قصة حياة
أخيرًا، صار لحياتي معنى!
في يَومٍ مِنَ الأيَّام، كُنتُ في مَركَبي القَديم في البَحْرِ الأبْيَضِ المُتَوَسِّط. فاكتَشَفتُ فَجأةً أنَّ الماءَ يتَسَرَّبُ إليه بِكَثرَةٍ. وفيما كُنتُ أُفَكِّرُ كَيفَ أحُلُّ هذِهِ المُشكِلَة، هبَّت عاصِفَةٌ قَوِيَّة وصارَ الوَضعُ أسوَأ. فصلَّيتُ إلى اللّٰهِ مِن شِدَّةِ خَوفي. هذِه كانَت أوَّلَ مَرَّةٍ أُصَلِّي فيها مِن عِدَّةِ سَنَوات. ولكنْ كَيفَ وصَلتُ إلى هُنا؟ سأُخبِرُكُم قِصَّتي مِنَ البِدايَة.
وُلِدتُ في هُولَنْدَا سَنَةَ ١٩٤٨. وبَعدَ سَنَة، هاجَرَت عائِلَتي إلى سَان بَاوْلُو في البَرَازِيل. كانَ والِدايَ يذهَبانِ دائِمًا إلى الكَنيسَة. وكُنَّا كُلَّ يَومٍ نقرَأُ الكِتابَ المُقَدَّسَ مَعًا بَعدَ العَشاء. وسَنَةَ ١٩٥٩، هاجَرنا إلى الوِلَايَاتِ المُتَّحِدَة، وعِشنا في مَاسَاتْشُوسِتْس.
تألَّفَت عائِلَتُنا مِن ٨ أشخاص، ولزِمَ أن يعمَلَ أبي بِاجتِهادٍ كَي يُؤَمِّنَ حاجاتِنا. وقد عمِلَ في عِدَّةِ مَجالات: المَبيعات، البِناء، وكَمَندوبٍ لِشَرِكَةِ طَيَرانٍ دُوَلِيَّة. وعِندَما عمِلَ في شَرِكَةِ الطَّيَران، كُنَّا كُلُّنا فَرِحينَ لِأنَّنا سافَرنا كَثيرًا.
في المَدرَسَةِ الثَّانَوِيَّة، كُنتُ دائِمًا أُفَكِّر: ‹ماذا سأفعَلُ حينَ أكبَر؟›. بَعضُ أصدِقائي دخَلوا إلى الجامِعَةِ وبَعضُهُمُ التَحَقوا بِالجَيش. أمَّا أنا فَلَمْ أُحِبَّ أن أُحارِبَ، فقرَّرتُ أن أدخُلَ إلى الجامِعَة. لكنِّي أَرَدْتُ مِن كُلِّ قَلبي أن أُساعِدَ النَّاس. شعَرتُ أنَّ هذا سيُعطي مَعنًى لِحَياتي.
حَياتي في الجامِعَة
في الجامِعَة، درَستُ الأنْثْرُوبُولُوجْيَا (عِلمَ الإنسان) لِأنِّي أرَدتُ أن أعرِفَ كَيفَ بدَأتِ الحَياة. وهُناك، علَّمَنا الأساتِذَةُ نَظَرِيَّةَ التَّطَوُّرِ وأرادوا أن نعتَبِرَها حَقيقَةً عِلمِيَّة. لكنَّ هذِهِ النَّظَرِيَّةَ بدَت لي غَيرَ مَنطِقِيَّة، وتَصديقُها تطَلَّبَ إيمانًا أعمى. وهذا عَكسُ العِلم!
لم نتَعَلَّمِ في الجامِعَة المَبادِئَ الأخلاقِيَّة. بِالعَكس، كانَ الأساتِذَةُ يُرَكِّزونَ على النَّجاحِ بِأيِّ ثَمَن. وعِندَما كُنتُ أقضي الوَقتَ مع أصدِقائي في الحَفلاتِ وأُجَرِّبُ المُخَدِّرات، شَعَرْتُ بِالفَرَح، لكنَّهُ كانَ وَقتِيًّا. فصِرتُ أسألُ نَفْسي: ‹هل هذِهِ هيَ الحَياة؟!›.
