اجتماعات مسيحية هناك. فقال: «لا توجد اية مشكلة».تقول دوريس نيهوف، واصفة ما حدث بعد ذلك: «يوم وصلنا مع كل اثاثنا، اتى صاحب المُلك وعلى وجهه علامات القلق. وقال انه ارسل لنا برقية ينصحنا فيها الّا نأتي. لماذا؟ لأن الاسقف هدّده بعدم قبول ابنه في المدرسة الكاثوليكية اذا اجّرَنا البيت. لحسن التوفيق، لم نتلقَّ البرقية وكنا قد دفعنا ايجار شهر».
تتابع دوريس: «وجدنا بيتا آخر في ذلك الشهر، ولكن بصعوبة كبيرة. وقد حاول الاسقف ان يضغط على رجل الاعمال الجريء الذي يملك البيت. لكنه اجابه: ‹اذا دفعت لي الاربع مئة كوردوبة كل شهر، فإنني اطردهم›. بالطبع، لم يدفع الاسقف. إلا انه لم ينثنِ عن عزمه، بل ذهب الى كل المتاجر وعلّق ملصقات، محذّرا الناس من التحدث الى شهود يهوه. كما انه امر اصحاب الدكاكين الّا يبيعونا بضائعهم».
على الرغم من غيرة المرسَلين، لم يبدُ ان احدا في ماتاڠالپا توّاق الى اعتناق حق الكتاب المقدس. ولكنّ أڠوستين، پروفسور الرياضيات، كانت لديه عدة اسئلة دون اجابة. على سبيل المثال، تساءل كيف يُعقل ان تبقى الاهرام في حين ان الفراعنة الذين بنوها ماتوا من زمن بعيد! ولا يزال يتذكر بوضوح ان مرسَلا زاره وأظهر له من الكتاب المقدس الاجوبة عن اسئلته. يوضح أڠوستين: «أسرَتني الآيات التي تظهر ان الانسان لم يُخلق ليموت، بل ليعيش الى الابد على ارض فردوسية وأن الاموات سيُقامون. فأدركت بسرعة ان هذا هو الحق». وكيف تجاوب أڠوستين؟ يقول: «بدأت اكرز لكل شخص في الكلية حيث كنت اعلّم، حتى للمديرة التي كانت راهبة. فدعتني ان ازورها يوم الاحد لنناقش موضوع ‹نهاية العالم›. لدى وصولي، فوجئت برؤية اسقف ماتاڠالپا ينتظرني».
قال: «هكذا اذًا يا صديقي، لقد أخبروني انك تفقد ايمانك».
اجبت: «اي ايمان؟ الايمان الذي لم يكن لديّ قط؟ لقد بدأت الآن اتعلّم كيف يكون لدي ايمان حقيقي».
وهكذا بدأت مناقشة دامت ثلاث ساعات، وكانت الراهبة تصغي. وغيرة أڠوستين لإيمانه الذي وجده حديثا دفعته ان يكون صريحا جدا احيانا. حتى انه دعا المعتقد غير المسيحي لخلود النفس البشرية مخططا لجمع المال يستغل الناس الابرياء. ولإيضاح النقطة للاسقف، قال أڠوستين: «تخيّل، على سبيل المثال، ان امي ماتت. بالطبع، سأذهب اليك لتقيم قداسا لأن نفسها في المطهر. فتطلب مني مالا من اجل القداس. وبعد ثمانية ايام، يُقام قداس آخر. وبعد سنة، قداس آخر، وهكذا دواليك. ولكنك، لا تقول لي ابدا: ‹يا صديقي، لن أُقيم قداديس اخرى بعد الآن لأن نفس امك لم تعد في المطهر›».
فقال الاسقف: «ذلك لأن اللّٰه وحده يعلم متى تخرج نفسها من المطهر!».
اجاب أڠوستين: «اذًا، كيف علمت متى دخلت نفسها الى المطهر لتبدأ بطلب المال مني؟».
خلال المناقشة، عندما بدأ أڠوستين يقتبس من الكتاب المقدس، قالت الراهبة للاسقف: «انظر، مونسينيور! انه يستعمل كتابا مقدسا غير مقبول؛ انه كتاب لوثري!».
فأجاب الاسقف: «لا، انه الكتاب المقدس الذي اعطيته اياه».
اذ استمرت المناقشة، فوجئ أڠوستين بسماع الاسقف يقول ان المرء لا يجب ان يؤمن بكل شيء في الكتاب المقدس. يقول أڠوستين: «بعد ذلك الاجتماع، اقتنعت ان رجال دين العالم المسيحي، مثل القادة الدينيين في ايام يسوع، يفضّلون تقاليد الكنيسة على كلمة اللّٰه».
وفي شباط (فبراير) سنة ١٩٦٢، صار أڠوستين سيكيرا اول ناشر معتمد في ماتاڠالپا. وقد استمر يحرز تقدما روحيا، وخدم لاحقا كفاتح وشيخ. ومنذ سنة ١٩٩١، يخدم كعضو في لجنة الفرع في نيكاراڠوا. وفي سنة الخدمة ٢٠٠٢، كانت هنالك في ماتاڠالپا جماعتان نشيطتان يبلغ مجموع ناشري الملكوت فيهما ١٥٣.
فاتحون خصوصيون لا يكلّون
اندفع كثيرون من الذين قبلوا بشارة ملكوت اللّٰه الى توسيع خدمتهم بالاشتراك في عمل الفتح. وكان من بين هؤلاء: هيلبرتو سوليس؛ زوجته
ماريّا سيسيليا؛ وأخته الصغيرة ماريّا إلسا. اعتمد هؤلاء الثلاثة في سنة ١٩٦١، وبعد اربع سنوات صاروا فاتحين خصوصيين وشكّلوا فريقا فعّالا جدا. وقد ساهم هذا الثلاثي في تشكيل او تقوية تسع جماعات في شتى انحاء البلد. وكان أحد تعييناتهم في جزيرة اوميتيپي في بحيرة نيكاراڠوا.تبلغ مساحة جزيرة اوميتيپي ٢٧٦ كيلومترا مربعا. وتتكوّن هذه الجزيرة من بركانين، ارتفاع احدهما ٦٠٠,١ متر. وهما يعطيانها الشكل 8 عندما يُنظر اليها من فوق. في اوميتيپي، كان الفاتحون الثلاثة يبدأون خدمتهم عند الفجر. فكانوا يستقلون باصا الى آخِر خط سيره ثم يتابعون سيرا على الاقدام — غالبا وهم حفاة — على طول الشاطئ الرملي الى القرى المتعددة في الجزيرة. وعلى مدى حوالي ١٨ شهرا، نظّموا عددا من فرق تلاميذ الكتاب المقدس المنعزلة في كل انحاء اوميتيپي، وكان اكبر فريق في قرية لوس آتييوس.
في السابق، كانت زراعة التبغ مصدرا رئيسيا لدخْل كثيرين من الناشرين الجدد في لوس آتييوس. ولكنّ ضمائرهم المدرّبة على الكتاب المقدس لم تعد تسمح لهم بأن يقوموا بهذا العمل. فاتّكل الاغلبية على صيد السمك، مع ان ذلك عنى دخْلا اقل. ويا لَلفرح الذي حصدته عائلة سوليس عند رؤية مثل هذا الايمان، فضلا عن الادلة العديدة الاخرى على بركة يهوه الوافرة على خدمتهم! فسرعان ما ازداد عدد الناشرين في المنطقة الى ٣٢، ونشأت حاجة الى قاعة ملكوت. كان احد الناشرين الجدد، ألفونسو ألمان، يعمل في زراعة البطيخ. وقد كان لطفا منه ان يتبرع بقطعة ارض من اجل بناء القاعة. ولكن كيف كان الناشرون في لوس آتييوس سيحصلون على المال للبناء؟
رتّب هيلبرتو سوليس ان يقوم متطوعون بزراعة بذار البطيخ التي زوّدها الاخ ألمان في قطعة الارض التي تبرع بها. وشجّع هيلبرتو الفريق على الاعتناء بالبطيخ كأنهم يعملون ليهوه، راسما لهم المثال بالعمل بكدّ. تصف
ماريّا إلسا، امرأة صغيرة القد ولكن نشيطة، كيف اعتنى الفريق الصغير من الناشرين بالبطيخ المزروع. تقول: «كنا نستيقظ باكرا، والظلام مخيّم بعد، لري الحقل. وقد حصلنا على غلة وافرة ثلاث مرات. فاستخدم الاخ ألمان مركبه ونقل البطيخ عبر بحيرة نيكاراڠوا الى ڠرانادا، حيث باعه واشترى مواد للبناء. وهكذا بُنيت قاعة الملكوت في لوس آتييوس. لذلك يدعوها اخي القاعة الصغيرة من البطيخ». من تلك البدايات البسيطة، صارت الآن في جزيرة اوميتيپي ثلاث جماعات مزدهرة.اعرب هيلبرتو وزوجته وأخته عن التواضع، الموقف الايجابي، والاتكال التام على يهوه. وقد مسّت هذه الصفات قلوب كثيرين. كان هيلبرتو يقول غالبا: «يجب ان ننظر دائما الى الجدد على انهم عجول صغيرة. فهم رائعون ولكن ضعفاء. لذلك لا يجب ان ننزعج ابدا من ضعفاتهم، بل يجب ان نساعدهم ليصيروا اقوياء». لا شك ان هذا الموقف الحبي كان احد الامور التي مكّنت هؤلاء الفاتحين المثاليين الثلاثة من مساعدة ٢٦٥ شخصا لينتذروا ويعتمدوا! لقد ماتت زوجة هيلبرتو كشاهدة امينة. وصحة هيلبرتو، الذي يبلغ من العمر الآن ٨٣ سنة، تتدهور كثيرا. الا ان رغبته في خدمة يهوه لا تزال قوية كما كانت. اما بالنسبة الى ماريّا إلسا، فعندما سُئلت مؤخرا عن شعورها بعد ٣٦ سنة في خدمة الفتح الخصوصي، اجابت: «مثلما شعرت عندما باشرت بالخدمة! انني سعيدة وأشكر يهوه على الدوام على جلبنا الى هيئته المقدسة وإعطائنا مكانا صغيرا في هذا الفردوس الروحي الرائع». وعلى مر السنين رأى فاتحون نشيطون عديدون، مثل عائلة سوليس، ثمارا كثيرة للملكوت في نيكاراڠوا، وذلك بفضل بركة يهوه السخية.
زلزال ماناڠوا سنة ١٩٧٢
بُعيد منتصف ليل ٢٣ كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٩٧٢، هزّ ماناڠوا زلزال عنيف بلغت شدته ٢٥,٦ على مقياس ريختر، ما يعادل
طاقة حوالي ٥٠ قنبلة ذرية. كان مكتب الفرع يقع في الجانب الشرقي لماناڠوا، على بُعد ١٨ حيّا من المركز السطحي للزلزال. يقول ليڤي إلوود ويذرسپون، ناظر الفرع آنذاك: «كان جميع المرسَلين نائمين. وعندما توقف الاهتزاز، اسرعنا خارجا الى وسط الشارع. ثم ضربت هزتان اخريان الواحدة تلو الاخرى. فانهارت البيوت حولنا. وغلّفت المدينة سحابة كثيفة من الغبار، وأشار الوهج الاحمر المنبعث من وسط المدينة الى وجود نيران مشتعلة».كان المركز السطحي للزلزال مباشرة تحت المنطقة التجارية، وفي مجرد ٣٠ ثانية صارت ماناڠوا غير صالحة للسكن. حاول الناجون شق طريقهم بين الغبار والركام، باذلين جهدهم ليتنفسوا. ولكنّ كثيرين لم ينجحوا. وعلى الرغم من ان بعض التقديرات تذكر ان عدد الضحايا تجاوز الـ ٠٠٠,١٢ شخص، فإن الرقم الصحيح غير معروف. وقد دُمِّر حوالي ٧٥ في المئة من بيوت ماناڠوا، مما خلَّف حوالي ٠٠٠,٢٥٠ شخص مشرد. وفي الايام الثلاثة التي تلت الزلزال، كان يهرب كل يوم من المدينة حوالي ٠٠٠,١٠٠ شخص.
المحبة المسيحية تدفع الى تقديم العون
بحلول ظهر اليوم نفسه الذي ضرب فيه الزلزال، تلقى مكتب الفرع تقريرا كاملا من نظار الجماعات في ماناڠوا. فقد تحرّك هؤلاء الاخوة الامناء معا بسرعة وذهبوا لرؤية كل عضو في الجماعة لمعرفة حاجاته. ومن الجيد انه لم تكن هنالك وفيات بين الشهود الاكثر من ٠٠٠,١ في المدينة، ولكن اكثر من ٨٠ في المئة خسروا بيوتهم.
كما دفعت المحبة المسيحية شعب يهوه في البلدان المجاورة ان يهبّوا الى مساعدة اخوتهم بسرعة. فبعد الزلزال بأقل من ٢٢ ساعة، وصلت الى الفرع شاحنات محمّلة طعاما، ماء، دواء، وثيابا. وفي الواقع،
كان الفرع من اوائل المراكز التي قدمت مؤن اغاثة. وقد تدفق المتطوعون من شتى الجماعات في نيكاراڠوا، وسرعان ما صار الجميع مشغولين بتوضيب الطعام وفرز الثياب قبل إرسالها. حتى ان مؤن الاغاثة بدأت تصل من الشهود في اقصى انحاء العالم.بعد يوم من الزلزال، التقى ناظر الفرع بممثّلين زائرين من فروع السلڤادور، كوستاريكا، وهندوراس لتنظيم المزيد من الاعانات. وفتح الشهود العائشون خارج ماناڠوا بيوتهم بمحبة للاخوة الذي اضطروا الى مغادرة العاصمة. أما الشهود الذين بقوا في العاصمة فنُظِّموا في فرق من اجل الاجتماعات المسيحية وخدمة الحقل. وقد زار ناظر الدائرة هذه الفرق لتشجيعهم ولإيصال مؤن الاغاثة اليهم.
بسبب الزلزال، تدهور الوضع الاقتصادي في البلد كله. ولكن مع ان الحياة صارت اصعب، فقد استمر عمل اعادة بناء قاعات الملكوت وبيوت الاخوة. بالاضافة الى ذلك، نمت الجماعات بوجود كثيرين من المهتمين حديثا. وكان من الواضح ان يهوه سُرَّ بشعبه لأنهم استمروا في وضع مصالح الملكوت اولا في حياتهم. — متى ٦:٣٣.
ذكر الكتاب السنوي لعام ١٩٧٥ (بالانكليزية): «لا تزال اغلبية الجماعات الـ ١٤ في منطقة ماناڠوا تجتمع في ابنية متصدعة الجدران او في باحة مسقوفة بصفائح معدنية. وعلى نحو مثير للاهتمام، تضاعف عدد الحضور في تلك الاجتماعات مقارنة بالسنة الماضية. وازداد معدل الناشرين عن السنة الماضية بنسبة ٢٠ في المئة. والآن يوجد ٦٨٩,٢ ناشرا يوصلون الحق الى الآخرين، وقد اعتمد ٤١٧».
بسبب هذا النمو المستمر لم يعد الفرع القديم ملائما. لذلك يمكننا تخيل فرحة الناشرين عندما أُكمل مكتب فرع جديد وبيت للمرسَلين في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٩٧٤ — بعد الزلزال الكبير
بسنتين فقط! وكان الفرع الجديد يقع في شارع هادئ يُدعى إل رايسون، على بعد ١٦ كيلومترا جنوبي وسط مدينة ماناڠوا.مثال المرسَلين في المحبة والوحدة
من حين وصول الاخوَين والاس في سنة ١٩٤٥، اثبت المرسَلون في نيكاراڠوا انهم امثلة في الايمان، الاحتمال، ومحبة الناس. وقد ساهمت هذه الصفات الرائعة في جعل المرسَلين قريبين اكثر واحدهم الى الآخر وإلى الاخوة المحليين. يقول المرسَل كينيث براين: «بعد زلزال ماناڠوا، قدَّمنا المساعدة في الفرع، ساعدنا الاخوة في الخروج من بيوتهم المتضررة، وعاونّاهم على دفن اقربائهم الموتى. ان العمل
معا في هذه الظروف يقرّبنا كثيرا واحدنا من الآخر». وتعلّق مارڠريت مور (فوستر سابقا)، في كلامها عن رفقائها المرسَلين: «مع اننا من شتى القوميات والخلفيات ولدينا شخصيات مختلفة، فقد ساعدنا الجو العائلي الموحّد ان نكون سعداء في تعييننا، رغم نقائصنا الشخصية».وبالنسبة الى المرسَلَين كينيث وشاران براين، فهما يعتبرانه امتيازا خصوصيا ان يستفيدا من امثلة المرسَلين ذوي الخبرة، مثل فرنسيس وآنجيلين والاس، سيدني وفيليس پورتر، وإميلي هاردين. تتذكر شاران: «عمل الجميع بكدّ، وكان واضحا انهم يحبون ما يقومون به».
على مر السنين، خدم ايضا عدة ازواج مرسَلين في العمل الجائل. وفي الواقع، ساهم الاساس المتين الذي وضعه المرسَلون الغيورون في النمو الروحي الرائع الذي شوهد في نيكاراڠوا على مر العقود الثلاثة الاولى من العمل هناك. الا ان ذلك البناء الروحي كان على وشك ان يُمتَحن، ليس بزلزال آخر، بل بشيء يدوم اطول ويشكّل خطرا روحيا — روح القومية والثورة. — ١ كورنثوس ٣:١٢، ١٣.
المشاعر القوية المؤيدة للثورة السياسية تشكِّل امتحانا
في اواخر سبعينات الـ ١٩٠٠، بدأت الثورة السياسية بقيادة جبهة التحرير الوطني الساندينيّة تكتسح نيكاراڠوا. وقد ادّت الثورة الى قلب الحكم العسكري/السياسي الذي خضعت له البلد ٤٢ سنة تحت سلطة السلالة الحاكمة. روبي بلوك، التي بقيت مرسَلة في نيكاراڠوا طوال ١٥ سنة، تقول عن تلك الفترة: «تلك السنوات التي تزايدت فيها الدعاية السياسية جعلت الجميع متوترين. وكانت المواجهات العنيفة بين الجيش والثوار الساندينيين متكررة. ولإتمام خدمتنا، كان علينا ان نتكل كاملا على يهوه».