في هذِهِ الفَترَة، انتَقَلتُ إلى بُوسْطُن ودخَلتُ إلى الجامِعَة. وكَي أدفَعَ مَصاريفي، بدَأتُ أعمَلُ في الصَّيف. وكانَ أحَدُ زُمَلائي مِن شُهُود يَهْوَه. فصارَ يُخبِرُني عن نُبُوَّةِ ‹السَّبعِ سِنينَ› الَّتي يتَحَدَّثُ عنها سِفرُ دَانْيَال، وأخبَرَني أيضًا أنَّنا في الأيَّامِ الأخيرَة. (دا ٤:١٣-١٧) فأدرَكتُ أنَّني إذا أكمَلتُ مُناقَشاتي معهُ وأخَذتُها بِجِدِّيَّة، يلزَمُ أن أُغَيِّرَ كُلَّ حَياتي. وبِصَراحَة، لم أكُنْ جاهِزًا آنَذاك. فصِرتُ أتَجَنَّبُهُ قَدرَ الإمكان.
فكَّرتُ أنِّي إذا اشتَرَكتُ في عَمَلٍ إنسانِيّ، يصيرُ لَدَيَّ هَدَفٌ في الحَياة. فبدَأتُ أدرُسُ مَوادَّ تُجَهِّزُني لِأُسافِرَ إلى أمِيرْكَا الجَنُوبِيَّة وأُساعِدَ النَّاسَ هُناك. ولكنْ كانَ لَدَيَّ شُكوك: هل سيُعطي هذا العَمَلُ مَعنى لِحَياتي؟ هل سيُفَرِّحُني؟ شعَرتُ أنَّني ضائِع، فترَكتُ الجامِعَةَ في نِهايَةِ الفَصل.
بَحثي عن مَعنى الحَياةِ في بُلدانٍ بَعيدَة
في أيَّار (مَايُو) ١٩٧٠، انتَقَلتُ إلى أمِسْتِرْدَام في هُولَنْدَا. وعمِلتُ في شَرِكَةِ الطَّيَرانِ الَّتي عمِلَ فيها أبي. وبِحُكمِ وَظيفَتي، سافَرتُ إلى بُلدان عَديدَة في إفْرِيقْيَا، أمِيرْكَا الشَّمَالِيَّة والجَنُوبِيَّة، أُورُوبَّا، والشَّرْقِ الأقْصَى. وفي كُلِّ هذِهِ البُلدان، رأيْتُ المَشاكِلَ الَّتي يُعاني مِنها النَّاس، ولا أحَدَ قادِرٌ أن يحُلَّها. فتحَمَّستُ لِأفعَلَ شَيئًا لهُ مَعنى في حَياتي وعُدتُ إلى الوِلَايَاتِ المُتَّحِدَة، حيث دخَلتُ إلى الجامِعَةِ في بُوسْطُن.
فيما كُنتُ أتَعَلَّمُ، لاحَظتُ أنِّي لا أحصُلُ على أجوِبَةٍ عن أسئِلَتي حَولَ الحَياة. ولم أعرِفْ ماذا أفعَل. فقرَّرتُ أن أستَشيرَ أُستاذَ الأنْثْرُوبُولُوجِيَا. قالَ لي: «لِمَ تُكمِلُ دِراسَتَك؟! لِمَ لا تترُكُ الجامِعَة؟». وما إن سمِعتُ جَوابَهُ حتَّى أخَذتُ قَراري وترَكتُ الجامِعَة.
في ذلِكَ الوَقت، كُنتُ لا أزالُ أشعُرُ أنَّ حَياتي فارِغَة. فانضَمَمتُ إلى مَجموعَةٍ مِنَ الشَّبابِ يُدعَونَ «قُوَّةَ الزَّهرَة». وكانوا يرفُضونَ التَّقاليدَ ويُنادونَ بِالمَحَبَّةِ والسَّلام. وقدْ تنَقَّلتُ أنا ورِفاقي في الوِلَايَاتِ المُتَّحِدَة، حتَّى إنَّنا وصَلنا إلى آكَابُولْكُو في المَكْسِيك. وعِشنا مع الهِيبِّيِّينَ الَّذينَ بدَت حَياتُهُم بِلا هُموم. لكنِّي اكتَشَفتُ أنَّ حَياتَهُم بِلا مَعنى وفَرَحَهُم وَقتِيّ. ولاحَظتُ أيضًا أنَّهُم غَيرُ صادِقين.
البَحثُ يستَمِرُّ على مَتنِ مَركَب
في هذِهِ الفَترَة، بدَأ يخطُرُ على بالي حُلْمٌ أرَدتُ مُنذُ طُفولَتي أن أُحَقِّقَه. فكُنتُ أحلُمُ أن أُسافِرَ في البَحرِ لا كَبَحَّار، بَل كَقُبطان. وأفضَلُ طَريقَةٍ لِأُحَقِّقَ حُلمي هي أن يكونَ عِندي مَركَبٌ خاصّ. وكانَ صَديقي تُوم لَدَيهِ الحُلْمُ نَفْسُه. فقرَّرنا أن نُبحِرَ معًا في جَولَةٍ حَولَ العالَم. أرَدتُ أن أجِدَ جَزيرَةً مَدارِيَّة جَميلَة بَعيدَة عنِ المُجتَمَعِ وأنظِمَتِه.
سافَرنا أنا وتُوم إلى مِنطَقَةِ أرِينِيس دِي مَار الَّتي تقَعُ قُربَ بَرْشَلُونَة في إسْبَانِيَا. وهُناكَ اشتَرَينا مَركَبًا طولُهُ ٤,٩ م اسْمُهُ «لِيغْرَا»، وبدَأنا نُجَهِّزُهُ لِلرِّحلاتِ الطَّويلَة عَبرَ المُحيط. وبِما أنَّنا لم نكُنْ مُستَعجِلَينِ لِنصِلَ إلى وُجهَتِنا، قرَّرنا أن نُزيلَ المُحَرِّكَ ونضَعَ مَكانَهُ كَمِّيَّاتٍ أكبَرَ مِن مِياهِ الشُّرب. وكَي نتَحَكَّمَ بِالمَركَبِ في المَرافِئِ الصَّغيرَة، كانَ لَدَينا مِجذافانِ طولُ الواحِدِ مِنهُما ٥ م. وبَعدَ أن أنهَينا كُلَّ التَّجهيزات، بدَأْنَا رِحلَتَنا بِاتِّجاهِ جُزُرِ سَايْشِل في المُحِيطِ الهِنْدِيّ. أرَدنا أن نُبحِرَ على طولِ السَّاحِلِ الغَربيِّ لِلقارَّةِ الإفْرِيقِيَّة، وندورَ حَولَ رَأْسِ الرَّجَاءِ الصَّالِح في جَنُوبِ إفْرِيقْيَا. وكُنَّا نستَعينُ بِالنُّجومِ والخَرائِطِ والكُتُبِ والأدَواتِ البَسيطَة. وقدِ استَطَعنا أن نُحَدِّدَ مَوقِعَنا بِكُلِّ دِقَّة. وهذا أذهَلَني كَثيرًا.
وبَعدَ وَقتٍ قَصير، اكتَشَفنا أنَّ هذا المَركَبَ القَديمَ لا يصلُحُ لِلرِّحلاتِ الطَّويلَة. فكانَ يُسَرِّبُ الكَثيرَ مِنَ الماء، ٢٢ ل كُلَّ ساعَة! وكَما أخبَرتُكُم، هبَّت عاصِفَةٌ قَوِيَّة زادَتِ الوَضعَ سوءًا. فخِفتُ كَثيرًا وبدَأتُ أُصَلِّي لِأوَّلِ مَرَّةٍ مُنذُ عِدَّةِ سَنَوات. ووَعَدتُ اللّٰهَ أنَّنا إذا نجَونا، فسَأبذُلُ جُهدي لِأتَعَرَّفَ عَلَيه. ولمَّا هدَأتِ العاصِفَة، قرَّرتُ أن أفِيَ بِوَعدي.
بدَأتُ أقرَأُ الكِتابَ المُقَدَّسَ وأنا في وَسَطَ البَحْرِ الأبْيَضِ المُتَوَسِّط. تخَيَّلوا المَشهَدَ وأنا جالِسٌ في مَركَبي وحَولي السَّمَكُ الطَّيَّارُ والدَّلافينُ والأُفُقُ الَّذي لا ينتَهي. وفي اللَّيل، كانَت تسحُرُني النُّجومُ المُتَلَألِئَة في مَجَرَّةِ دَرْبِ التَّبَّانَة. فبدَأتُ أقتَنِعُ أنَّ هُناكَ خالِقًا يهتَمُّ بنا نَحنُ البَشَر.