رغم حياد المسيحيين في الشؤون السياسية، غالبا ما اتَّهم مؤيدو الثوار الساندينيين شهود يهوه بأنهم عملاء إما لحكم سوموزا او لوكالة المخابرات المركزية الاميركية (CIA). وأُثيرت ايضا مشاعر عداء قوية تجاه الاجانب. على سبيل المثال، فيما كانت المرسَلة إيلفريده أوربان في الخدمة، اتّهمها رجل انها جاسوسة. فقالت له: «كيف ذلك؟ انا لا احمل كاميرا او آلة تسجيل. وعلاوة على ذلك، على مَن او على ماذا سأتجسس في هذا الحي؟!».
فأجاب: «انت مدرّبة جيدا بحيث ان عينَيك هما الكاميرا وأذنَيك ودماغك آلة التسجيل».
في تلك الايام كان يُردَّد في شوارع ماناڠوا الشعار الشعبي: «بين المسيحية والثورة، لا يوجد اي تناقض!». وهذا التفكير، الذي اكتسب شعبية كبيرة في اميركا اللاتينية خلال سبعينات الـ ١٩٠٠، عكس معتقد لاهوت التحرير، وهي فكرة عززتها حركة ماركسية داخل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وتقول دائرة المعارف البريطانية ان هدف لاهوت التحرير هو مساعدة «الفقراء والمظلومين من خلال التورط [الديني] في السياسة والشؤون المدنية».
تتذكر روبي بلوك: «كان الناس في اغلب الاحيان يطرحون علينا السؤال التالي: ‹ما رأيكم في الثورة؟›. فكنا نفسر لهم ان الحل الوحيد لمشاكل الجنس البشري هو ملكوت اللّٰه». وكان تحدّيا كبيرا ان يبقى المرء وليا ليهوه في ذلك الوضع السياسي المتأزم. تضيف روبي: «كنت اصلّي دائما الى يهوه ان يمنحني القوة لأبقى حيادية، ليس فقط في كلامي بل ايضا في فكري وقلبي».
بعد اشهر من الثورات العنيفة، شنّت جبهة التحرير الوطني الساندينيّة في ايار (مايو) ١٩٧٩ هجوما شاملا للإطاحة بالحكومة. وأُجبر الرئيس سوموزا دي بايلي على الهرب من البلد، وحُلّت وحدات
حرسه الوطني. وفي شهر تموز (يوليو) من تلك السنة، تولّى الحكم مجلس الثورة الجديد في «الحكومة القومية لإعادة الإعمار». ويُقدَّر ان ٠٠٠,٥٠ مواطن قُتلوا اثناء الثورة.وكيف كانت حالة الاخوان؟ ظهر الاعلان التالي في خدمتنا للملكوت عدد تشرين الاول (اكتوبر) سنة ١٩٧٩: «حالة الاخوة النفسية جيدة وهم يستأنفون اجتماعاتهم وعملهم الكرازي والتعليمي. خلال فترة العنف كلها، . . . خسر ثلاثة من اخوتنا حياتهم. وكثيرون صاروا مشرّدين. ولكن بما ان الاغلبية يسكنون في بيوت مستأجرة، كانت الخسارة الرئيسية سرقة ممتلكاتهم وتدميرها. اما بالنسبة الى وسائل النقل، فهي قليلة جدا. لقد دُمّرت معظم الباصات، والبنزين غير متوافر. اما الطرق فيجري الآن العمل على إصلاحها». لكنَّ شعب يهوه كانوا سيواجهون تجارب اعظم.
توقيف وترحيل
سرعان ما اتَّضح ان الحكومة الجديدة لم تكن موافقة على موقف شهود يهوه الحيادي. على سبيل المثال، صعّبت دائرة
الجمارك استيراد المطبوعات. بالاضافة الى ذلك، سُنّ قانون في سنة ١٩٨١ فرض على كل الجمعيات المدنية والدينية ان تتسجّل ثانية ليُعتَرف بها شرعيا. وكانت مسألة الوضع الشرعي السابق للاخوة ستُعلَّق حتى يُمنَحوا الاعتراف. ولكن للأسف، لم تُقبَل الطلبات ليتسجّلوا ثانية.في ايلول (سبتمبر) ١٩٨١، أُوقف اندرو وميريام ريد فيما كانا في العمل الدائري في منطقة الهضاب الوسطى. وطوال عشرة ايام احتُجزا في شتى السجون وفي ظروف مزرية جدا. وأخيرا، أُخذا الى المركز الرئيسي لشرطة الأمن، حيث أُبقيا في زنزانتين منفصلتين معظم الوقت. وفي محاولة لمعرفة اسماء الاخوة المسؤولين استُجوِبا مرارا، وغالبا طوال ساعات كل مرة. وقيل لكل منهما ان رفيق زواجه اعترف انه عميل لوكالة المخابرات المركزية، مع انهما ليسا مواطنَين اميركيَّين! وفي النهاية، قيل لهما ان الامر كله حدث خطأ. ومع انهما لم يُتّهما بأية تهمة رسمية، فقد رُحّلا الى كوستاريكا. الا انه قبل مغادرتهما، قيل لهما ان رفض شهود يهوه حمل السلاح هو امر غير مقبول، وإن كل مواطن في نيكاراڠوا يجب ان يكون مستعدا للمحاربة عن بلده.
تصرّفت لجنة الفرع بحكمة وكثّفت تدريب الاخوة المحليين للاشراف على العمل في حال أُقفل مكتب الفرع. وفي الوقت نفسه، عُقد مقرَّر تعليمي لنظار الدوائر وبدلائهم. كما عُقدت سلسلة من صفوف مدرسة خدمة الملكوت للشيوخ وعدد من الخدام المساعدين وصفوف لمدرسة خدمة الفتح. لكنَّ عقد التجمّعات الكبرى كان اصعب.
على سبيل المثال، اكَّد رسميو مدينة ماسايا انه يمكن استخدام
مدرّج المدينة لعقد احد المحفلين الكوريين بعنوان «ولاء الملكوت» اللذين كان من المقرَّر عقدهما في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٩٨١. لكنهم أخلفوا بوعدهم قبل ٣٦ ساعة فقط من المحفل. لم يصدر القرار من مكتب المحافظ، بل من الحكومة المركزية. وعندما أُعلم الاخوة بالامر، رتَّبوا قبل يوم من المحفل ان تُستخدَم مزرعة دجاج تملكها اخت كموقع بديل لعقد المحفل. كان المكان يبعُد حوالي ثمانية كيلومترات عن ماناڠوا. وبغية اعداد الموقع، عمل المتطوّعون الليل كله. وأُعلم اكثر من ٨٠٠,٦ اخ شفهيا بالمكان الجديد لعقد المحفل.اقفال الفرع
يوم السبت في ٢٠ آذار (مارس) سنة ١٩٨٢، عند الساعة ٤٠:٦ صباحا، كان إيان هانتر يعدّ الفطور لرفقائه المرسَلين. وفي الخارج، وصل باص يحمل رسميّين من دائرة الهجرة وجنودا مسلّحين
برشاشات. فأحاط الجنود بمكتب الفرع وبيت المرسَلين. يقول إيان: «امرنا الرسميون ان نحزم حقيبة واحدة وشنطة يد صغيرة دون ان يذكروا السبب. ولم يقولوا سوى انهم سيأخذوننا الى بيت نمكث فيه بعض الوقت، بانتظار بعض التحقيقات. فانسلّ راينر تومپسون، منسِّق لجنة الفرع، الى المكتب بحذر واتصل ببيتَي المرسَلين الآخَرَين لإخبارهم بما يحدث».تتذكر روبي بلوك: «تعلّمت في ذلك اليوم المعنى الحقيقي لكلمات بولس: ‹لا تحملوا همّا من جهة اي شيء، بل في كل شيء لتُعرَف طلباتكم لدى اللّٰه بالصلاة والتضرع . . . وسلام اللّٰه الذي يفوق كل فكر يحرس قلوبكم وقواكم العقلية›. (فيلبي ٤:٦، ٧) كان جندي مسلّح يراقبنا من المطبخ فيما قدّم راينر تومپسون صلاة وقلنا جميعا ‹آمين› من كل قلبنا. بعد ذلك، شعرنا بهدوء قلبي تام، مع اننا لم نكن نعلم كيف سينتهي ذلك اليوم. وكنا واثقين انه مهما حدث، فسيمنحنا يهوه القوة لنتغلب على المصاعب. هذا الدرس سأبقيه في ذهني ولن انساه ابدا».
يشرح الاخ هانتر ما حدث لاحقا ويقول: «اركبونا في الباص وأخذونا الى مزرعة بنّ قديمة في الريف. وقلت للرسميين اننا، بوصفنا أجانب، لدينا الحق في الاتصال بسفاراتنا. فأجابوا ان حالة الطوارئ التي أُعلنت في بداية الاسبوع ابطلت هذه الحقوق وأن بإمكاننا الاتصال بمن نشاء عندما نصير خارج البلد. كان ذلك اول تلميح اننا سنُطرد من نيكاراڠوا». في ذلك اليوم، نُقِل المرسَلون التسعة الذين يعيشون في الفرع في فرق منفصلة الى حدود كوستاريكا.
في تلك الاثناء، عندما تلقّى المرسَلون في البيتَين الآخَرَين اتصال الاخ تومپسون، تصرّفوا بسرعة. فبمساعدة الاخوة المحليين، نقلوا معدات كثيرة، بما في ذلك مطبعة أوفست والكثير من الممتلكات
الشخصية. وعندما وصل رسميّو دائرة الهجرة، فاجأهم ان يجدوا البيتَين خاليَين تقريبا والمرسَلين يحزمون حقائبهم. في تلك الليلة، أُخذ المرسَلون العشرة من بيتَي المرسَلين هذين الى المطار. تروي فيليس پورتر: «قالوا اننا مناهضون للثورة، ومع ذلك لم يفتشونا ولا فتشوا حقائبنا. وعلى الرغم من عدم حيازتنا تذاكر سفر، اظهرت البطائق على حقائبنا اننا مرحّلون الى پاناما». ولم يبقَ في البلد إلا مرسَلان — زوجان بريطانيان يقومان بالعمل الدائري — وقد رُحّلا بعد بضعة شهور.في غضون ايام، اجتمع المرسَلون ثانية في فرع كوستاريكا. وهناك نالوا تعيينات من الهيئة الحاكمة لمتابعة خدمتهم في البلدان المجاورة: الإكوادور، بيليز، السلڤادور، وهندوراس. الا ان راينر وجانّ تومپسون وإيان هانتر بقوا في كوستاريكا بعض الوقت ليكونوا على اتصال بالاخوة الذين صاروا يشرفون على العمل في نيكاراڠوا.
وكيف دبّر الاخوة في نيكاراڠوا امورهم؟ اخبر الاخ هانتر: «لقد ذرف اخوتنا الاعزاء الدموع لسماعهم خبر ترحيلنا، لكنهم يواظبون على العمل دون ابطاء. والذين تعيّنوا في لجنة البلد يأخذون القيادة بفعالية، ونحن واثقون انهم سيقومون بعمل جيد». يتذكر فيليكس پيثرو پاييس، ناظر دائرة من نيكاراڠوا منذ زمن طويل، كيف شعر الاخوة حيال رحيل المرسَلين: «شعرنا بحزن عميق. فقد بذلوا انفسهم فعلا وبقوا اولياء. ومثالهم شجّع الاخوة ووضع اساسا متينا للعمل في هذا البلد».
نشاطنا مقيَّد ولكن ليس محظورا
احيانا، تسيء الحكومات فهم موقف شهود يهوه الحيادي حيال السياسة، الحرب، والنزاعات الاجتماعية. ويؤدي
ذلك غالبا الى مواقف متناقضة تجاه شعب اللّٰه. على سبيل المثال، تحت حكم سوموزا خلال خمسينات وستينات الـ ١٩٠٠، اتّهمهم المقاومون بأنهم شيوعيون. لكن الثوار الساندينيين يعتبرون الاخوة الآن عملاء وكالة المخابرات المركزية الاميركية. وقد انضمت اليهم وسائل الاعلام، مصنّفة اياهم انهم «مناهضون للثورة».مع ذلك لم يُحظَر عمل شهود يهوه، رغم ان الفترة بين ١٩٨٢ و ١٩٩٠ كانت موسومة بقيود واضحة لحرية عبادتهم. على سبيل المثال، لم يكن بإمكانهم ادخال المطبوعات الى البلد. وأُنشئ ايضا نظام لإخضاع نشاطاتهم، وكذلك نشاطات الناس عامة، للمراقبة عن كثب.
مراقَبون من الجواسيس في الأحياء
يذكر كتيّب لمكتبة الكونڠرس: «مباشرة بعد الثورة، أنشأت ايضا جبهة التحرير الوطني الساندينيّة منظمات كبيرة تمثّل الجماعات الاكثر شعبية من اصحاب المصالح المشتركة في نيكاراڠوا». وقد شملت هذه الجماعات عمّالا، جمعية نسائية، مربِّي ماشية، مزارعين، وفلاحين. ووفقا للكتيّب، «بحلول سنة ١٩٨٠ ضمت منظمات الثوار الساندينيين حوالي ٠٠٠,٢٥٠ مواطن من نيكاراڠوا». وإحدى اقوى هذه المنظمات كانت «لجان الدفاع الساندينية» التي على غرار اللجان الشيوعية. وكانت هذه المنظمة مؤلفة من لجان موجودة في الاحياء. وتضمّن عملها اجراء احصاءات على نطاق احياء المدن، مما جعلها «تعرف مكان وجود كل شخص»، بحسب المرجع المذكور آنفا. فكانت اداة فعالة لجمع المعلومات ونشرها لمصلحة الحكومة.
وسرعان ما صارت نشاطات شهود يهوه مراقَبة عن كثب، وبالأكثر بسبب حملة الدعاية القوية التي أُطلقت ضدهم. فكانت لجان الدفاع الساندينية الموجودة في الاحياء تبلّغ قانونيا السلطات الساندينية عن الاشخاص الذين يُشتبَه انهم يقومون بنشاطات مناهضة للثورة ولديهم «ايديولوجيات مغايرة». وغالبا ما كان عملاء «المديرية العامة لأمن الدولة»، وهي شرطة سرية، يوقفون هؤلاء الاشخاص.
شملت مهام لجان الدفاع الساندينية تنظيم حراسة ليلية. فكان يُطلَب من الناس العاديين، الرجال والنساء، ان يشتركوا في الحراسة ويُبلِّغوا عن اي مجرم او نشاط مناهض للثورة في الاحياء التي يسكنونها. لم يشترك الشهود في هذه الحراسة، ولم يسمحوا باستخدام بيوتهم لعقد الاجتماعات الاسبوعية للجان الدفاع الساندينية. الا انهم قبلوا القيام بأعمال طوعية اخرى، مثل تنظيف الشوارع. ومع ذلك، اعتُبروا متعصبين وخطرا على الدولة. يقول احد
الاخوة: «خلال معظم تلك السنوات، كانت الكلمات ‹نحن نراقبك› مدهونة على واجهة بيتي».حذرون وفي الوقت نفسه جريئون
كان الاخوة حذرين عند حضور الاجتماعات المسيحية والاشتراك في الخدمة لكي لا يجذبوا انتباها غير ضروري اليهم. فكانوا يعقدون الاجتماعات في فرق صغيرة بعيدا عن الانظار، إما في بيوت خاصة او في قاعات ملكوت لا تُعرَف انها قاعات. وفي بعض الاحياء، لم يكن الاخوة يرنّمون ترانيم الملكوت في الاجتماعات. وبمرور الوقت، لم يعد الناشرون يكتبون اسماءهم على النماذج والتقارير المستعملة في الجماعة واستبدلوها بأرقام. بالاضافة الى ذلك، لم يكن المهتمون يُدعون الى الاجتماعات الا اذا درسوا ستة اشهر على الاقل وصار تقدمهم الروحي ظاهرا.
كانت المحافل تُعقَد على نطاق اصغر وببرنامج اقصر. فكانت مجامل الخطابات والمواد الاخرى تُرسَل الى كل جماعة، حيث ينظّم الشيوخ فيها البرنامج ويقدّمونه لجماعتهم مستعينين بخدام مساعدين اكفاء. وكان اعضاء لجنة البلد والنظار الجائلون يزورون اكبر عدد ممكن من هذه المحافل.
كان الاخوة يُخبَرون شفهيا بأماكن عقد المحافل، ولم يُلغَ اي محفل. ولكن لزم احيانا تغيير بعض المواقع قبل وقت قصير من المحفل. على سبيل المثال، في سنة ١٩٨٧، جُهّز الفناء الخلفي لبيت اخ في احدى القرى لعقد محفل يشمل حوالي ٣٠٠ شخص. وفجأة، ظهر مسؤول عسكري برفقة رجاله وسأل: «ما هذا كله؟».
عرف الاخ من الجزمة التي ينتعلها المسؤول انه ينتمي الى سلك امن الدولة، فأجابه قائلا: «سنقيم حفلة». فاكتفى المسؤول بذلك وغادر. وإذ عرف الاخوة والاخوات ان السلطات ارتابت بالامر، عملوا
كل تلك الليلة في تفكيك كل شيء. وبحلول الساعة ٠٠:٥ صباحا، كانت الكراسي، المنصة، وكل معدات الطبخ قد نُقلت ووُضعت في مكان آخر يبعد حوالي كيلومتر ونصف. وقد أُعلِم الاخوة بالموقع الجديد بواسطة شبّان اصحّاء البنية. في وقت لاحق من ذلك الصباح، وصلت شاحنة محمّلة جنودا مسلّحين الى الموقع الاصلي آملين ان يوقفوا سير المحفل، يأخذوا الشبان الى الخدمة العسكرية، ويعتقلوا الاخوة الذين يأخذون القيادة. ولكنهم لم يجدوا الا صاحب البيت.سأل المسؤول: «اين هم الناس؟».
اجاب الاخ: «اقمنا حفلة الليلة الماضية، ولكنها انتهت».
سأل المسؤول: «هل كان عندكم محفل؟».
قال الاخ: «تأكد بنفسك. لا يوجد شيء هنا».
تابع المسؤول، اذ لم يقتنع بالجواب: «ماذا عن الخِيَم التي كانت منصوبة هنا البارحة؟».
كرر الاخ: «الحفلة انتهت. لقد اخذوا كل شيء وذهبوا».
بعد ذلك، غادر الجنود. وفي تلك الاثناء، كان الاخوة يتمتعون ببرنامج بنّاء روحيا في الموقع الآخر.
قال يسوع: «ها انا أرسلكم كخراف وسط ذئاب؛ فكونوا حذرين كالحيات، وأبرياء كالحمام». (متى ١٠:١٦) وقد طبَّق الناشرون هذه الكلمات، ليس فقط في ما يتعلق بالاجتماعات والمحافل، بل ايضا في ما يتعلق بخدمة الحقل. فتجنبوا تشكيل فرق كبيرة وخدموا بحرص شديد اثنين اثنين في المقاطعات المعيّنة لهم. يشرح ناظر الدائرة فيليكس پيثرو پاييس: «وجب ان نكون حذرين جدا. لم نكن نحمل في الخدمة سوى كتابنا المقدس. وكل يوم كان يرافقني اخ مختلف في الخدمة. وعند زيارة بعض الجماعات، كنت اذهب الى فريق لدرس الكتاب مساء الثلاثاء، الى فريق آخر يوم الخميس، وإلى فريق آخر يوم الاحد. ولكن في بعض انحاء البلد، كانت هذه الاجراءات الاحتياطية اقل صرامة».
مصادرات وتوقيفات
ذات ليلة في تموز (يوليو) سنة ١٩٨٢، قامت حشود من الرعاع تضم ما يتراوح بين ١٠٠ وأكثر من ٥٠٠ شخص، ترافقهم عناصر من سلك امن الدولة، باقتحام عدة قاعات ملكوت في شتى انحاء البلد والاستيلاء عليها «باسم الشعب». وفي ٩ آب (اغسطس)، بين الساعة السابعة والتاسعة مساء، استُولي ايضا على خمس قاعات ملكوت اخرى، قاعة محافل، ومبنى الفرع في شارع إل رايسون. وكان ستة اخوة من نيكاراڠوا والزوجان المرسَلان الوحيدان الباقيان لا يزالون يعيشون في الفرع بغية الحفاظ عليه، بعد ترحيل المرسَلين في آذار (مارس). ولكن في النهاية، اجبرت السلطات هؤلاء الاخوة على مغادرة المكان، بدعم من الرعاع المتهكمين، دون ان تسمح لهم بأخذ ممتلكاتهم الخاصة.
سمحت الحكومة للجان الدفاع الساندينية ان تضع يدها على قاعات الملكوت المحتلة، التي صارت تُعتبَر «مُلك الشعب». وكان من المفترض إجراء تغييرات في القاعات بحيث تصير ملائمة للاستعمال العام. وفي النهاية، جرى احتلال ٣٥ مِلكية من اصل ٥٠، مع انها لم تُصادَر قط رسميا.
وسط هذا الحماس الوطني، وُضع الاخوة المسؤولون تحت مراقبة شديدة وكانوا يُهدَّدون في اغلب الاحيان. على سبيل المثال، في بعض الاحياء، تجمع الرعاع المنضمون الى لجان الدفاع الساندينية امام بيوت الاخوة وضايقوهم طوال ساعات، مرددين التّهم والشعارات السياسية. وفتش رجال شرطة امن الدولة البيوت ونهبوا البعض منها. وأُوقف عدد من الشيوخ، بمن فيهم اعضاء في لجنة البلد، وأُسيئت معاملتهم.
كان جويل أوبريڠون، ناظر دائرة في ذلك الوقت، احد الشيوخ الاوائل الذين مرّوا بهذا الاختبار. ففي ٢٣ تموز (يوليو) سنة ١٩٨٢، احاط عناصر من سلك امن الدولة بالبيت الذي كان يستضيفه هو وزوجته نيلا وأوقفوه. وبعد خمسة اسابيع من المساعي المستمرة التي قامت بها زوجته، سُمح لها بأن ترى زوجها، مدة ثلاث دقائق فقط وبحضور عنصر مسلّح. كان واضحا انهم اساءوا معاملته، لأن نيلا لاحظت انه نحيل ويستصعب التكلم. قال لها احد العناصر: «جويل لا يريد ان يتعاون معنا».
بعد ٩٠ يوما من الاعتقال، أُطلق اخيرا سراح جويل، وقد خسر ٢٠ كيلوڠراما من وزنه. أُوقف ايضا شيوخ في انحاء اخرى، استُجوبوا، ثم أُطلق سراحهم. وكم قوّى مثال استقامتهم ايمان الاخوة! — انظر الاطار «فترة احتجاز قصيرة عند الشرطة السرية»، في الصفحات ٩٩-١٠٢.
التجنيد الاجباري يمتحن الاحداث المسيحيين
تأثر الاخوة الشبان خصوصا بالقانون الذي صدر في سنة ١٩٨٣ المتعلق بنظام تجنيد اجباري شامل يُعرَف بـ «الخدمة العسكرية
الوطنية». فالذكور الذين تتراوح اعمارهم بين ١٧ و ٢٦ سنة ملزَمون قانونيا بقضاء سنتين في الخدمة العسكرية الفعلية وسنتين أخريَين في قوات الاحتياط. وعندما يلتحقون بالجيش، يؤخذون مباشرة الى معسكر للتدريب. لم يكن هنالك اي ترتيب يتعلق بالمعترضين بسبب الضمير؛ لذلك عنى رفْض التدريب الاحتجاز في انتظار المحاكمة، ثم حكما بالسجن مدة سنتين. وقد واجه الاخوة هذا الامتحان بشجاعة، مصممين على البقاء اولياء ليهوه.على سبيل المثال، في ٧ شباط (فبراير) سنة ١٩٨٥، كان ڠيلييرمو پونسيه، فاتح قانوني في ماناڠوا في الـ ٢٠ من عمره، في طريقه لعقد بعض الدروس البيتية في الكتاب المقدس عندما اوقفته الشرطة. ولأنه لا يملك بطاقة عسكرية أُرسل الى معسكر تدريب. ولكن بدلا من ان يحمل السلاح، ابتدأ يشهد للمجنّدين الاحداث. اذ رأى احد القواد ذلك، قال بحدّة: «لسنا في كنيسة؛ نحن في معسكر. هنا، عليك ان تطيعنا!». فأجاب ڠيلييرمو بذكر كلمات الاعمال ٥:٢٩: «ينبغي ان يُطاع اللّٰه حاكما لا الناس». فانتزع القائد الغضبان، وهو مدرِّب عسكري كوبي، الكتاب المقدس منه وقال مهدّدا: «يجب ان نتحدث الليلة» — مما عنى ان ڠيلييرمو سيخضع لشكل من اشكال التعذيب النفسي بغية اضعاف عزيمته.
من المفرح ان القائد لم ينفِّذ تهديده. ولكن بعد ثلاثة ايام، نُقل ڠيلييرمو الى سجن أُبقي فيه طوال الاشهر التسعة التالية في اوضاع مزرية. ومع ذلك تابع خدمة الفتح، اذ كان يعقد دروسا في الكتاب المقدس وكذلك اجتماعات داخل السجن. وفي وقت لاحق خلال هذه الفترة الصعبة، صار ڠيلييرمو دعما قيّما للجنة البلد.
بدلا من دخول السجن، كان بعض الاخوة الاحداث يُنقَلون الى الجبال للانضمام الى الوحدات العسكرية المدعوة «كتائب الحرب غير
النظامية». وقد تألفت كل كتيبة من خمس او ست سرايا تضم كل سرية منها ٨٠ الى ٩٠ رجلا مدرّبا على القتال في ادغال الجبال، حيث حصلت اعنف المعارك مع الكونتراس (محاربون مقاومون للثوار الساندينيين). ومع ان الاخوة رفضوا لبس البدلة العسكرية وحمل السلاح، أُرغموا على الذهاب الى ساحة المعركة، كما عوقبوا وشُتموا.اشعياء ٢:٤) ولم يلبس بدلة عسكرية ولا حمل السلاح. ومع ذلك، فقد أُجبر على السير مع الجنود طوال الاشهر الـ ٢٧ التالية.
وقد تعرّض جيوڤاني ڠايتان البالغ الثامنة عشرة من العمر لمثل هذه المعاملة. قبيل المحفل الكوري في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٩٨٤ الذي كان ينوي ان يعتمد فيه، حاولوا اجباره على الانضمام الى الجيش. فأُرسل الى معسكر تدريب حيث حاول الجنود طوال ٤٥ يوما اجباره على تعلم استعمال البندقية والقتال في الادغال. ولكن انسجاما مع ضميره المدرّب على الكتاب المقدس، رفض جيوڤاني ‹تعلّم الحرب›. (يقول جيوڤاني: «كنت اقوّي نفسي بالصلاة بلا انقطاع، بالتأمل في ما تعلّمته في الماضي، وبالبشارة لأي جندي يظهر اهتماما. وغالبا ما كنت اتذكر كلمات صاحب المزمور: ‹ارفع عينيَّ الى الجبال من حيث يأتي عوني. معونتي من عند الرب صانع السموات والارض. لا يدع رِجلك تزل. لا ينعس حافظك›». — مزمور ١٢١:١-٣؛ ١ تسالونيكي ٥:١٧.
وعلى الرغم من إقحام جيوڤاني وسط المعارك في حوالي ٤٠ معركة، فقد بقي حيا ولم يُصَب بأذى. وبعد اطلاق سراحه، اعتمد في ٢٧ آذار (مارس) سنة ١٩٨٧، وبُعيد ذلك انخرط في خدمة الفتح. وقد مرّ العديد من الاخوة الاحداث الامناء باختبارات مماثلة. — انظر الاطار «أُقحمتُ في ساحة المعارك»، في الصفحتين ١٠٥-١٠٦.
الدفاع عن موقفهم الحيادي
اتّهمت لجان الدفاع الساندينية والصحافة التي تسيطر عليها الحكومة شهودَ يهوه زورا بأنهم يلجأون الى الخدمة من بيت الى بيت لشن حملة ضد «الخدمة العسكرية الوطنية». وادَّعوا ان الشهود
يعرّضون الامن القومي للخطر لأنهم يقنعون الشبيبة في نيكاراڠوا برفض الخدمة العسكرية. وعلى الرغم من ان هذه الاتّهامات باطلة، فقد تكررت كثيرا الى حدّ انها جعلت المدّعين العامين والقضاة ينحازون. وما زاد الطين بلّة هو ان قادةَ كنائس انجيلية بارزة، يعترفون بتأييدهم للثورة، قاموا بتوجيه تهم الى الذين يبقون حياديين لأسباب دينية وصنّفوهم بأنهم «اعداء الشعب».اهتم احد المحامين الشهود بقضايا استئناف تتعلق بـ ٢٥ أخا شابا حُكم عليهم بالسجن سنتين لرفضهم الخدمة العسكرية. ولأن الاعتراض بسبب الضمير لم يكن معترفا به رسميا، كان هدف الاستئناف تخفيض مدة الاحكام، بالتكلم عن سجل المتَّهمين النظيف ورضوخهم عند الاعتقال. ونتيجة لذلك، خُفّضت بعض الاحكام، ولكن ليس كلها؛ وقد تراوح التخفيض بين ٦ و ١٨ شهرا.
يقول الاخ هوليو بندانيا الذي حضر المحاكمات: «من الجدير بالملاحظة انه باستثناء شهود يهوه، لم يرفض اي حدث الخدمة العسكرية لأسباب دينية. وقد كنت فخورا ان ارى احداثنا الذين في الـ ١٧ من العمر يدافعون عن حيادهم باقتناع راسخ امام قاضٍ ومدّعٍ عام عسكري وهم محاطون بمشاهدين مقاومين». — ٢ كورنثوس ١٠:٤.
الطباعة في السرّ
خلال هذه الفترة، استمرت الهيئة الحاكمة بمنح العون والتوجيه للاخوة في نيكاراڠوا من خلال فرع كوستاريكا ولجنة البلد في نيكاراڠوا. ولكن بما ان استيراد المطبوعات كان محظورا، فكيف زُوّد ‹الطعام في حينه›؟ (متى ٢٤:٤٥) مرة اخرى، مهّد يهوه السبيل.
في سنة ١٩٨٥، تمكن الاخوة من الحصول على مواد درس برج المراقبة والمواد الاخرى المؤسسة على الكتاب المقدس بمساعدة دار
طباعة. ولكنّ اتِّباع هذا الاسلوب كان امرا محفوفا بالمخاطر، لأنه يتيح للمقاومين إلحاق الضرر بعملنا. لذلك، قُرّر استخدام مطبعة الأوفست التي كانت تُستعمل لطباعة برامج المحافل ودعوات الذِّكرى حتى وقت اغلاق الفرع. وشُغّلت المطبعة في بيت اخت تعيش خارج ماناڠوا.ولكن للأسف، في تشرين الثاني (نوفمبر) من تلك السنة، عرفت الحكومة بأمر المطبعة وصادرتها. لم يدَع الاخوة هذه العقبة توقف العمل، فبادروا الى تصليح آلة نسخ قديمة، وسمّوها «الديك». كانت آلة النسخ هذه تُستخدَم سابقا لطبع اوراق الدعوة، الرسائل، والبرامج. وعندما صار صعبا الحصول على قطع غيار، تمكّن الاخوة من الحصول على آلة نسخ مستعملة اخرى، وسمّوها «الصوص». ولاحقا، ارسل اليهم فرع السلڤادور آلة اخرى. وإذ التصقوا بالاسماء المستوحاة من المزرعة، سمّوا هذه الآلة «الدجاجة».
كانت طريقة الطباعة اقل تطورا، ولكن ليست اقل فعالية. وقد
شملت استخدام ألواح نسخ، دعاها الاخوة لاس تابليتاس، اي الالواح الصغيرة. كانت هذه الآلة من صنع الاخ پيثرو رودريڠس، وهو نجّار اثاث اعتمد في سنة ١٩٥٤. وكانت مؤلفة من اطارين مستطيلين تجمعهما مفصّلات. في الاطار العلوي ثبِّتت قطعة قماش مخرّمة. وفي الاطار السفلي، او القاعدة، ثبِّت لوح زجاجي او خشبي. كان التصميم بسيطا، وكذلك عملية الطباعة. فكانت توضع في الاطار العلوي ورقة ستانسِل مطبوعة بحيث يكون الجانب الخلفي منها على قطعة القماش المخرّمة. وكانت توضع ورقة نظيفة على الاطار السفلي. ثم تُمرّر دُحروجة الحبر على قطعة القماش المخرّمة، وبعد كل طبعة تُدخَل ورقة جديدة.رغم ان طريقة الطباعة هذه مملة، فقد انتجت عدة مطبوعات، بما فيها كتاب الترانيم رنِّموا تسابيحَ ليهوه الذي يحتوي على الترانيم الـ ٢٢٥ كلها. يتذكر إدموندو سانشيس الذي كان يشارك في الطباعة: «بعد ان صار الاخوة ماهرين في استعمال الالواح الصغيرة طبعوا ٢٠ صفحة في الدقيقة. وجملة، انتجنا حوالي ٠٠٠,٥ نسخة من كتاب الترانيم وحده».
كانت زوجة إدموندو، إلدا، من بين اوائل الاخوات اللواتي ساعدن في إعداد اوراق الستانسِل لاستعمالها في آلات النسخ. كانت تستخدم آلتها الكاتبة اليدوية في طبع مواد دروس برج المراقبة على اوراق ستانسِل، مبتدئة في ساعات الصباح الباكرة
وعاملة في احيان كثيرة حتى وقت متأخر في الليل، رغم كونها امّا لولدَين. تتذكر: «كان إدموندو يعطيني نسخة من المجلة التي يتسلمها من كوستاريكا. لم اعرف قط عدد فرق الطباعة او مكان عملهم؛ كنت اعرف فقط الجزء المعيّن لي من العمل. وكنت اعرف ايضا انه اذا افتُضح امرنا، يُصادَر بيتنا، اثاثنا — كل شيء لدينا — ونُعتقَل، وربما ينتهي بنا الامر ان نصير من ‹المفقودين›. الا ان محبة يهوه وخوفه طردا خوف الانسان الذي كان من الممكن ان نشعر به».اماكن الطباعة
يتذكر ڠيلييرمو پونسيه كيف كانت اماكن الطباعة. لقد كان مصحّحا لنُسخ الطباعة وصِلة وصل بين الاخوة الذي يعدّون اوراق الستانسِل والذين يطبعونها ويوزِّعونها. يشرح الاخ پونسيه: «أُقيمت اماكن الطباعة في بيوت بعض عائلات الشهود. وكانت عبارة عن غرفة مبنية داخل غرفة مما جعل مكان العمل ضيقا. ولإخفاء صوت آلة النسخ، وضعنا مسجّلة او راديو خارج غرفة الطباعة وعلّينا الصوت».
عمل الاخوة وهم يتصببون عرقا من تسع الى عشر ساعات يوميا داخل هذه الغرف الصغيرة في نسْخ برج المراقبة او مطبوعات اخرى. وعندما كان الجيران يحاولون معرفة ما يجري او عندما كان شخص ما يبلِّغ السلطات، غالبا ما لزم نقل كل شيء فورا الى بيت آخر.
اعتُبر هذا العمل بمثابة الخدمة في بيت ايل، والذين شاركوا فيه كانوا اخوة احداثا عزابا. كان فيليپيه تورونيو في الـ ١٩ من عمره ومعتمدا حديثا عندما دُعي الى الخدمة في احد اماكن الطباعة. يقول فيليپيه: «اول شيء رأيته هو غرفة صغيرة جدا يكاد لا يدخلها الهواء عابقة برائحة قوية منبعثة من السائل الذي يُستعمَل في تصحيح الاخطاء في اوراق الستانسِل. كانت الحرارة لا تُطاق، وكان يُستخدَم مصباح صغير للاضاءة».
كانت هنالك تحديات اخرى ايضا. مثلا، عندما كانت تخرب احدى الآلات، الامر الذي حدث مرارا، لم يكن بالامكان اخذها الى محل للتصليح. فالناس كانوا سيسألون: ‹لمن آلة النسخ هذه؟ ماذا يُطبع عليها؟ هل العمل مرخّص فيه من الحكومة المركزية؟›. لذلك لزم ان يصلحها الاخوة بأنفسهم وفي بعض الاحيان لزم ان يصنعوا لها قطع غيار. كان انقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر مشكلة اخرى واجهها الاخوة. يتذكر الاخ پونسيه: «لم تُردْ فرق الطباعة ان تتأخر في الانتاج. فكنت اجدهم احيانا يشتغلون على ضوء مصباح يعمل على الكيروسين، وأنوفهم ملطّخة بالسخام. ان التقدير، الموقف العقلي الايجابي، وروح التضحية بالذات التي اعرب عنها هؤلاء الشباب الرائعون هي ما حثني ان اواظب على العمل».