بَعدَ أسابيعَ في البَحر، وصَلنا إلى مَرفَإِ ألِيكَانْتِه في إسْبَانِيا. وهُناك عرَضنا مَركَبَنا لِلبَيعِ كَي نشتَرِيَ واحِدًا أفضَلَ مِنه. ولكنْ طَبعًا، لَيسَ سَهلًا أن تبيعَ مَركَبًا قَديمًا بِلا مُحَرِّكٍ ويُسَرِّبُ الماء. فاستَفَدتُ مِنَ الوَقتِ لِأقرَأَ الكِتابَ المُقَدَّس.
كُنْتُ كُلَّما قرَأتُ في الكِتابِ المُقَدَّس، اقتَنَعتُ أنَّهُ كِتابٌ عَمَلِيٌّ فيهِ نَصائِحُ تُفيدُنا في حَياتِنا. وأعجَبَني أُسلوبُهُ الصَّريحُ الَّذي يوصي النَّاسَ أن يعيشوا حَياةً نَظيفَة أدَبِيًّا. واستَغرَبتُ أنَّ كَثيرين، بِمَن فيهِم أنا، يدَّعونَ أنَّهُم مَسِيحِيُّونَ لكنَّهُم يتَجاهَلونَ مَبادِئَ الكِتابِ المُقَدَّس.
قرَّرتُ أن أُغَيِّرَ حَياتي. فتوَقَّفتُ عن تَعاطي المُخَدِّرات. وكُنتُ أقولُ في نَفْسي: ‹لا بُدَّ أنَّ هُناكَ أشخاصًا يُطَبِّقونَ مَقاييسَ الكِتابِ المُقَدَّسِ الأدَبِيَّة. ويَلزَمُ أن أجِدَهُم›. ولِلمَرَّةِ الثَّانِيَة في حَياتي، صلَّيتُ إلى اللّٰهِ وطلَبتُ مُساعَدَتَهُ.
وجَدتُ الدِّينَ الحَقيقِيّ
فكَّرتُ أنَّ أفضَلَ طَريقَةٍ لِأجِدَ الدِّينَ الحَقيقِيَّ هي أن أفحَصَ كُلَّ الأديان. وفيما كُنتُ أمشي في شَوارِعِ ألِيكَانْتِه، رأيتُ مَبانِيَ دينيَّة كَثيرَة علَيها صُوَرٌ وتَماثيل. فاستَبعَدتُ أن يكونَ أحَدُ هذِهِ الأديانِ هوَ الدِّينَ الحَقيقِيّ.
وفي يَومِ أحَدٍ بَعدَ الظُّهر، كُنتُ أجلِسُ على تَلَّةٍ تُطِلُّ على المَرفَإ، وأقرَأُ يَعْقُوب ٢:١-٥ الَّتي تُحَذِّرُ مِنَ التَّحَيُّزِ لِمَصلَحَةِ الأغنِياء. وفيما كُنتُ عائِدًا إلى المَركَب، رأيتُ مَبنى بدا أنَّهُ مُخَصَّصٌ لِاجتِماعاتٍ دينِيَّة. وقدْ عُلِّقَت فَوقَ مَدخَلِهِ لافِتَةٌ كُتِبَ علَيها: «قاعَةُ مَلَكوتٍ لِشُهُود يَهْوَه».
فقرَّرتُ أن أفحَصَ هذا الدِّينَ أيضًا. قُلتُ في نَفْسي: ‹سأدخُلُ وأرى كَيفَ يستَقبِلونَني›. وكُنتُ حافيَ القَدَمَين، لِحيَتي طَويلَة، وألبَسُ بَنطَلونَ جِينْز مُمَزَّقًا. لكنَّ الحاجِبَ رحَّبَ بي ودعاني أن أجلِسَ قُربَ سَيِّدَةٍ كَبيرَة في العُمرِ ساعَدَتني أن أجِدَ الآياتِ الَّتي ذَكَرَها الخَطيبُ. وبَعدَ الاجتِماع، أتى كَثيرونَ لِيُسَلِّموا علَيَّ. فتأثَّرتُ بِلُطفِهِم ومَحَبَّتِهِم. حتَّى إنَّ أحَدَهُم دعاني إلى بَيتِهِ لِنُناقِشَ مَواضيعَ مِنَ الكِتابِ المُقَدَّس. فرفَضتُ لِأنِّي لم أكُنْ قد أنهَيتُ قِراءَةَ الكِتابِ المُقَدَّس. وقُلتُ له: «سأُخبِرُكَ حينَ أصيرُ جاهِزًا». ومُنذُ ذلِكَ اليَوم، بدَأتُ أحضُرُ كُلَّ الاجتِماعات.