بعض الذكريات العزيزة
يتذكر فيليپيه تورونيو بإعزاز سنواته الاربع في الطباعة بالسرّ. يقول: «كنت افكر دائما ان الاخوة ينتظرون بشوق هذا الطعام الروحي المهم. لذلك خدمنا بفرح، رغم التقييدات الكثيرة التي فُرضت علينا». ويتذكر أومَر ويدي، الذي اشترك في هذا العمل من حزيران (يونيو) ١٩٨٨ حتى نهايته في ايار (مايو) ١٩٩٠: «كان جوّ المودة الاخوية احد الامور التي اثّرت فيّ بعمق. فقد عُلِّم الاشخاص الجدد التوّاقون الى التعلّم شتى الاعمال بصبر. ورغم ان اوضاع العمل لم تكن مثالية، الا ان المتطوعين، مع انهم شبان، كانوا اشخاصا روحيين يقدّرون تقديرا رفيعا التضحيات المشمولة بشكل الخدمة هذا».
خدم جيوڤاني ڠايتان ايضا في اماكن الطباعة. يتذكر: «ما ساعد على دعمنا هو التقدير ليهوه وهيئته. فلم يحصل احد منا آنذاك على بدل نفقات. ولكنّ ذلك لم يشغل بالنا؛ فكان لدينا ما نحتاج اليه.
مررت، شخصيا، بحالات كثيرة كان عليّ فيها ان اعتمد كليا على يهوه. فلم تكن حاجاتي المادية تشغل بالي كثيرا. والاخوة امثال ڠيلييرمو پونسيه، نلسون ألبارادو، وفيليپيه تورونيو، رغم حداثة سنهم، كانوا امثلة رائعة لي. والاخوة الاكبر سنا الذين اخذوا القيادة كانوا ايضا مصدر تشجيع لي. عندما اتذكر الماضي، لا يسعني إلا القول ان كل ما اختبرته اغنى حياتي حقا».ان جميع الذي اشتركوا في النشاطات السرية رأوا دعم يهوه بشتى الطرق، حتى في ما يتعلق بعمل الطباعة نفسه. يقول الاخ ڠايتان: «عادة، كانت ورقة الستانسِل الواحدة تُنتِج ٣٠٠ الى ٥٠٠ طبعة. ولكننا تمكنا من استعمالها لطبع ٠٠٠,٦ طبعة!». ولماذا كان من الضروري زيادة الكمية المنتَجة باستعمال نفس اوراق الستانسِل ومواد الطباعة الاخرى؟ كانت الكميات محدودة في البلد وغير موجودة إلا في متاجر تسيطر عليها الدولة. لذلك كان سيُلاحَظ بسرعة ايّ شراء لكميات كبيرة، مما يجعل الشاري عرضة للاعتقال. نعم، لقد بارك يهوه جهود الاخوة، لأنه باستثناء مطبعة الأوفست الاصلية، لم تجد السلطات ولم تقفل ايّا من اماكن الطباعة.
ساهم بعض الاخوة في عمل الطباعة رغم انهم اضطروا في الوقت نفسه الى الحصول على عمل دنيوي ليعيلوا عائلاتهم. وكثيرا ما تعرَّضوا للخطر نتيجة ذلك. على سبيل المثال، اوصل كثيرون منهم المواد المطبوعة الى كل انحاء البلد، مستخدمين سياراتهم الخاصة. وكانوا احيانا يجولون اليوم بكامله، مارّين بعدة حواجز تفتيش عسكرية. ورغم معرفتهم انهم قد يخسرون سياراتهم ويُعتَقلون ويُسجَنون اذا ما اكتُشف امرهم، لم يخافوا. ولا شك ان هؤلاء الاخوة احتاجوا الى الدعم التام من زوجاتهم، اللواتي لعب البعض منهن دورا حيويا خلال هذه الفترة الصعبة، كما سنرى الآن.
نساء روحيات شجاعات
اظهرت عدة نساء مسيحيات شجاعة وولاء مميزين خلال سنوات الحظر في نيكاراڠوا. فبالتعاون مع ازواجهن، فتحن بيوتهن لتجري فيها الطباعة سرّا، وغالبا ما كان ذلك طوال عدة اشهر في كل مرة. كما انهن اعددن الطعام على نفقتهن الخاصة لتقديمه للعاملين في الطباعة. يتذكر نلسون ألبارادو، الذي ساعد في تنسيق عمل الطباعة: «نشأت علاقة مسيحية حميمة بيننا نحن الاخوة الشبان وبين هؤلاء الاخوات. فقد صرن امهات لنا. وجعلناهن يعملن كثيرا، تماما كما يفعل الابناء لأمهاتهن. احيانا، كنا نشتغل حتى الساعة الرابعة صباحا لننتج الكميات المطلوبة في الاوقات المعينة، وخصوصا عند وجود اعمال اضافية، مثل كراس فاحصين الاسفار المقدسة يوميا. وأحيانا كان اثنان منا يعملان بالتناوب ٢٤ ساعة تقريبا. ومع ذلك، كانت الاخوات تعدّ لنا دائما وجبات طعام، حتى في ساعات الصباح الباكرة».
اهتمت ايضا العائلات التي توجد في بيتها مطبعة بمسألة الامان. وكان هذا التعيين عادة من اختصاص ربات المنزل، بسبب تواجد معظم الازواج في عملهم الدنيوي خلال النهار. تتذكر احدى الاخوات: «لإخفاء صوت الآلات، علّينا صوت الراديو الى اقصى حد ممكن. وعندما كان يدخل احد من البوابة، كنا ننذر الاخوة الموجودين في غرفة الطباعة بواسطة الضغط على زر لإضاءة مصباح كهربائي خصوصي».
كان الزائرون في اغلب الاحيان من الرفقاء الشهود او الاقرباء. ومع ذلك، حاولت الاخوات صرفهم بأسرع وألبق طريقة ممكنة. وكما يمكن ان نتخيل، لم يكن ذلك بالامر السهل دائما، لأن هؤلاء الاخوات هن عادة مضيافات جدا. لنتأمل في ما حدث مع هْوانا مونتييل، التي كانت تملك شجرة أكاجو في فناء منزلها. كان الرفقاء الشهود يأتون في احيان
كثيرة لقطف ثمر من الشجرة، فصار فناء منزلها مكانا يلتقي فيه الاخوة عادة. تتذكر هْوانا: «عندما حصلنا على الامتياز ان تتم الطباعة في بيتنا، اضطررنا انا وزوجي ان نقطع الشجرة. ولم يكن بإمكاننا ان نشرح للاخوة سبب تغيّرنا فجأة وصيرورتنا اقل اختلاطا بالناس، ولكننا علمنا انه يجب ان نحمي عملية الطباعة».اعتمدت كونسويلو بيتيتا في سنة ١٩٥٦. وقد استُخدم بيتها ايضا من اجل الطباعة. ولم يكن بإمكان الاخوة ان يوقفوا سياراتهم امام بيتها لأخذ المطبوعات دون ان يثيروا الشكوك. لذلك اوقفوها في مكان آمن اكثر — امام بيت اخ في الحي الثاني. في مقابلة معها قبل موتها، تذكرت الاخت بيتيتا تلك الايام. قالت وفي عينيها بريق: «كانت المجلات تُلَفّ وتوضع في اكياس مخصصة لمختلف الجماعات. وكان كل كيس يزن حوالي ١٥ كيلوڠراما. وللوصول الى بيت الاخ، كنا نحمل انا وكنّتي الاكياس على رأسنا ونعبر خندقا خلف بيتي. لم يشكّ الجيران في شيء قط، لأن الاكياس شبيهة تماما بالاكياس التي تحملها معظم النساء على رؤوسهن».
وكم اعزَّ الاخوة هؤلاء الاخوات الشجاعات الوليات! يقول ڠيلييرمو پونسيه، متحدثا بلسان الاخوة الكثيرين الذين خدموا معه في ذلك الوقت: «كان العمل معهن امتيازا رائعا حقا». ولا شك ان هؤلاء النساء المسيحيات الرائعات، الى جانب ازواجهن، رسمن مثالا ممتازا لذريتهن. فلنتأمل الآن في بعض التحديات التي واجهها الاولاد خلال تلك السنوات الزاخرة بالاحداث.
اولاد اولياء جديرون بالثقة
اعرب اولاد الذين ساهموا في دعم عملية الطباعة السرية وتوزيع المطبوعات، مثل آبائهم، عن ولاء بارز. تتذكر كلاوديا بندانيا، التي كان ولداها لا يزالان في تلك الفترة يعيشان في البيت: «طوال خمسة اشهر تمتعنا بامتياز استخدام غرفة خلفية من بيتنا من اجل الطباعة. وحالما كان الولدان يصلان من المدرسة، كانا يريدان مساعدة الاخوة. ولكن ماذا بإمكانهما ان يفعلا؟ بدلا من ان يصرفهما الاخوة، سمحوا لهما بأن يثبّتا اوراق برج المراقبة المنسوخة. وكم احب الولدان ان يكونا مع هؤلاء الشبان، الذين شجعوهما ان يحفظا غيبا آيات من الكتاب المقدس وبعض ترانيم الملكوت!».
تقول الاخت بندانيا: «من اجل المحافظة على السريّة، شرحنا انا وزوجي لولدَينا اننا نعيش في اوقات صعبة، ان هذا العمل هو ليهوه، وأنه من المهم جدا ان نبقى اولياء. وأوضحنا لهما انه يجب ان يُبقيا الامر سريّا وألا يتحدثا عنه مع ايّ كان — لا مع الأقرباء ولا حتى مع الاخوة والاخوات المسيحيين. ونحن شاكران ان الولدَين كانا امينَين وطائعَين».
كان بيت اورا ليلا مارتينيس من اوائل البيوت التي استُخدمت كمركز للطباعة. وقد شارك حفداؤها في تجميع الصفحات بالترتيب، تثبيتها، وحزمها. وصاروا هم ايضا متعلقين جدا بالاخوة الذين يعملون في بيتهم. ولم يتكلموا قط عن هذا الامر مع الآخرين. تتذكر آيونيس: «كنا نذهب الى المدرسة ونلعب كل يوم تقريبا مع اولاد عائلة بندانيا وآيوڠاريوس، ومع ذلك لم يعرف قط اي منا ان المطبوعات تُطبع في بيت الآخرين الا بعد عدة سنوات. وقد سألنا واحدنا الآخر بتعجب: ‹حقا؟ في بيتكم انتم ايضا؟!›. كنا اعز الاصدقاء، ومع ذلك لم يبُحْ ايّ منا بشيء عن الطباعة الى الآخرين. من الواضح انها كانت طريقة يهوه لحماية العمل».
لا يزال لتلك الاختبارات الباكرة تأثير ايجابي في هؤلاء الاحداث. يقول إمرسون مارتينيس، الذي هو الآن خادم مساعد وفي الخدمة الخصوصية كامل الوقت: «كان الاخوة في اماكن الطباعة تلك امثلة عُليا بالنسبة اليّ. فرغم انهم كانوا في الـ ١٨ او الـ ١٩ من العمر، علّموني ان اقدّر المسؤوليات الروحية، مهما كانت صغيرة، وتعلّمت ايضا اهمية إنجاز العمل على احسن وجه. فإذا اغفلت عن ورقة واحدة اثناء التجميع، فستفوت هذه المعلومات شخصا ما. وقد طبع ذلك في ذهني اهمية بذل اقصى جهدي من اجل يهوه وإخوتنا».
إلدا ماريّا، ابنة إدموندو وإلدا سانشيس، ساعدت في إيصال اوراق
الستانسِل لمجلة برج المراقبة والمطبوعات الاخرى التي طبعتها امها على الآلة الكاتبة. فكانت تحملها على دراجتها الى بيت الاخ پونسيه الذي يبعد عنهم خمسة احياء. وكانت الاخت سانشيس، تلفّ اوراق الستانسِل بعناية وتضعها في سلة صغيرة قبل ان تعطيها لابنتها. تقول إلدا ماريّا: «مذ كنت صغيرة جدا، درّبني والداي ان اكون مطيعة. وعندما اتت فترة الحظر، كنت معتادة ان اتبع التعليمات بدقة».وهل فهمَت المخاطر التي يواجهها الاخوة الذين يشرفون على الطباعة — بمن فيهم والدها؟ تقول إلدا ماريّا: «كثيرا ما قال لي والدي قبل ان يغادر البيت انه لا يجب ان اخاف او احزن اذا أُوقف. ومع ذلك، عندما كان يتأخر في العودة الى البيت، اتذكر انني كنت اصلّي كثيرا مع امي من اجل وصوله سالما. وغالبا ما كنا نرى اشخاصا من سلك امن الدولة جالسين في سياراتهم امام بيتنا لمراقبتنا. وعندما كانت امي تفتح الباب لأحد، كنت اجمع كل ادواتها وأخبئها. انني شاكرة جدا على مثال والديّ في اظهار الولاء ليهوه ولإخوتنا وتدريبهما لي ان افعل الامر نفسه».
بنى احداث كثيرون عاشوا في تلك الفترة اساسا متينا في حداثتهم. لذلك هم الآن في الخدمة كامل الوقت، وكثيرون منهم يخدمون في مراكز مسؤولية في الجماعات. وتقدّمهم هو دليل على بركة يهوه الغنية على شعبه، الذين لم يُحرَم ايّ منهم من الطعام الروحي خلال تلك الفترة الصعبة. وقد استمرت بشارة ملكوت اللّٰه في التقدّم، ولاقت ‹تربة جيدة› بين آلاف المسجونين خلال العهد السانديني. (مرقس ٤:٨، ٢٠) فكيف حدث ذلك؟
زرع بذار الملكوت في السجن
بعد الثورة الساندينية، احتُجز آلاف الاشخاص من الحرس الوطني المهزوم بالاضافة الى المنشقين السياسيين ليمثلوا امام محاكم مختصة
انعقدت جلساتها من اواخر سنة ١٩٧٩ حتى سنة ١٩٨١. فحُكم على معظم عناصر الحرس الوطني السابقين بقضاء ما يصل الى ٣٠ سنة في سجن موديلو، سجن كبير في تيپيتاپا، على بُعد حوالي ١١ كيلومترا شمالي شرقي ماناڠوا. وسنرى الآن كيف تحرّر روحيا كثيرون من المستقيمي القلوب داخل هذه السجون المكتظة التي كانت الظروف فيها صعبة الاحتمال.في اواخر سنة ١٩٧٩، تلقى شيخ في ماناڠوا رسالة من شاهد تمّ احتجازه لأنه خدم في الجيش في عهد حكومة سوموزا قبل ان يعرف الحق، ولكنه لم يكن قد نُقل بعد الى سجن موديلو. وقد طلب في رسالته مطبوعات ليوزعها على السجناء الآخرين. ورغم انه لم يُسمَح للشيخَين اللذين اوصلا المطبوعات برؤيته، لم يتثبط، بل استمر يشهد لرفقائه السجناء وعقد ايضا دروسا في الكتاب المقدس مع البعض منهم.
كان احد هؤلاء التلاميذ اناستازيو رامون ميندوسا. وقد احرز تقدما روحيا سريعا. يتذكر ويقول: «احببت كثيرا ما تعلّمته بحيث بدأت ارافق الاخ وهو يبشر السجناء الآخرين. وفي حين ان البعض رفضَنا، اصغى الينا البعض الآخر. وسرعان ما صرنا ١٢ شخصا ندرس معا خلال وقت الاستراحة في الباحة الخارجية». بعد سنة تقريبا، اعتمد شخص من هذا الفريق.
في اوائل سنة ١٩٨١، نُقل هذا الفريق الصغير من تلاميذ الكتاب المقدس مع سجناء آخرين الى سجن موديلو، حيث استمروا يبشرون الآخرين. وفي الوقت نفسه، كانت المطبوعات المؤسسة على الكتاب المقدس تُتداول سرّا بين السجناء، وقد وصل البعض منها الى المزيد من «التربة الجيدة».
تأمل في مثال هوسّيه دي لا كروس لوپيس وعائلته، الذين لم يكن
ايّ منهم من الشهود. بعد ستة اشهر من سجن هوسّيه، حصلت زوجته على نسخة من كتابي لقصص الكتاب المقدس من شهود التقتهم في الشارع. وكان هدفها الوحيد اعطاءه لزوجها. يقول هوسّيه: «عندما بدأت اقرأ الكتاب ظننت انه مطبوعة للانجيليين. فلم اكن اعرف شيئا عن شهود يهوه. وقد ترك فيّ الكتاب اثرا كبيرا بحيث قرأته عدة مرات وبدأت اخبر رفقائي الـ ١٦ في الزنزانة عن محتوياته. فتمتع به الجميع وكان لهم كجرعة مياه منعشة. ثم بدأ السجناء في الزنزانات الاخرى يطلبون ان يستعيروه. وهكذا جال في كامل جناح السجن، وصار باليا ومهترئا مثل اوراق لعب قديمة».كان عدة سجناء مع هوسّيه اعضاء في كنائس انجيلية؛ والبعض كانوا ايضا قسوسا. فبدأ هوسّيه يقرأ الكتاب المقدس معهم. ولكنه اصيب بخيبة امل عندما سألهم عن معنى تكوين ٣:١٥ وقالوا له انه لغز. وذات يوم، قال له احد السجناء، وهو تلميذ للكتاب المقدس: «الجواب موجود في الكتاب الذي معك، وهو من اصدار شهود يهوه. وأستطيع ان ادرسه معك ان شئت». قبِل هوسّيه العرض، وبمساعدة كتابي، عرف معنى تكوين ٣:١٥. بعد ذلك ابتدأ يرافق السجناء الذين يعاشرون الشهود.
كان السلوك الحسن احد الامور التي جذبت هوسّيه الى هؤلاء الاشخاص المميزين في سجن موديلو. يقول هوسّيه: «عرفت ان بعض الاشخاص كان لديهم نمط حياة فاسد جدا، ولكنهم صاروا الآن يسلكون سلوكا جيدا بسبب درسهم الكتاب المقدس مع شهود يهوه». في الوقت نفسه، استمرت زوجة هوسّيه تحصل على المطبوعات من الشهود وتعطيها لزوجها، الذي كان يتقدم روحيا. حتى ان الفريق الذي كان يحضر معه الاجتماعات عيّن له قسما من احد اجنحة السجن ليبشّر فيه من زنزانة الى زنزانة. وهكذا تمكّن من ان
يعير مطبوعاته القليلة للأشخاص المهتمين وأن يدعوهم ايضا الى الاجتماعات التي كانت تُعقد في هذا الجناح وقت الاستراحة.الاهتمام بحاجات السجناء الروحية
اهتمت جماعة ماناڠوا الشرقية بالحاجات الروحية للعدد المتزايد من السجناء في سجن موديلو الذين كانوا يقرأون المطبوعات ويحرزون تقدما روحيا. ولهذه الغاية، اعدّت الجماعة برنامجا لكي يُدخِل بعض الاخوة والاخوات المطبوعات سرّا الى السجناء. كانت الزيارات مسموحة كل ٣٠ او ٦٠ يوما، ولكن لم يكن بالامكان ان يزور احد السجين إلّا اذا كان الشخصَ نفسه الذي سبق ان طلبه السجين. لذلك لم يتمكن الشهود المحليّون من زيارة كل الاشخاص المهتمين. ومع ذلك، لم يشكّل الامر مشكلة كبيرة لأن السجناء سرعان ما كانوا يجتمعون معا وينقلون المعلومات واحدهم الى الآخر.
ساعد شيوخ جماعة ماناڠوا الشرقية في تنظيم وتوجيه نشاطات الفريق الذي يكبر داخل سجن موديلو. فقد بقوا خصوصا على اتصال قانوني بالسجناء الذين يأخذون القيادة في الامور الروحية، شارحين لهم كيفية ادارة الاجتماعات الاسبوعية، انجاز العمل الكرازي بطريقة منظمة، وكتابة تقارير عن هذه النشاطات. وكان هؤلاء السجناء، بدورهم ينقلون هذه المعلومات الى الآخرين. فالتنظيم الثيوقراطي صار بالتأكيد امرا ضروريا، لأنه بحلول ذلك الوقت كان قد تشكل فريق كبير من تلاميذ الكتاب المقدس في السجن.
في الاصل، تألف سجن موديلو من اربعة اجنحة، يسع كلّ منها ٠٠٠,٢ سجين. يشرح هوليو نونييس، احد الشيوخ الذين كانوا يزورون السجن: «كان كل جناح منفصلا عن الاجنحة الاخرى، فكانت الاجتماعات الاسبوعية تُعقد في باحة استجمام كل جناح على حدة. وبلغ مجموع عدد الحضور حوالي ٨٠ شخصا تقريبا».
المعمودية في برميل
اذ احرز الجدد تقدما، عبّر عدد منهم عن رغبتهم في المعمودية. فكان الشيوخ الذين يزورون السجن يوافقون على طلب المرشّحين للمعمودية، ويساعدون السجناء الذين يأخذون القيادة روحيا ان يرتّبوا لإجراء المعمودية في تاريخ يتزامن مع عقد محفل خارج السجن. عادة، كان يُلقى خطاب المعمودية في احدى الزنزانات في الامسية التي تسبق المعمودية، وفي الصباح التالي عندما يذهب السجناء ليستحموا، يعتمد المرّشحون للمعمودية.
اعتمد هوسّيه دي لا كروس لوپيس في السجن في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٨٢. يروي: «اعتمدت في برميل للنفايات. فقد نظفناه جيدا بمساحيق التنظيف، ثم غطيناه من الداخل بشرشف وملأناه ماء. ولكن عندما اجتمعنا حول البرميل من اجل المعمودية وصل حرّاس مسلّحون. فسألوا: ‹من سمح ان تُجرى هذه المعمودية؟›. شرح الاخ الذي يأخذ القيادة ان المرء ليس بحاجة الى اذن ليفعل ما يقوله اللّٰه. فقبِل
الحرّاس ان تُجرى المعمودية ولكنهم ارادوا ان يشاهدوا ما يجري. فسُئلت، امام انظار الحراس، السؤالَين اللذين يُطرحان على مرشّحي المعمودية، ثم غُطست في البرميل». ولاحقا اعتمد ٣٤ سجينا على الاقل بهذه الطريقة.أحرز بعض السجناء تقدما سريعا. وكان احد هؤلاء أومَر أنطونيو إسپينوسا، الذي قضى ١٠ سنين من سنوات حكمه الـ ٣٠ في سجن موديلو. كان السجناء يُنقَلون دوريا، وخلال السنة الثانية التي قضاها أومَر في السجن، كان احد رفقائه في الزنزانة واحدا من الشهود. لاحظ أومَر ان سجناء آخرين يزورون هذا الرجل ليعلّمهم الكتاب المقدس. فتأثر أومَر بما رآه وسمعه، وطلب هو ايضا درسا في الكتاب المقدس.
بدأ أُومَر يدرس بمساعدة كتاب الحق الذي يقود الى الحياة الابدية، مغطيا فصلا في اليوم. وبعد ١١ يوما، اراد ان يكون ناشرا. وعندما انتهى درس الفصول الـ ٢٢ من الكتاب، طلب المعمودية. لكنّ الاخوة طلبوا منه ان يفكِّر اكثر قليلا في المسألة. ونصحوه ايضا ان يدرس مطبوعة ثانية، كتاب يمكنكم ان تحيوا الى الابد في الفردوس على الارض، الذي حصلوا عليه مؤخرا في السجن. وبعد اكثر من شهر بقليل، اكمل أُومَر درس هذا الكتاب ايضا. اضافة الى ذلك، اوقف التدخين وصنع تغييرات اخرى ايضا. فكان واضحا ان حق الكتاب المقدس يؤثر في حياته. وعندما رأى الاخوة هذه التغييرات، اقتنعوا ان رغبته حقيقية، فاعتمد أُومَر في برميل في ٢ كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٨٣.
استخدام لغة اشارات في السجن
لنقل المعلومات المتلقاة من الشيوخ الذين يزورون السجن او لجمع المعلومات، مثل تقارير الخدمة، كان على الناشرين المسجونين في مختلف اجنحة السجن ان يتصلوا واحدهم بالآخر. يخبرنا الاخ ميندوسا، الذي اعتمد في السجن سنة ١٩٨٢، كيف فعلوا ذلك.
يقول: «تعلّم بعض منا لغة اشارات ابتكرها السجناء. وفي يوم
الذِّكرى، كنا نخمِّن متى تغيب الشمس ثم نتصل احدنا بالآخر بواسطة لغة الاشارات هذه لكي نشترك جميعنا في الصلاة في الوقت نفسه. وقد فعلنا ذلك سنة بعد سنة. كما ساعدتنا لغة الاشارات في درسنا لمجلة برج المراقبة. فعندما كان الاخوة في احد اجنحة السجن ينقصهم العدد الذي سيُدرَس في ذلك الاسبوع، كنا نوصل اليهم المقالة بكاملها عن طريق لغة الاشارات. فكان الاخ الذي يرى الاشارات في الجناح الآخر يقولها بصوت عالٍ بحيث يسمعها اخ غيره ويكتب المقالة على الورق». ولكن كيف وصل هذا الطعام الروحي اصلا الى السجن؟الطعام الروحي يغذي السجناء
كان الشيوخ، عائلاتهم، وناشرون آخرون من جماعة ماناڠوا الشرقية يأتون قانونيا الى سجن موديلو لزيارة السجناء. وطوال عشر سنوات تقريبا، جلبوا لإخوتهم مؤنا مادية وروحية، بما فيها برج المراقبة و خدمتنا للملكوت. وبالطبع، كان يجب اخفاء هذا الطعام الروحي.
خبأ احد الشيوخ المجلات في تجويف عكّازتيه الخشبيتين الكبيرتين. ويخبر هوليو نونييس: «كان الصغار ايضا يساعدون لأنهم نادرا ما يُفتَّشون». كما تمكّن الزوار من ادخال رمزَي الذِّكرى الى السجن.
عُيِّن لكل جناح في السجن يوم مخصص للزوار. وكان الاشخاص الذين يُسمَح لهم بالزيارة يقضون عادة اليوم بكامله مع السجين في فناء كبير. وبهذه الطريقة، تمكّن عدد قليل من السجناء الشهود من قضاء وقت مع اخوتهم وأخواتهم من ماناڠوا والحصول على المؤن الروحية. ولاحقا، عندما كان هؤلاء السجناء يعودون الى اجنحتهم، كانوا يشاركون اخوتهم في الامور التي حصلوا عليها.
حتى ترانيم الملكوت لم يُغفَل عنها. يقول الاخ لوپيس: «في جناحنا، كان يُسمح لواحد منا فقط برؤية الاخوة الزوار. فوقع على عاتق هذا
الاخ السجين ان يتعلم في كل مرة انغام بعض الترانيم لكي يعلّمنا اياها. ولأننا لم نملك سوى كتاب ترانيم واحد، كنا نتمرن جميعنا قبل الاجتماعات». كان الاخ ميندوسا احد السجناء القليلين الذين سُمِح لهم بأن يزورهم الشهود. يقول الاخ ميندوسا: «كان كارلوس أيالا وعائلته يزورونني. وقد علّمتني ابنتاه تسعًا على الاقل من ترانيم الملكوت، فعلّمتها لرفقائي». وكان الاخ لوپيس احد الذين تعلّموا الترانيم من سجين آخر. يتذكر: «لاحقا، عندما بدأت احضر الاجتماعات خارج السجن، سُررت جدا، ولكن يجب ان اعترف انني دُهشت قليلا عندما علمت اننا كنا نرنّم حقا الالحان نفسها في السجن».البقاء اقوياء روحيا في السجن
ايّ جوّ كان على الاخوة والمهتمين ان يتحملوه في السجن، وكيف بقوا اقوياء روحيا؟ يتذكر الاخ ميندوسا: «في السجن، وُزِّعت حصص صغيرة من الطعام. وفي عدة مناسبات ضُرب جميع السجناء، وأحيانا كان الحرّاس يطلقون النار حولنا ونحن منبطحون ارضا. وكان هدفهم من ذلك إبقاءنا متوترين. وعندما كان بعض السجناء يتشاجرون مع الحرّاس، كنا نُعاقَب جميعنا بإرسالنا عراة الى الفناء لتحرقنا اشعة الشمس. لكننا، نحن الشهود، انتهزنا هذه الفرص لنقوّي ونعزّي واحدنا الآخر. فكنا نتذكر آيات من الكتاب المقدس ونخبر احدنا الآخر نقاطا تعلمناها في درسنا الشخصي. وقد ساعدتنا هذه الاختبارات على البقاء موحّدين وأقوياء».
استفاد عدد كبير من الشهود والمهتمين من اوقات فراغهم الكثيرة فقرأوا الكتاب المقدس اربع او خمس مرات. واعتادوا ان يدرسوا بعناية كل المطبوعات المؤسسة على الكتاب المقدس التي تصلهم، وأن يعيدوا درسها عدة مرات. يتذكر الاخ ميندوسا الكتب السنوية التي يقدِّرها تقديرا خصوصيا. يقول: «درسنا كل الاختبارات من شتى البلدان،
ودرسنا الخرائط ايضا. وكل سنة كنا نقارن الزيادات، عدد الجماعات، عدد المعتمدين الجدد، وحضور الذِّكرى في كل بلد. وقد منحتنا هذه الامور فرحا عظيما».في ظل هذه الظروف، احرز الناشرون الجدد بسرعة معرفة جيدة لكلمة اللّٰه وللتنظيم الثيوقراطي. وصاروا ايضا مبشرين ومعلمين غيورين. على سبيل المثال، في شباط (فبراير) سنة ١٩٨٦، كان في سجن موديلو ٤٣ ناشرا يعقدون ٨٠ درسا في الكتاب المقدس. وبلغ معدل حضور الاجتماعات الاسبوعية ٨٣ شخصا.
كان كل هؤلاء السجناء المحرَّرين روحيا على وشك اختبار المزيد من الحرية، لأن الحكومة قررت ان تمنح العفو لكل السجناء السياسيين. ونتيجة لذلك، أُطلق سراح الناشرين الـ ٣٠ الباقين في سجن موديلو في ١٧ آذار (مارس) سنة ١٩٨٩. وسرعان ما رتبت جماعة ماناڠوا الشرقية ان يتصل الشيوخ بالناشرين المطلَق سراحهم حديثا، وذلك في المناطق التي انتقلوا اليها. وقد رحّب هؤلاء الشيوخ بإخوتهم الجدد، الذين صار عدد كبير منهم شيوخا، خداما مساعدين، وفاتحين.
تقييد العمل لم يوقف الكرازة
رغم الصعوبات والمخاطر، استمر عدد الناشرين في نيكاراڠوا في الازدياد بسرعة خلال الفترة التي قُيّد فيها العمل. وفي الواقع، تشكّلت في بعض المناطق جماعات مؤلفة كليا تقريبا من اشخاص جدد. وأحد الامثلة هو جماعة لا ريفورما. كان الفاتحان الخصوصيان أنطونيو ألمان وزوجته أديلا يذهبان يوميا للشهادة في المجتمعات الريفية بين ماسايا وڠرانادا. وكان لا ريفورما احد هذه المجتمعات. فهنا، درس الزوجان ألمان في اوائل سنة ١٩٧٩ مع روساليو لوپيس، شاب كانت زوجته قد ماتت منذ فترة وجيزة. كان روساليو يعيش مع عائلة زوجته. وسرعان ما اخبرهم بالامور التي يتعلمها. فتكلم اولا مع حماته، ثم بالتتابع مع كل من اخوة وأخوات زوجته مع رفقاء زواجهم. وبعد فترة قصيرة صار
فريق مؤلف من ٢٢ عضوا في العائلة يذهبون سيرا الى الاجتماعات في ماسايا مسافة ستة كيلومترات.ذات يوم قال لروساليو اقرباء زوجته: «لقد تعلمنا في الاجتماعات ان شهود يهوه يكرزون من باب الى باب، ولكننا نحن لا نفعل ذلك».
قال روساليو: «حسنا، سنذهب للكرازة يوم السبت القادم». وهذا ما فعلوه! فقد ذهب الـ ٢٢ جميعا الى باب واحد، وأخذ روساليو القيادة في التكلم! وعندما اتى أنطونيو لعقد الدرس التالي، اعلن روساليو والبسمة تعلو شفتَيه: «ذهبنا جميعا للكرازة هذا الاسبوع!». سُرّ أنطونيو بغيرة تلاميذه، ولكنه شجّع الازواج الشبان ان يجعلوا اولا حياتهم الشخصية على انسجام مع مبادئ الكتاب المقدس.
في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٩٧٩، صار روساليو وأحد أبناء حميه، أُوبير لوپيس، اول المعتمدين من هذا الفريق. بعد وقت قصير، تبعهم الآخرون الواحد تلو الآخر. وبعد ثلاث سنوات فقط، تأسست جماعة لا ريفورما، التي بدأت بـ ٣٠ ناشرا — جميعهم من العائلة نفسها! وبعد فترة، تعيّن أُوبير وأخوه رامون وروساليو شيوخا. وفي سنة ١٩٨٦، خدم ٥٤ عضوا من الجماعة كفاتحين. — انظر الاطار في الصفحات ٩٩-١٠٢.
ونتيجة للكرازة الغيورة التي قام بها اعضاء جماعة لا ريفورما، تأسست اخيرا ست جماعات اخرى في المجتمعات المحيطة. وكان الاخوة آنذاك لا يزالون مراقَبين مراقبة شديدة من السلطات، التي لم تكن مسرورة بغيرتهم. يتذكر أُوبير لوپيس: «كانت السلطات تضايقنا باستمرار، ولكنّ ذلك لم يوقفنا قط عن الكرازة». وفي الواقع، ازداد عمل الكرازة خلال تلك الفترة الصعبة. وكيف ذلك؟ خسر الكثيرون من الاخوة وظائفهم فانخرطوا في خدمة الفتح القانوني او الاضافي.
وقد بارك يهوه جهودهم. ففي سنة ١٩٨٢، كان هنالك ٤٧٧,٤ ناشرا للبشارة في نيكاراڠوا، ولكن بحلول سنة ١٩٩٠ — بعد ثماني سنوات
من القيود والاضطهاد — بلغ هذا العدد ٨٩٤,٧ ناشرا. فكانت الزيادة ٧٦ في المئة!ازالة القيود عن العمل
في شباط (فبراير) سنة ١٩٩٠، جرت انتخابات تحت مراقبة دولية وتغيرت الحكومة في نيكاراڠوا. بُعيد ذلك، رُفعت القيود عن شهود يهوه، أُلغي التجنيد العسكري الالزامي، وحُلّت لجان الدفاع. ورغم ان الاخوة بقوا حذرين، لم يعودوا يخافون من عيون الجيران الفضوليين. وفي ايلول (سبتمبر) من تلك السنة، صار إيان هانتر، الذي كان يخدم في لجنة الفرع في ڠواتيمالا، المنسِّق الجديد للجنة البلد في نيكاراڠوا.
طوال السنوات الثماني الماضية، كانت لجنة البلد تشرف على العمل في نيكاراڠوا دون ان يكون هنالك مكتب او تجهيزات مكتبية. وكم سُرّ الاخ هانتر لأنه جلب معه الآلة الكاتبة التي كان يستعملها في فرع ڠواتيمالا! وقد اعرب هوليو بندانيا، وهو اخ من نيكاراڠوا، عن لطفه بتقديم الكثير من التجهيزات المكتبية الخاصة به ليستعملها الاخوة الذين كان لديهم الكثير من العمل.
وجرى الحصول على بيت في ضواحي ماناڠوا ليكون مكتب فرع. ولكنّ الروتين العادي في بيت ايل كان غريبا على عدد من الاخوة، لأنهم اعتادوا العمل سرّا في مواقع متفرقة وفي ساعات غير نظامية. ولكنهم تجاوبوا جيدا مع التدريب وصنعوا التعديلات اللازمة. ومعظم اولئك الشبان لا يزالون يخدمون يهوه بأمانة في اوجه مختلفة من الخدمة كامل الوقت.
أُرسل ايضا اخوة من بلدان اخرى الى نيكاراڠوا للمساعدة في العمل في الفرع. وأُعيد تعيين المرسَلَين كينيث وشاران براين في نيكاراڠوا في اواخر سنة ١٩٩٠ بعد ان كانا في هندوراس. وفي كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٩١، اتى من كوستاريكا هْوان وريبيكا رييِس، متخرّجان من الصف الاول في مدرسة جلعاد الفرعية في المكسيك. وتبعهما آرنالدو
تشاڤيز، وهو ايضا متخرّج من الصف الاول في المكسيك، مع زوجته ماريّا. وبعد سنتين وصل لوتار وكارمن ميهانك من پاناما، حيث خدم لوتار في لجنة الفرع. وقد عُيّن معظمهم في الفرع الجديد، حيث ساعدوا في إعادة تأسيس العمل على القواعد التنظيمية الملائمة. واليوم تتألف عائلة بيت ايل في نيكاراڠوا من ٣٧ عضوا من شتى الجنسيات.في شباط (فبراير) سنة ١٩٩١، عُيّنت لجنة فرع لتحل محل لجنة البلد، وأعيد فتح فرع نيكاراڠوا رسميا في ١ ايار (مايو) سنة ١٩٩١. وهكذا وُضع الاساس لنمو مستقبلي. وكم كان هذا النمو هائلا! فمن سنة ١٩٩٠ حتى سنة ١٩٩٥، اعتمد ٠٢٦,٤ تلميذا جديدا — زيادة بلغت ٥١ في المئة. وقد خلقت هذه الزيادة حاجة ملحة الى اماكن ملائمة للاجتماع. ولكن كما رأينا، استولى الرعاع في سنة ١٩٨٢ على ما مجموعه ٣٥ ملكية.