بَعدَ عِدَّةِ أسابيع، زُرتُ الرَّجُلَ الَّذي دعاني إلى مَنزِلِه، وجاوَبَ على أسئِلَتي عنِ الكِتابِ المُقَدَّس. وبَعدَ أُسبوع، أعطاني حَقيبَةً مَليئَة بِثِيابٍ مُرَتَّبَة. وأخبَرَني أنَّ هذِهِ الثِّيابَ لِشابٍّ هو في السِّجنِ الآنَ لِأنَّهُ يُطيعُ وَصِيَّةَ الكِتابِ المُقَدَّسِ أن يُحِبَّ النَّاسَ ولا يتَعَلَّمَ الحَرب. (اش ٢:٤؛ يو ١٣:٣٤، ٣٥) عِندَئِذٍ تأكَّدتُ أنِّي وجَدتُ ما أبحَثُ عنه: أشخاصًا يُطَبِّقونَ مَبادِئَ الكِتابِ المُقَدَّسِ في حَياتِهِم. وما عُدتُ أُفَتِّشُ عن جَزيرَةِ أحلامي، بل صارَ كُلُّ هَمِّي أن أدرُسَ الكِتابَ المُقَدَّسَ وأتَعَمَّقَ فيه. لِذلِك عُدتُ إلى هُولَنْدَا.
البَحثُ عن عَمَل
بقيتُ ٤ أيَّامٍ أتَنَقَّلُ مِن مِنطَقَةٍ إلى أُخرى حتَّى وصَلتُ إلى مَدينَةِ غْرُونِينْغِن في هُولَنْدَا. وهُناكَ كانَ علَيَّ أن أجِدَ عَمَلًا. فذهَبتُ إلى مَشغَلٍ لِلنِّجارَةِ وقدَّمتُ طَلَبَ عَمَل. وفي الطَّلَب، كانَ هُناكَ سُؤَال: «ما هو دينُك؟». فكتَبتُ:
«شُهُود يَهْوَه». وحينَ قرَأَ صاحِبُ المَشغَلِ ما كتَبْت، تغَيَّرَت تَعابيرُ وَجهِه. وقالَ لي: «نتَّصِلُ بكَ لاحِقًا». لكنَّهُ لم يتَّصِل.ذهَبتُ إلى مَشغَلٍ آخَرَ لِلنِّجارَةِ وسألتُ صاحِبَهُ عَن عَمَل. فسألَني هل لَدَيَّ شَهادَةٌ أو خِبرَة. وعِندَما أخبَرتُهُ أنِّي عمِلتُ في تَصليحِ مَركَب، أجابَني: «تقدِرُ أن تبدَأ بِالعَمَلِ بَعدَ ظُهرِ اليَومِ بِشَرطٍ واحِد: لا أُريدُ مَشاكِلَ. فأنا واحِدٌ مِن شُهُود يَهْوَه وأُطَبِّقُ مَبادِئَ الكِتابِ المُقَدَّس». فقُلتُ لهُ بِحَماسَة: «أنا أيضًا مِن شُهُود يَهْوَه!». لكنْ آنَذاك، كانَ شَعري طَويلًا ولِحيَتي طَويلَة. فقالَ لي: «إذًا سأُعَلِّمُكَ أكثَرَ عنِ الكِتابِ المُقَدَّس». فقبِلتُ بِكُلِّ سُرور، وفهِمتُ لِماذا لم يتَّصِلوا بي مِنَ المَشغَلِ الأوَّل. فيَهْوَه وجَّهَ الأُمورَ كَي يُحَقِّقَ رَغبَةَ قَلبي. (مز ٣٧:٤) وبقيتُ سَنَةً أعمَلُ عِندَ هذا الأخِ وأدرُسُ الكِتابَ المُقَدَّس، ثُمَّ اعتَمَدتُ في كَانُونَ الثَّانِي (يَنَايِر) ١٩٧٤.