المطالبة بالمِلكيات
عندما احتُلَّت قاعات الملكوت في البداية، لم يقف الاخوة مكتوفي الايدي، بل رفعوا الامر فورا الى الحكومة، مستشهدين في دفاعهم بدستور
نيكاراڠوا. ومع ذلك، رغم التزام الاخوة بكل المتطلبات القانونية، لقيت مطالبهم آذانا صماء. وفي سنة ١٩٨٥، كتب الاخوة الى رئيس نيكاراڠوا آنذاك مطالبين بالاعتراف الشرعي وباستعادة كل المِلكيات. كما انهم طلبوا عدة مرات مقابلة وزير الداخلية. ولكن كل تلك الجهود كانت عقيمة.عندما تولت الحكومة الجديدة السلطة في نيسان (ابريل) سنة ١٩٩٠، تقدّم الاخوة فورا بطلب آخر، وهذه المرة الى وزير الداخلية الجديد، مطالبين بأن يُعاد تسجيل شهود يهوه شرعيا. وكم فرحوا وشكروا يهوه عندما جرت تلبية طلبهم بعد اربعة اشهر فقط! ومنذ ذلك الوقت، تعترف حكومة نيكاراڠوا بجمعية برج المراقبة للكتاب المقدس والكراريس بوصفها جمعية ارسالية اممية وتسمح لها بالقيام بمهامها بحرية، وهي مُعفاة من الضرائب شأنها في ذلك شأن سائر المنظمات غير النفعية. ولكنّ استعادة قاعات الملكوت
لم تكن مهمة سهلة، لأن بعضها قد «أُعطي» لمؤيدي نظام الحكم السابق.رفع الاخوة الامر الى «اللجنة الوطنية لإعادة النظر في المِلكيات المصادَرة» المشكّلة حديثا، مطالبين باستعادة كل المِلكيات. وتبيّن ان هذه العملية معقّدة ومثبّطة للعزيمة. ويعود السبب جزئيا، الى الكمية الكبيرة من المطالب المماثلة التي تقدّم بها غيرهم من الاشخاص والمنظمات. بعد سنة من الجهود الكثيفة، أُعيدت مِلكية واحدة في كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٩١. كما ان الاخوة زاروا الاشخاص المحتلين قاعات الملكوت، بغية تسوية الامر. ولكنّ معظم اولئك الاشخاص شعروا ان امتلاكهم القاعات هو «ربح» شرعي من الثورة.
في وقت لاحق من تلك السنة، أُعيدت مِلكية الفرع، ولكن لزم شراء مسكن آخر للعائلة التي كانت تحتل البناء. وعلى مر السنين التالية، استعاد الاخوة تدريجيا ٣٠ من الـ ٣٥ مِلكية وحصلوا على تعويضات في شكل سندات حكومية مقابل المِلكيات التي لم يتمكنوا من استردادها.
تحمّل الكوارث الطبيعية
بالاضافة الى الزلازل المذكورة آنفا في هذا التقرير، تضررت نيكاراڠوا كثيرا نتيجة البراكين والاعاصير المدارية. فمنذ سنة ١٩١٤، ثار ١٢ مرة انشط بركان في البلد، بركان سيرّو نيڠرو، ناثرا الرماد بكثافة على مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية. إيلفريده أوربان، مرسَل خدم في ليون خلال ثوران سنتَي ١٩٦٨ و ١٩٧١، يصف ما حدث: «طوال اسبوعين انهمر على المدينة الرمل الاسود والرماد. ووجب ازالتهما عن السطوح لئلا تنهار. وكان قلق الناس مبرَّرا لأنه منذ عدة قرون دُفنت مدينة ليون القديمة بهذه الطريقة. كما نثرت الريح الرمل الدقيق في كل مكان. فوجدناه في احذيتنا، ثيابنا، اسرّتنا، طعامنا، حتى بين صفحات
كتبنا! ورغم معاناة الاخوة كل ذلك، واظبوا على حضور الاجتماعات والاشتراك في خدمة الحقل».في تشرين الاول (اكتوبر) سنة ١٩٩٨، تضررت كل اميركا الوسطى بسبب إعصار ميتش، الذي يدعوه بعض الخبراء «اعنف اعصار ضرب النصف الغربي من الكرة الارضية في القرنين الاخيرين». تقول دائرة معارف إنكارتا (بالانكليزية): «قتل إعصار ميتش ما يتراوح بين ٠٠٠,٣ و ٠٠٠,٤ شخص في نيكاراڠوا وسبّب اضرارا جسيمة في الممتلكات . . . وشكّلت الامطار الغزيرة بحيرة في فوَّهة بركان كاسيتاس، مسبّبة انزلاقا ارضيا غطى ٨٠ كيلومترا مربعا (٣٠ ميلا مربعا) ودمّر عدة قرى». وتقدّر الاحصاءات الاخيرة انه مات اكثر من ٠٠٠,٢ شخص.
كما في البلدان المتضررة الاخرى، قام شهود يهوه في نيكاراڠوا بحملة اغاثة كبيرة. وفي بعض المدن، شكّل المتطوعون الشهود فِرَقا من راكبي الدراجات ذهبوا الى مناطق يتعذر وصول السيارات اليها ليستعلموا عن الاخوة ويوصلوا اليهم الطعام والحاجيات الاخرى. وغالبا ما كانوا اول الواصلين من بين عمال الاغاثة، وذلك لبهجة اخوتهم الذين باتوا مشردين. كما أسرع الشهود في كوستاريكا وپاناما في ارسال ٧٢ طنا من الطعام واللباس. وبعد الاهتمام بالحاجات الملحّة، استمر عمال الاغاثة طوال عدة اشهر يرمِّمون قاعات الملكوت ويبنون بيوتا جديدة للاخوة.
نيكاراڠوا «الاخرى»
في سنة ١٩٨٧، شكّلت الحكومة في الجزء الشرقي من نيكاراڠوا مقاطعتين متمتعتَين بحكم ذاتي كانتا تُعرَفان سابقا باسم سيلايا. أما اليوم فهما تُدعيان «منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الشمالية» و «منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الجنوبية». وعلى الرغم من ان هاتَين المنطقتَين تشكّلان حوالي ٤٥ في المئة من مساحة اليابسة في نيكاراڠوا، يقطن فيهما حوالي ١٠ في المئة فقط من السكان.
تنتشر مناجم الذهب والفضة في هاتَين المنطقتَين، اللتين تمتدان من المنحدرات الشرقية للهضاب الوسطى الوعرة الى البحيرات الشاطئية الضحلة ومستنقعات ساحل الموسكيتو. وفي الوسط، هنالك تنوع من المناظر الطبيعية: غابة مطيرة مدارية، مراعي الساڤانا التي ينمو فيها الصنوبر والنخيل، وعدة انهر وجداول تتعرج نزولا حتى تصل الى البحر الكاريبي. وعلى مر السنين، تأسست في هذه المنطقة القرى، البلدات، والمدن الصغيرة التي يقطنها الهجناء والموسكيتو وغيرهم من الشعوب الاصليين.
بالنسبة الى اغلبية سكان هذه المنطقة من الموسكيتو، السومو، الراما، والكرييوليين، تبدو العاصمة ماناڠوا عالما آخر. وفي الواقع، لا توجد بعد طريق معبّدة تربط الشرق بالغرب. وعلى الرغم من انه يُنطَق بالاسپانية في المنطقة الواقعة على المحيط الاطلسي، كثيرون من الناس يتكلمون الموسكيتو، الكرييولية، او بعض اللغات المحلية الاخرى. والغالبية في هذه المنطقة يدينون بالپروتستانتية، وعموما الموارڤية، في حين يعتنق غالبية الساكنين في المنطقة الواقعة على المحيط الهادئ الكاثوليكية. فمن كل الاوجه تقريبا — جغرافيا، لغويا، تاريخيا، حضاريا، ودينيا — يتباين الشرق والغرب تباينا واضحا. فكيف كان الناس سيتلقون البشارة في نيكاراڠوا «الاخرى» هذه؟
رسالة الملكوت تصل الى المناطق النائية
قام المرسَلون الشهود بزيارات استكشافية للمنطقة الشرقية قديما في سنة ١٩٤٦ ووزعوا المطبوعات. وفي خمسينات الـ ١٩٠٠، زار ناظر الدائرة سيدني پورتر وزوجته فيليس المدينتَين الساحليتَين الصغيرتَين بلوفيلدز وپورتو كابيساس، جزيرتَي إيسلاس دِل ماييس، وبلدات المناجم روسيتا وبونانسا وسيونا. يروي سيدني: «في زيارة واحدة لبلدات التعدين وزّع كلّ منا اكثر من ٠٠٠,١ مجلة و ١٠٠ كتاب. فالجميع
يحبون القراءة». وسرعان ما تشكّلت فرق منعزلة في عدة بلدات. ومنذ سبعينات الـ ١٩٠٠، تحوّلت تدريجيا هذه الفرق الى جماعات.ولكنَّ انحاء اخرى من منطقتَي الحكم الذاتي بقيت غير مخدومة طوال سنوات. فكانت العزلة، قلة الطرق، والامطار المدارية الغزيرة طيلة اكثر من ثمانية اشهر في السنة من العوامل التي شكّلت عقبات رئيسية امام العمل الكرازي. ولكنها لم تكن عقبات لا تُذلَّل، كما برهن عدة فاتحين غيورين وجريئين. فنتيجة تصميمهم وعملهم الدؤوب بشكل رئيسي، توجد اليوم في منطقتَي الحكم الذاتي سبع جماعات وتسع فرق، تضم حوالي ٤٠٠ ناشرا للملكوت.
لإيضاح التحديات التي يواجهها الشهود في تلك المناطق، تأمّل في مثال اخ يبلغ ٢٢ سنة من العمر. انه يسير في الجبال حوالي ثماني ساعات ثلاث مرات في الاسبوع لحضور الاجتماعات في بلدة المناجم روسيتا، حيث تقع اقرب جماعة. وهو يخدم هناك كخادم مساعد وفاتح قانوني. ولأنه الشاهد المعتمد الوحيد في عائلته، فهو يخدم عادة وحده في هذه المنطقة الجبلية حيث غالبية البيوت يبعد احدها عن الآخر مسيرة ساعتَين تقريبا. وإذا تأخر الوقت ليلا وهو لا يزال في احد البيوت، ينام هناك ويستأنف الشهادة في المنطقة في اليوم التالي، لأنه ليس عمليا ان يذهب الى بيته لقضاء الليل. مؤخرا، مات والد هذا الاخ الحدث. ولأنه الابن الاكبر، صار هو المسؤول عن الاهتمام بعائلته. ومع ذلك، لا يزال قادرا ان يخدم كفاتح. وقد صار الآن احد اخوته الجسديين ناشرا غير معتمد ويرافقه في الخدمة.
منذ سنة ١٩٩٤، ينظّم الفرع سنويا حملات تبشيرية في هذه المنطقة الشاسعة. فيجري اختيار فاتحين خصوصيين مؤقتين من بين صفوف الفاتحين القانونيين الغيورين، ليخدموا في البلدات والقرى النائية في منطقتَي الحكم الذاتي طوال اربعة اشهر خلال الفصل الجاف. ويتحمل هؤلاء الفاتحون الشجعان الحرارة الشديدة، الارض الوعرة،
الافاعي، الحيوانات البرية، المياه الملوّثة، وخطر التقاط امراض خمجية. وهدفهم هو اعطاء شهادة شاملة، ادارة دروس في الكتاب المقدس مع الاشخاص المهتمين، وعقد اجتماعات مسيحية، بما فيها الذِّكرى. والنتائج التي يحصلون عليها تساعد ايضا مكتب الفرع على تحديد المكان حيث يجب تعيين فاتحين خصوصيين. وعلى مر السنين، ادّى هذا الترتيب الى تشكيل جماعات وفرق في بلدتَي واسپام وسان كارلوس، الواقعتَين على نهر كوكو في اقصى شمال شرق البلاد.رغم ان الهجناء الذين يتكلمون الاسپانية تدفقوا بأعداد كبيرة على منطقتَي الحكم الذاتي، يبقى الموسكيتو الاصليون اكبر فريق هناك. ويتوفر الآن بعض المطبوعات المؤسسة على الكتاب المقدس بلغة الموسكيتو، وقد تعلّم عدد من الفاتحين هذه اللغة. ونتيجة لذلك، كان لرسالة الملكوت تأثير ايجابي في كثيرين من هذا الشعب المضياف الذي يحب الكتاب المقدس.
على سبيل المثال، قرب نهر ليكوس في «منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الجنوبية» تقع كويويتينڠني، قرية للموسكيتو تضم ٤٦ بيتا، ٦ منها كانت خالية خلال حملة الفاتحين في سنة ٢٠٠١. وفي تلك
السنة، عقد الفاتحون الخصوصيون المؤقتون ٤٠ درسا في الكتاب المقدس في القرية — درسا في كل بيت! بعد شهر واحد فقط، عبّر ثلاثة تلاميذ عن رغبتهم في المعمودية، وكان أحدهم معاون القس في الكنيسة الموراڤية المحلية. كما ان اربعة اشخاص، كان كل اثنين منهم يعيشان معا دون زواج، ارادوا ان يصيروا ناشرين. فشرح لهم الفاتحون بلطف مقاييس الكتاب المقدس المتعلقة بالزواج والمعمودية. وكم فرح الفاتحون عندما اقترب منهم، قبيل موعد رحيلهم، هؤلاء الاربعة حاملين شهادتَي الزواج!منذ تلك الحملة المثمرة، يقطع الناشرون من واسپام قانونيا مسافة ١٩ كيلومترا الى كويويتينڠني لمساعدة المهتمين حديثا على الاستمرار في التقدم الروحي ولتدريبهم في الخدمة.
وقد التقى الفاتحون الخصوصيون المؤقتون الذين يكرزون في شتى قرى الموسكيتو على طول نهر كوكو فريقا كبيرا من الاميركيين الذين يقومون بأعمال اجتماعية. فوزّع لهم الفاتحون عددا من المجلات باللغة الانكليزية. وفي قرية فرانسيا سيرپي، قرب نهر واوا، كان اعضاء من الكنيسة المعمدانية يبنون مدرسة صغيرة. فقال رئيس فريق البناء لأحد الفاتحين: «انا مُعجَب بعمل شهود يهوه. فأنتم هنا لتعليم الكتاب المقدس. اتمنى لو ان ديانتي تشجّع على هذا العمل».
الحاجة الى اخوة ذوي خبرة
خلال الفترة التي قُيّد فيها العمل، حضر ٦٠ في المئة تقريبا من الشهود في نيكاراڠوا اجتماعات لا تضم اكثر من فرق عائلية صغيرة. ولم يكن لديهم سوى القليل من المطبوعات للخدمة. كانت المحافل تُعقَد على صعيد الجماعة، وكان البرنامج موجَزا. وقد حلّ عدد من الاخوة الناضجين الذين هم ايضا رؤوس عائلات محل النظار الجائلين، ولكنهم لم يتمكنوا من القيام بذلك كامل الوقت. اضافة الى ذلك، هاجر العديد من عائلات الشهود القدامى خلال تلك السنوات المضطربة.
ولذلك، عندما أُعيد تسجيل العمل شرعيا، كانت هنالك حاجة ماسة الى شيوخ وفاتحين ذوي الخبرة.وفي الواقع، كان الشيوخ انفسهم تواقين الى التدريب في الاجراءات التنظيمية. وكان الناشرون بحاجة الى التوجيه في امور مثل كيفية عرض المطبوعات في خدمة الحقل. وبغية سدّ هذه الحاجات، قررت الهيئة الحاكمة ان تعيّن في نيكاراڠوا متخرجين من مدارس تدريب الخدام التي عُقدت في السلڤادور، المكسيك، وپورتو ريكو. كان احد هؤلاء الاخوة پيدرو إنريكيس، متخرّج من الصف الاول لمدرسة تدريب الخدام في السلڤادور. وقد بدأ يخدم في العمل الدائري في نيكاراڠوا سنة ١٩٩٣. كما ‹عبر› ايضا الى مقدونية العصرية هذه احد عشر ناظر دائرة ذوو خبرة من المكسيك من اجل المساعدة. — اعمال ١٦:٩.
في السنوات التسع الاخيرة، وصل ايضا الى نيكاراڠوا ٥٨ متخرّجا من جلعاد، وعُيّنوا في ستة بيوت للمرسَلين في كل انحاء البلد. وقد ساهم نضجهم في خلق جو روحي حماسي في الجماعات، وساعدوا كثيرين من الاحداث على وضع الخدمة كامل الوقت هدفا لهم.
ان الذين اتوا الى نيكاراڠوا خلال ستينات وسبعينات الـ ١٩٠٠ ليخدموا حيث الحاجة اعظم دعوا نيكاراڠوا فردوس التبشير. ولا يزال متى ٩:٣٧، ٣٨.
هذا الامر صحيحا اليوم. يعلّق اخ في دائرة الخدمة في الفرع: «لا تزال نيكاراڠوا بلدا يحدِّد فيه الناشرون والفاتحون عدد دروس الكتاب المقدس التي سيعقدونها، لأنه يوجد اهتمام كبير». ومن الطبيعي ان يكون كثيرون من التواقين الى المساعدة حيث الحاجة اعظم والذين حسبوا النفقة قد استعلموا عن الخدمة في نيكاراڠوا. وفي الواقع، بحلول نيسان (ابريل) ٢٠٠٢، انتقل ٢٨٩ فاتحا من ١٩ بلدا الى هنا للمساعدة. فكم الشهود المحليون شاكرون على كل عمال الحصاد هؤلاء! —تجمّع مبهج على نطاق البلد
قبل وضع قيود على عملنا، عُقد آخر محفل على نطاق البلد في سنة ١٩٧٨. فتخيّل بهجة الاخوة عندما تلقوا الدعوة الى حضور محفل كوري في ماناڠوا في كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٩٩٩! شُجّع افراد العائلات على البدء بادّخار المال لتكاليف السفر والنفقات الاخرى لكي يتمكن الجميع من حضور المحفل. وكان بعض الشهود حاذقين في تجميع المال للمحفل. على سبيل المثال، بما ان الخنازير شائعة في نيكاراڠوا، ربّى البعض عددا منها ثم باعوها. ونتيجة للتخطيط الحكيم والتصميم، تمكن ٣٥٦,٢٨ شاهدا وشخصا مهتما من شتى انحاء البلد من المجيء الى مدرَّج البايسبول القومي في ماناڠوا لحضور محفل «كلمة اللّٰه النبوية» الكوري الذي بدأ في ٢٤ كانون الاول (ديسمبر).
وكم فرح المندوبون يوم السبت في المحفل برؤية ٧٨٤ شخصا يعتمدون — اكبر معمودية في تاريخ العمل في نيكاراڠوا! وكان المرسَلون الذين خدموا هناك في السابق حاضرين ورووا للحضور اختبارات مشجعة. كما كان للمحفل تأثير موحّد قوي اذ حثّ الجميع، بغضّ النظر عن اللغة او الخلفية القبلية، ان يكونوا مصممين اكثر من اي وقت مضى على التقدم في ‹اللغة النقية› للحق الروحي «ليخدموا [يهوه] كتفا الى كتف». — صفنيا ٣:٩، عج.
الدفاع عن حقنا في نيل معالجة طبية دون دم
توجد في نيكاراڠوا ثلاث لجان للاتصال بالمستشفيات، تُنسّق عملها خدمات معلومات المستشفيات في الفرع. وتساعد هذه اللجان الشهود المرضى عندما تنشأ قضية تتعلق بنقل الدم. كما انها تسعى الى اعلام الاختصاصيين والتلاميذ في الحقل الطبي بالبدائل الكثيرة لنقل الدم التي يقبلها شهود يهوه.
لهذه الغاية، قدّم اعضاء من لجان الاتصال بالمستشفيات محاضرات وعروضا سمعية بصرية امام اطباء وتلاميذ في المجال الطبي، وقد اعطى بعضهم تعليقات ايجابية جدا. وفي الواقع، يعبّر عدد متزايد
من الجرّاحين وأطباء التبنيج عن رغبتهم في التعاون مع شهود يهوه باحترام موقفهم المؤسس على الكتاب المقدس في قضية نقل الدم.مصمّمون على المضي قُدُما
يزوّد تاريخ نيكاراڠوا الثيوقراطي شهادة وافرة على انه لا الكوارث الطبيعة ولا التي من صنع الانسان تستطيع ان تمنع تقدم البشارة. نعم، لقد جعل يهوه «الصغير يصير ألفا». (اشعياء ٦٠:٢٢) فأول تقرير لخدمة الحقل في البلد قُدّم في سنة ١٩٤٣ مثّل نشاط ثلاثة ناشرين فقط؛ ولكن بعد ٤٠ سنة كانت هنالك ذروة من ٤٧٧,٤ ناشرا. وفي سنة ١٩٩٠، عندما سُمح للمرسَلين بالعودة، ارتفع العدد الى ٨٩٤,٧! واستمرت بركة يهوه في تسعينات الـ ١٩٠٠، حين تضاعف تقريبا عدد المنادين بالملكوت.
من الطبيعي ان يخلق هذا النمو السريع حاجة ماسة الى المزيد من قاعات الملكوت. ولذلك اعدّ مكتب الفرع برنامج بناء ضخما يتضمن بناء حوالي ١٢٠ قاعة ملكوت إضافية، وفرع جديد في
تيكوانتيپي، على بعد ١١ كيلومترا جنوبي ماناڠوا. ويُتوقّع ان ينتهي بناء الفرع في نيسان (ابريل) ٢٠٠٣.في السنوات الاخيرة احرزت نيكاراڠوا بعض التقدم الاقتصادي، وخصوصا في مدينة ماناڠوا التي شهدت نموا سريعا في فرص العمل، التعليم، والتسلية. وتشهد المدينة الآن حركة إعمار مستمرة، وقد اصبحت تزخر بالمعالم العصرية من مطاعم، محطات وقود، ومراكز تسوّق مليئة بالسلع الاستهلاكية وشتى السمات الاخرى التي تميِّز المجتمع الغربي.
ان هذا المحيط بمغرياته العديدة يشكّل تحدّيات جديدة للمسيحيين. ذكر احد الشيوخ القدامى: «الامور تتغير بسرعة. فالحالة شبيهة بوضع طبق من الحلوى امام ولد صغير لم يأكل في حياته سوى الارزّ والفاصولياء والقول له: ‹حذار! لا تأكل كثيرا›. نعم، نحن نعلم كيف نخدم يهوه تحت الشدائد، ولكن الآن العدو ماكر. ويصعب مقاومة هذا الوضع اكثر».
مع ذلك، فإن الولاء، الغيرة، والشجاعة التي اعرب عنها شعب يهوه خلال سنوات تقييد العمل تستمر في انتاج ثمر جيد. فكثيرون من الاولاد الذين تربوا في تلك الفترة يخدمون الآن كشيوخ، فاتحين، ومتطوعّين في بيت ايل. ويوجد في نيكاراڠوا الآن ١٧ دائرة مؤلفة من ٢٩٥ جماعة و ٣١ فريقا منعزلا. كما اظهر تقرير آب (اغسطس) ٢٠٠٢ وجود ذروة جديدة من ٦٧٦,١٦ ناشرا، وبلغ حضور الذِّكرى في هذه السنة ٧٥١,٦٦ شخصا!
لذلك، نصلّي ان يأتي المزيد من الناس في هذا البلد المتنوع الى معرفة يهوه قبل ان تنتهي ‹سنته المقبولة›. (اشعياء ٦١:٢) نعم، فليستمر ابونا السماوي في توسيع حدود فردوسنا الروحي الى ان تمتلئ الارض بكاملها «من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر». — اشعياء ١١:٩.
[الاطار في الصفحة ٧٢]
لمحة عن نيكاراڠوا
اليابسة: نيكاراڠوا هي اكبر بلد في اميركا الوسطى. تقسمها الجبال الوسطى الى قسمين. القسم الغربي هو منطقة بحيرات عذبة المياه. اما المنطقة الشرقية الاقل خصبا فتتألف بمعظمها من غابة مطيرة وسهول. يوجد في نيكاراڠوا حوالي ٤٠ بركانا، والبعض منها ناشط.
الشعب: معظمه من الهجناء الذين يتكلمون الاسپانية، اشخاص من نسب اميركي هندي وأوروپي مختلط. على الساحل الغربي يعيش عدد قليل من هنود المونيمبو والسوبتيابا، اما في المنطقة الشرقية فيعيش هنود الموسكيتو، السومو، والراما، بالاضافة الى الكرييوليّين والكاريبيين الافريقيين. الديانة الرئيسية هي الكثلكة الرومانية.
اللغة: اللغة الرسمية هي الاسپانية. ويجري التكلم ايضا بلغات محلية.
سُبُل العيش: الزراعة هي عماد الاقتصاد في نيكاراڠوا.
الطعام: المحاصيل الرئيسية المستهلَكة محليا هي الارزّ، الذرة، الفاصولياء، نبات لسان الحَمَل، المنيهوت، وشتى الفواكه. وتشمل المستورَدات البن، السكر، الموز، ثمار البحر، ولحم البقر.
المناخ: مناخ نيكاراڠوا مداري. تتفاوت الامطار بين ١٩٠ سنتيمترا و ٣٨٠ سنتيمترا، وفقا للمنطقة. يبلغ معدل الحرارة على السواحل حوالي ٢٦ درجة مئوية، اما في الهضاب فالحرارة ابرد قليلا.
[الاطار/الصورة في الصفحات ٩٩-١٠٢]
فترة احتجاز قصيرة عند الشرطة السرية
أُوبير وتيلما لوپيس
لمحة عن حياتهما: لهما ثلاثة اولاد راشدين. يخدم أُوبير كشيخ في الجماعة المحلية.
في ظل الحكومة الثورية، غالبا ما كان سلك امن الدولة يوقف الخدام المساعدين والشيوخ ويحتجزهم للاستجواب فترة تتراوح بين يوم واحد وعدة اسابيع. وبسبب حياد شهود يهوه المؤسس على الكتاب المقدس، اتُّهموا بتحريض الشعب ان يتمردوا على الحكومة، ولكنّ هذا الاتّهام لم يوجَّه اليهم رسميا. كما اراد المحقِّقون اسماء «معلِّمينا» و «قادتنا».
كان أُوبير لوپيس، الذي هو الآن شيخ وأب لثلاثة اولاد راشدين، احد الاخوة العديدين الذين مرّوا بهذا الاختبار. ففي كانون الاول (ديسمبر) سنة ١٩٨٥، أُوقف الاخ لوپيس في بيته في لا ريفورما، مجتمع ريفي على بُعد حوالي ٤٠ كيلومترا جنوبي شرقي ماناڠوا. تروي زوجته تيلما عن معاناتهم في ذلك اليوم:
«في الساعة ٠٠:٤ بعد الظهر، توقفت سيارتا جيپ امام
منزلنا: واحدة فيها عناصر من سلك امن الدولة، والاخرى فيها جنود ترجلوا منها وطوّقوا البيت. وعندما قلت لهم ان زوجي ليس موجودا، امروني انا والاولاد ان نخرج من البيت، قائلين انهم سيفتشونه. إلا ان ابننا الاكبر إلمير، الذي كان في العاشرة من عمره، بقي في البيت وراقبهم وهم يفرغون المكتبة من الكتب غير الدينية والثيوقراطية على السواء. وكان زوجي قد خبأ بين تلك الكتب بعض سجلات الجماعة. عندما اخذوا الكتب الى سيارتَي الجيپ، صرخ إلمير: ‹سيدي، هل ستأخذ كتبي المدرسية ايضا؟›. اجاب احد الجنود بفظاظة: ‹خذها›. وبهذه الطريقة، تمكن ابننا من انقاذ كتبه مع سجلات الجماعة.«في ذلك المساء، عاد الجنود ونحن نتعشى. وفيما هم يصوّبون الينا بنادقهم، اخذوا زوجي امام انظار الاولاد الذين كانوا يبكون. ولكنهم لم يقولوا لنا لماذا او الى اين يأخذونه».
يروي الاخ لوپيس واصفا ما حدث لاحقا: «أُخذت الى سجن ماسايا ووُضعت في زنزانة مع شتى المجرمين. فور وصولي، عرّفت بنفسي اني واحد من شهود يهوه وشهدت لهم عدة ساعات. في منتصف الليل، أُمرت تحت تهديد السلاح ان اخرج من الزنزانة وأصعد الى سيارة جيپ منتظرة في الظلام في الخارج. أُمرت ان أُبقي رأسي منخفضا، ولكن عندما صعدت الى الجيپ رأيت اربعة اشخاص في الجيپ خافضين رؤوسهم. لقد كانوا خداما مساعدين وشيوخا من منطقة ماسايا تمّ اعتقالهم في الليلة نفسها.
«في تلك الليلة، هدّدوا بقتلنا مرتين: اولا في حقل للبُنّ ثم في منطقة في المدينة، حيث جعلونا نصطف امام الحائط. في كلتا الحالتين بدا انهم ينتظرون منا ان نقول شيئا ما، ولكن لم يتلفظ اي منا بشيء. اخيرا، اخذونا الى السجن في هينوتيپي ووضعونا في زنزانات منفصلة مدة ثلاثة ايام.
«لم يُسمَح لنا ان ننام اكثر من بضع ساعات. وكانت زنزاناتنا مظلمة، فلم نكن نعرف الليل من النهار. كما استُدعينا تكرارا الى غرفة الاستجواب وسُئلنا عن نشاطاتنا الكرازية، الاجتماعات، وأسماء ‹قادتنا›. حتى ان احد المحقّقين هدّد باعتقال والديّ وإجبارهما على البوح بالمعلومات. وقد سمعت فعلا اصوات والديّ، زوجتي، وأعضاء آخرين من العائلة وأنا في زنزانتي. ولكنّ ما سمعته كان تسجيلا من المفترض ان يخدعني لأصدّق ان اعضاء عائلتي أُحضروا للاستجواب.
«في اليوم الرابع، يوم الخميس، قيل لي انه سيُطلق سراحي شرط ان اوقّع اولا بيانا أعلن فيه انني سأتوقف عن الكرازة بديني. وقيل لي ايضا ان رفقائي الشهود قد وقّعوا — ولكنّ ذلك كان بالطبع عاريا عن الصحة. قال لي المحقّقون: ‹اذا رفضت ان توقّع فسنُعيدك الى السجن حيث ستبلى›.
«اجبت: ‹اذًا، من فضلكم لا تُطلقوا سراحي، اتركوني هنا›.
«‹لماذا تقول هذا؟›
«‹لأنني واحد من شهود يهوه، وهذا يعني انني مبشّر›.
«لدهشتي، أُطلق سراحنا نحن الخمسة في اليوم نفسه. نعم، لقد استجاب يهوه صلواتنا وقوّانا بحيث حافظنا على اعصاب هادئة ولم نخُن اخوتنا. ولكن بعد هذه الحادثة، صرنا تحت مراقبة مستمرة».
[الاطار/الصورة في الصفحتين ١٠٥، ١٠٦]
أُقحمتُ في ساحة المعارك
جيوڤاني ڠايتان
تاريخ المعمودية: سنة ١٩٨٧
لمحة عن حياته: أُوقف قبل بضعة اسابيع من معموديته، وأُجبر على مرافقة «كتائب الحرب غير النظامية» مدة ٢٨ شهرا. خدم كفاتح طوال اكثر من ثماني سنوات.
أُجبر بعض الاخوة الشباب على مرافقة «كتائب الحرب غير النظامية» المحارِبة في اعماق الادغال في الجبال.
كان احد هؤلاء الشباب جيوڤاني ڠايتان. فعندما كان لا يزال ناشرا غير معتمد، قضى ٢٨ شهرا مع «كتائب الحرب غير النظامية». وقد أُوقف قبل بضعة اسابيع من معموديته. يروي جيوڤاني: «بدأت محني بعد المعركة الاولى. فقد امرني احد الضباط ان اغسل بدلة ملطخة بالدماء لجندي ميت. ولكنني رفضت، اذ فكرت ان ذلك قد يكون اول حلقة في سلسلة من الاحداث تؤدي الى المسايرة في حيادي المسيحي. فغضب الضابط وصفعني بقوة على خدي. ثم شهر مسدسه، ألصقه برأسي، وضغط على الزناد. ولكنّ الرصاصة لم تنطلق. فضربني بالمسدس على وجهي وهدّد بقتلي اذا خالفت اوامره مرة اخرى.
«على مر الاشهر الـ ١٨ التالية، جعل هذا الشخص حياتي شقية جدا. فعدة مرات، امر بأن تُربَط يداي كامل النهار، بحيث لا استطيع ان آكل. وغالبا ما أُجبرت، وأنا في هذه الحالة، على السير في الادغال في مقدّمة الفريق. وقد رُبطت الى ظهري بندقية وقنابل يدوية، فكنت اول وأسهل هدف للاعداء! وكان يضربني ويهدّد بقتلي، وخصوصا في خضم المعارك عندما كان الآخرون يموتون حولي وأنا ارفض ان ألتقط بنادقهم. ومع ذلك، لم اكرهه. ولم يبدُ عليّ الخوف، لأن يهوه منحني الشجاعة.
«ذات صباح في آذار (مارس) سنة ١٩٨٥، أُنزلنا انا وبعض الاخوة الآخرين من الجبال الى منطقة قرب مولوكوكو، على بُعد ٣٠٠ كيلومتر تقريبا شمالي شرقي ماناڠوا. وهناك سُمح لعائلاتنا بأن تزورنا. وفيما كنت آكل وأتحدث مع اعضاء عائلتي، لاحظت ان هذا الضابط جالس وحده. فأخذت له طبق طعام. عندما انتهى من الاكل، استدعاني. فتهيّأت لحدوث اسوإ الامور، ولكنني فوجئت عندما اعتذر عن الطريقة التي عاملني بها. حتى انه سألني عن معتقداتي. كانت تلك آخر مرة رأيته فيها؛ فقد مات بُعيد ذلك في حادث اصطدام شاحنة عسكرية».
[الاطار/الصور في الصفحات ١١٦-١١٨]
قصة عضوين في لجنة البلد
خلال الفترة التي وُضعت فيها قيود على نشاطاتنا، صار العمل في نيكاراڠوا تحت اشراف فرع كوستاريكا. وعُيّنت في نيكاراڠوا لجنة للبلد لتتولى الإشراف المحلي. كان اثنان من الاخوة الذين خدموا في لجنة البلد ألفونسو هويا وأڠوستين سيكيرا. وهما يرويان قصتهما خلال فترة الامتحان تلك.
ألفونسو هويا: «كنت اخدم كشيخ في ماناڠوا عندما دُعيت الى الخدمة في لجنة البلد في سنة ١٩٨٥. اما عملي الدنيوي فكان ادارة اكبر فرع لمصرف مشهور. وقد مكّنتني معرفتي للأعمال المصرفية من مساعدة الاخوة ان يستفيدوا قدر الامكان من اموال هيئة يهوه في وقت انخفضت فيه بسرعة قيمة العملة في نيكاراڠوا، مما جعل الوضع الاقتصادي يتدهور. فالحذاء العادي، الذي كان يكلف حوالي ٢٥٠ كوردوبة، سرعان ما صار يُباع بمليونَي كوردوبة!
«خلال هذا الوضع الاقتصادي الحرج، عانى البلد ايضا نقصا في المحروقات، مما صعّب على الاخوة إيصال المطبوعات الى الجماعات البعيدة. وقد ساعدنا يهوه عندما اتاح لي الفرصة لتأمين المحروقات للاخوة.
«لم تعرف عائلتي انني عضو في لجنة البلد. كنت آنذاك في الـ ٣٥ من العمر، عمر يؤهل الشخص للانضمام الى قوات
الاحتياط. لذلك حاولت القوات المسلحة اجباري على ذلك اربع مرات. وكانت احدى هذه المرات في بيتي. وما زلت اتذكر هذه الحادثة جيدا، لأن زوجتي وأولادي الثلاثة الصغار كانوا بجانبي وأنا احدّق الى ماسورة البندقية. ومن المستغرب انني لم اخسر وظيفتي قط في المصرف».أڠوستين سيكيرا: «كنت اخدم كفاتح خصوصي في بلدة صغيرة في بوآكو عندما رُحّل المرسَلون في سنة ١٩٨٢. لاحقا، نلت امتياز تعييني في لجنة البلد. لم يعرف الاخوة في جماعتي شيئا عن هذا التعيين. فكنت انهض باكرا جدا في الساعة الرابعة صباحا، اقوم بعملي المكتبي، ثم اشترك في خدمة الحقل مع الجماعة.