وجَدتُ مَعنى الحَياة
بَعدَ شَهر، صارَ لَدَيَّ مِهنَةٌ جَديدَة: خِدمَةُ الفَتح. وهذا فرَّحَني كَثيرًا. وفي الشَّهرِ التَّالي، انتَقَلتُ إلى أمِسْتِرْدَام لِأدعَمَ فَريقًا جَديدًا بِاللُّغَةِ الإسْبَانِيَّة. وكَم كُنتُ أفرَحُ حينَ أُديرُ دُروسًا بِالإسْبَانِيَّة والبُرْتُغَالِيَّة! وفي أيَّار (مَايُو) ١٩٧٥، حصَلتُ على الامتِيازِ أن أكونَ فاتِحًا خُصوصِيًّا.
ذاتَ يَوم، أتَت فاتِحَةٌ خُصوصِيَّة اسْمُها إينِيكِي إلى اجتِماعِنا لِتُعَرِّفَنا على امرَأةٍ مِن بُولِيفْيَا تدرُسُ الكِتابَ المُقَدَّس. فأُعجِبتُ بِإينِيكِي وقرَّرنا أن نتَعَرَّفَ واحِدُنا على الآخَرِ بِواسِطَةِ الرَّسائِل. وسُرعانَ ما اكتَشَفنا أنَّ لَدَينا الأهدافَ نَفْسَها. وسَنَةَ ١٩٧٦، تزَوَّجنا وتابَعنا معًا الخِدمَةَ كَفاتِحَينِ خُصوصِيَّينِ حتَّى سَنَةِ ١٩٨٢، حينَ دُعينا إلى الصَّفِّ الـ ٧٣ مِن مَدرَسَةِ جِلْعَاد. وكم فرِحنا حينَ عرَفنا أنَّ تَعيينَنا سيَكونُ في شَرقِ إفْرِيقْيَا! وقدْ خدَمنا ٥ سَنَواتٍ في مُومْبَاسَّا بِكِينْيَا. وسَنَةَ ١٩٨٧، عُيِّنَّا في تَنْزَانْيَا، حَيثُ كانَ الحَظرُ على عَمَلِنا قد رُفِعَ مُؤَخَّرًا. وبقينا هُناكَ ٢٦ سَنَةً ثُمَّ عُدنا إلى كِينْيَا.
إنَّ تَعليمَ النَّاسِ عن الكِتابِ المُقَدَّسِ أعطى مَعنى لِحَياتِنا. مَثَلًا، أوَّلُ شَخصٍ درَستُ معهُ الكِتابَ المُقَدَّسَ في مُومْبَاسَّا كانَ رَجُلًا تعَرَّفتُ علَيهِ في الخِدمَةِ العَلَنِيَّة. وكانَ مُهتَمًّا جِدًّا بِالحَقِّ لِدَرَجَةِ أنَّهُ سألَني بَعدَما أعطَيتُهُ مَجَلَّتَيْن: ‹ماذا أفعَلُ بَعدَ أن أقرَأَهُما؟›. وفي الأُسبوعِ التَّالي، بدَأتُ أدرُسُ معهُ في كِتاب يُمكِنُكُم أن تَحيَوا إلى الأبَدِ في الفِردَوسِ على الأرض، الَّذي كانَ قد صدَرَ مُؤَخَّرًا بِالسَّوَاحِلِيَّة. وبَعدَ سَنَةٍ اعتَمَدَ وصارَ فاتِحًا عادِيًّا. ومُنذُ ذلِكَ الحين، ساعَدَ هو وزَوجَتُهُ ١٠٠ شَخصٍ تَقريبًا أن يَعتَمِدوا.
عِندَما وجَدتُ مَعنى لِحَياتي، أحسَستُ أنَّني مِثلُ التَّاجِرِ الَّذي كانَ يبحَثُ عن لَآلِئ، ثُمَّ وجَدَ لُؤلُؤَةً مُمَيَّزَة ولم يُرِدْ أن يخسَرَها. (مت ١٣:٤٥، ٤٦) فقَرَّرتُ أن أقضِيَ حَياتي وأنا أُساعِدُ النَّاسَ أن يجِدوا مَعنى لِحَياتِهِم. ومعَ الأيَّام، رأيْنا أنا وزَوجَتي كَيفَ يُبارِكُ يَهْوَه الَّذينَ يُحِبُّونَهُ بِحَياةٍ لها مَعنى.