«استخدم كل اعضاء لجنة البلد اسماء مستعارة عند إتمام المسؤوليات، واتفقنا الّا نعطي واحدنا الآخر تفاصيل عن عملنا. وقد خدم ذلك كحماية في حال اعتُقل احد منا. لم نعمل في مكتب، بل في بيوت مختلفة. ولأن الحقيبة قد تثير الفضول، كنت احيانا اضع الاوراق المكتبية في كيس وأضع فوقها بعض البصلات بحيث تكون اوراقها ظاهرة. كدت أُمسَك بضع مرات، ولكنني لم أُعتقَل قط.
«زارنا اعضاء من لجنة فرع كوستاريكا عدة مرات لمنحنا التشجيع والارشاد. وكان الحدث الابرز والاكثر تشجيعا بالنسبة الي تدشين فرع كوستاريكا في كانون الثاني (يناير) سنة ١٩٨٧، لأنه في تلك المناسبة فرحنا انا وعضو آخر من لجنة البلد بلقاء عضوين من الهيئة الحاكمة».
قُبيل ارسال هذا التقرير الى المطبعة، مات الاخ سيكيرا بسلام. كان في الـ ٨٦ من العمر وخدم كامل الوقت طوال اكثر من ٢٢ سنة. وكان عضوا في لجنة الفرع في نيكاراڠوا.
[الاطار/الصور في الصفحتين ١٢٢، ١٢٣]
وجدنا الحرية الحقيقية في السجن
بين سنة ١٩٧٩ وسنة ١٩٨٩، امتلأ سجن موديلو بسجناء عسكريين وسياسيين منتمين الى الحكومة السابقة. وقد اخترقت رسالة الملكوت هذه الجدران، ملأت قلوب وأذهان المستقيمي القلوب، ونمّت فيهم شخصية شبيهة بشخصية المسيح. (كولوسي ٣:٥-١٠) وهذه هي بعض التعليقات من سجناء سابقين.
هوسّيه دي لا كروس لوپيس: «عندما كنت مسجونا، كنت ساخطا وبلا رجاء او مستقبل. ثم التقيت سجناء آخرين كانوا قد صاروا من شهود يهوه. تأثرت بشرحهم للكتاب المقدس وبسلوكهم الجيد. وأخيرا تمكنت من نيل الاكتفاء الروحي والرجاء. وفكّرت: اذا كنت مستعدا للتضحية بحياتي من اجل حكومة بشرية لا تستطيع تقديم رجاء حقيقي، فكم بالاحرى يجب ان اكون وليّا للذي ضحّى بابنه من اجلي؟! بعد اطلاق سراحي، درستْ ايضا الحق زوجتي وبناتي وثلاثة اعضاء آخرين في العائلة. حقا، لا استطيع ان اردّ ليهوه مقابل كل ما فعله من اجلي».
يخدم الاخ لوپيس كشيخ في ماناڠوا.
أومَر أنطونيو إسپينوسا: «عندما كنت في الـ ١٨ من العمر، حُكم عليّ بالسجن ٣٠ سنة. قضيت منها ١٠ سنوات في السجن قبل ان انال العفو. مع اني متأسف اني خسرت يشوع ٢٤:١٥».
حريتي، فقد تعرّفت بيهوه ووجدت الحرية الحقيقية في السجن. في السابق، كانت احيا حياة فاسدة ادبيا، ولكنني الآن تغيرت تغيرا جذريا. انا شاكر ليهوه ان كأسي ريّا بمعنى روحي. وتصميمي هو كتصميم يشوع: ‹انا وبيتي نعبد الرب›. —يخدم الاخ إسپينوسا كشيخ في مدينة ريڤاس.
اناستازيو رامون ميندوسا: «بعد بضعة اشهر من سجني، بدأت اقرأ الكتاب المقدس وحدي. ثم ابتدأ احد رفقائي السجناء، وهو واحد من شهود يهوه، يدرسه معي. وسرعان ما صرت مقتنعا انني وجدت الحق. ومع ذلك، اجّلت المعمودية لأنني كنت اضمر الغضب والضغينة للذين اعتقلوني — موقف عقلي كنت اعرف انه لا يرضي يهوه.
«صلّيت بحرارة من اجل الغفران والمساعدة لكي اتغلب على موقفي المؤذي. وقد سمع يهوه تضرعاتي، لأنه علّمني بصبر ان ابغض المواقف والاعمال السيئة، وليس الاشخاص. اعتمدت في سنة ١٩٨٢. ومنذ اطلاق سراحي في سنة ١٩٨٩، درست الكتاب المقدس مع عدة عسكريين سابقين وغيرهم ممن كانوا في وضع مماثل لوضعي. والبعض منهم هم الآن اخوتي الروحيون».
يخدم الاخ ميندوسا كخادم مساعد في ماناڠوا.
[الاطار/الصورة في الصفحات ١٤١-١٤٥]
صلوات قسيس تُستجاب
تيوذوسيو ڠورديان
تاريخ المعمودية: سنة ١٩٨٦
لمحة عن حياته: يخدم الاخ ڠورديان حاليا كشيخ في جماعة وامبلان.
في سنة ١٩٨٦، فيما كانت الحرب محتدمة بين الساندينيين والكونتراس، قام ناشران من الجماعة الصغيرة في سان خوان دل ريو كوكو باجتياز مسافة ١٠٠ كيلومتر نحو الشمال الى وامبلان، بلدة تقع في الهضاب الوسطى في منطقة من التلال الجدباء تقريبا قرب حدود هندوراس. كان الفريق الصغير من الشهود الذين عاشوا هناك قد تركوا وامبلان منذ سنتين بسبب القتال. وكان الاخَوان يبحثان عن رجل اسمه تيوذوسيو ڠورديان. يشرح تيوذوسيو السبب كما يلي:
«كنت قسّا في كنيسة انجيلية في وامبلان. وكانت كنسيتنا تابعة للجمعية الوطنية لقسوس نيكاراڠوا، هيئة قسوس مؤلفة من كل الاديان الپروتستانتية في ماناڠوا. بُعيد استيلاء الثوار الساندينيين على السلطة، وقّعت هذه الجمعية اتفاقا تؤيد فيه اشتراك القسوس وأعضاء الكنائس في لجان الدفاع الساندينية المنظمات الساندينية الاخرى، بما فيها الجيش. ولكنّ ذلك
ازعجني، لأنني تساءلت: ‹كيف يمكن لخادم اللّٰه ان يحمل السلاح؟›.«بعد ذلك حصلت على كتاب السلام والامن الحقيقيان — من ايّ مصدر؟ من عائلة من الشهود كانت تعيش آنذاك في وامبلان. وقد قرأت فيه حتى وقت متأخر من الليل. وبدأت ايضا اقرأ مجلتَي برج المراقبة و استيقظ! قانونيا. وهكذا حصلت اخيرا على طعام روحي حقيقي. حتى انني استخدمت المعلومات في العظات التي اقدمها. وعندما لُفت نظر الرسميين الكنسيين الى الامر، استدعوني الى المكاتب الرئيسية في ماناڠوا.
«كان الرسميون يظنون انني أُضَلّ بسبب قلة معرفتي كقسّ، فعرضوا عليّ منحة دراسية مدتها ثمانية اشهر لأدرس في ماناڠوا. ولكنني كنت قد تعلمت من مطبوعات الشهود امورا مؤسسة جيدا على الكتاب المقدس. لذلك سألت رسميي الكنيسة عدة اسئلة، مثل: ‹لماذا لا نبشّر من بيت الى بيت مثلما فعل المسيحيون الاولون؟ ولماذا نطلب العشور في حين ان الرسل لم يفعلوا ذلك؟›. فلم يعطوني اجوبة مقنعة عن اسئلتي. وسرعان ما صاروا يعتبرونني من الشهود.
«بعد ذلك، قطعت علاقتي بالكنيسة وذهبت لأبحث عن شهود يهوه في ماناڠوا. ولكنَّ الشهود كانوا لا يزالون يجتمعون سرّا سنة ١٩٨٤. لذلك بعد اسبوعين من البحث العقيم، عدت الى وامبلان وبدأت ازرع الذرة والفاصولياء في قطعة ارض صغيرة لإعالة عائلتي.
«وزَّع الشهود الذين عاشوا في وامبلان الكثير من
مطبوعاتهم قبل ان يغادروا المنطقة. فكنت اسأل حينما اجد هذه المطبوعات في البيوت التي ازورها: ‹هل تقرأون هذا الكتاب؟ هل استطيع شراءه منكم؟›. وكان معظم الناس يعطونني اياه. وهكذا بمرور الوقت، صارت عندي مكتبة ثيوقراطية صغيرة.«مع انني لم اعرّف بنفسي جهرا انني شاهد، فقد بدأ الناس في وامبلان ايضا يعتبرونني من الشهود. ولذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى استجوبني عناصر امن الدولة بشأن نشاطاتي. وقد سمحوا لي بالكرازة في القرى المجاورة شرط ان اجلب لهم معلومات مثل اسماء الذين يؤيدون الكونتراس. فأجبتهم: ‹ان فعْل ما تطلبونه مني هو خيانة لإلهي. وهذا ما لا يمكنني فعله. فيهوه يتطلب تعبدا مطلقا›.
«في مناسبة اخرى، طلب مني ضابط في الجيش ان اوقّع وثيقة تأييد للساندينيين. وعندما رفضت، شهر مسدسا وهددني قائلا: ‹ألا تعلم انه بإمكاننا القضاء على الطفيليين الذين لا يخدمون الثورة؟›. ولكن بدلا من ان يطلق النار عليّ، منحني فرصة لأعيد التفكير. في تلك الليلة، ودّعت زوجتي وقلت لها: ‹حتى لو وقّعت تلك الورقة فسأموت على كل حال. ولكن انْ متُّ دون ان اوقّعها، فقد يتذكرني يهوه في القيامة. اعتني بالاولاد، وثقي بيهوه. فإنه سيساعدنا›. في الصباح التالي قلت للضابط: ‹هأنذا، افعل بي ما يحلو لك، ولكنني لن اوقّع›. فأومأ الضابط برأسه وقال: ‹تهانيّ. علمت انك ستجيب هكذا. فأنا اعرف من هم شهود يهوه›. ثم تركني ارحل.
«بعد ذلك، صرت اكرز بطريقة علنية اكثر، مسافرا الى العديد من القرى البعيدة وداعيا المهتمين الى ان نجتمع معا. من بين اوائل الذين تجاوبوا زوجان كبيران في السن؛ ثم تبعتهما عائلات اخرى. وسرعان ما صرنا ٣٠ شخصا نجتمع قانونيا. كنت استعمل الاعداد القديمة من برج المراقبة، وأعرض المواد في شكل محاضرة بما اننا لم نكن نملك سوى نسخة واحدة. كما اني درست الكتاب المقدس مع بعض الجنود، ولاحقا صار احدهم من الشهود.
«في سنة ١٩٨٥، اخبرني جندي مارّ بالمنطقة عن جماعة لشهود يهوه في هينوتيڠا، على بُعد حوالي ١١٠ كيلومترات جنوبي وامبلان. فطلبت من تلميذ للكتاب المقدس من وامبلان ان يرافقني الى هناك. وبعد الاستعلام في السوق في هينوتيڠا، وجدنا اخيرا بيت عائلة من الشهود. وعندما فتحت الزوجة الباب، عرّفناها بأنفسنا اننا من شهود يهوه. فسألتنا إن كنا اتينا لحضور الذِّكرى. وحين سألناها: ‹ما هي الذِّكرى›، نادت زوجها الذي دعانا الى الدخول بعدما اقتنع بصدقنا. للأسف، كانت الذِّكرى قد عُقدت في المساء السابق. ولكننا مكثنا في بيتهما ثلاثة ايام وحضرنا لأول مرة درس الكتاب الجَماعي.
«بعدما عدنا الى وامبلان، استمررت اكرز وأدير الاجتماعات وحدي. ثم قبل يوم من عقد الذِّكرى سنة ١٩٨٦، وصل الاخَوان المذكوران في البداية. بسرعة قام فريقنا الصغير من تلاميذ الكتاب المقدس بإيصال الخبر الى جميع المهتمين في القرى المجاورة، وحضر ٨٥ شخصا الذِّكرى الاولى التي عقدناها.
«اعتمدت في تشرين الاول (اكتوبر) من تلك السنة، مع اول تلميذَين درست معهما الكتاب المقدس — الزوجَين المتقدمين في السن اللذين ذكرتهما آنفا، وكانا آنذاك في ثمانيناتهما. واليوم، تتألف جماعة وامبلان من ٧٤ ناشرا و ٣ فاتحين قانونيين. ولديّ الامتياز ان اخدم كواحد من الشيوخ. في سنة ٢٠٠١، عقدنا الذِّكرى في ثلاث قرى اخرى بالاضافة الى وامبلان، وكان مجموع عدد الحضور ٤٥٢ شخصا.»
[الجدول/الرسم البياني في الصفحتين ٨٠، ٨١]
نيكاراڠوا — الاحداث البارزة
١٩٢٥
١٩٣٤: تزور البلد اخت فاتحة وتوزع مطبوعات.
١٩٣٧: بدء نظام حكم سوموزا.
١٩٤٥: وصول المتخرّجين الاوائل من جلعاد.
١٩٤٦: ن. ه. نور و ف. و. فرانز يزوران ماناڠوا. تأسيس الفرع.
١٩٥٠
١٩٥٢: بتحريض من رجال الدين الكاثوليك، يُفرَض الحظر.
١٩٥٣: ترفع محكمة العدل العليا الحظر.
١٩٧٢: يدمّر زلزال ماناڠوا.
١٩٧٤: يُكمَل بناء مكتب فرع جديد وبيت للمرسَلين.
١٩٧٥
١٩٧٩: ينتصر الثوار الساندينيون على نظام حكم سوموزا. ويموت ٠٠٠,٥٠ شخص في الثورة.
١٩٨١: تعليق الوضع الشرعي لشهود يهوه.
١٩٩٠: يستعيد شهود يهوه الاعتراف الشرعي بهم.
١٩٩٤: يُعيَّن مئة فاتح خصوصي وقتي. يتبع ذلك حملات مماثلة.
١٩٩٨: اعصار ميتش يضرب اميركا الوسطى بعنف، قاتلا ٠٠٠,٤ شخص في نيكاراڠوا.
٢٠٠٠
٢٠٠٢: ٦٧٦,١٦ ناشرا هم نشاطى في نيكاراڠوا.
[الرسم البياني]
(انظر المطبوعة)
مجموع عدد الناشرين
مجموع عدد الفاتحين
٠٠٠,٢٠
٠٠٠,١٥
٠٠٠,١٠
٠٠٠,٥
١٩٥٠ ١٩٧٥ ٢٠٠٠
[الخرائط في الصفحة ٧٣]
(اطلب النص في شكله المنسق في المطبوعة)
هندوراس
نيكاراڠوا
ماتاڠالپا
ليون
ماناڠوا
ماسايا
هينوتيپي
ڠرانادا
برزخ ريڤاس
جزيرة اوميتيپي
بحيرة نيكاراڠوا
نهر سان خوان
بلوفيلدز
كوستاريكا
[صورة تغطي كامل الصفحة ٦٦]
[الصورة في الصفحة ٧٠]
في الاعلى: فرنسيس (الى اليسار) ووليَم والاس وأختهما جاين
[الصورة في الصفحة ٧٠]
في الاسفل (الصف الخلفي، من الاعلى الى الاسفل): ويلبرت جايزلمان، هارولد دانكن، وفرنسيس والاس؛ (الصف الامامي، من الاعلى الى الاسفل): بلانش كايسي، يوجين كول، آن جايزلمان، جاين والاس، وإيڤلين دانكن
[الصورتان في الصفحة ٧١]
الى الاعلى: أديلينا وأرنولدو كاسترو
الى اليسار: دورا وإيباريستو سانشيس
[الصورة في الصفحة ٧٦]
دوريس نيهوف
[الصورة في الصفحة ٧٦]
سيدني وفيليس پورتر
[الصورة في الصفحة ٧٩]
أڠوستين سيكيرا كان اول ناشر في ماتاڠالپا
[الصورة في الصفحة ٨٢]
ماريّا إلسا
[الصورة في الصفحة ٨٢]
هيلبرتو سوليس وزوجته ماريّا سيسيليا
[الصورتان في الصفحة ٨٧]
زلزال ١٩٧٢ دمّر ماناڠوا
[الصورة في الصفحة ٩٠]
اندرو وميريام ريد
[الصورة في الصفحة ٩٠]
روبي وكيڤن بلوك
[الصورة في الصفحة ٩٢]
استُخدمت مزرعة لعقد محفل «ولاء الملكوت» الكوري
[الصورتان في الصفحة ٩٥]
المرسَلون الذين رُحّلوا من نيكاراڠوا في سنة ١٩٨٢
[الصورة في الصفحة ١٠٩]
الاخوة الذين طبعوا المطبوعات وقت الحظر، مع آلات النسخ التي استعملوها: الديك، الدجاجة، والصوص
[الصورة في الصفحة ١١٠]
أعدّت إلدا سانشيس اوراق الستانسِل بشجاعة
[الصورة في الصفحة ١١٥]
اعدّت هؤلاء الاخوات الطعام واهتممن بالحراسة فيما قام الاخوة بعمل الطباعة
[الصورة في الصفحة ١٢٦]
الصف الامامي: بعض الاخوة الذين تعلموا الحق في السجن، من اليسار الى اليمين: ه. لوپيس، أ. ميندوسا، و أُ. إسپينوسا؛ الصف الخلفي: كارلوس أيالا وهوليو نونييس، شيخان زارا السجن لمساعدة الاخوة روحيا
[الصورة في الصفحة ١٣٣]
بعد رفع القيود عن شهود يهوه، استُخدِم هذا البيت كمكتب فرع
[الصورة في الصفحة ١٣٤]
بعد إعصار ميتش، استخدم بعض المتطوعين دراجات لإيصال الطعام والحاجيات الاخرى. وعمل آخرون في إعادة بناء قاعات الملكوت والبيوت
[الصورة في الصفحة ١٣٩]
مجتمع باناكروس في منطقة الحكم الذاتي الاطلسية الشمالية، حيث يُكرَز بالبشارة رغم الصعوبات
[الصورة في الصفحة ١٤٧]
حضر ٣٥٦,٢٨ شخصا محفل «كلمة اللّٰه النبوية» الكوري لسنة ١٩٩٩، اول محفل على نطاق البلد يُعقد منذ سنة ١٩٧٨
[الصورة في الصفحة ١٤٧]
شاهد المندوبون معمودية ٧٨٤ شخصا — اكبر معمودية في تاريخ نيكاراڠوا
[الصورة في الصفحة ١٤٨]
لجنة الفرع في اوائل سنة ٢٠٠٢، من اليسار الى اليمين: إيان هانتر، أڠوستين سيكيرا، لويس ڠونساليس، ولوتار ميهانك