الانتقال الى المحتويات

الانتقال إلى المحتويات

قوي رغم ضعفي

قوي رغم ضعفي

قصة حياة

قوي رغم ضعفي

كما رواها ليوپولد إنڠلايتْنه

شهر ضابط في وحدات الحماية مسدسه،‏ ثم وضعه في رأسي قائلا:‏ «هل انت مستعد لتموت؟‏ سأضغط الآن على الزناد لأنك حقا شخص ميؤوس منه».‏ فأجبته محاولا ان اتكلم بهدوء:‏ «انا مستعد لأموت».‏ وهيّأت نفسي مُغمِضا عينَيّ في انتظار ان يضغط على الزناد.‏ غير ان شيئا لم يحدث.‏ إثر ذلك صاح الضابط،‏ مبعِدا المسدس عن رأسي:‏ «انت اسخف من ان اقتلك».‏ ولكن كيف وصلتُ الى هذه الحالة المأساوية؟‏

وُلِدت في ٢٣ تموز (‏يوليو)‏ ١٩٠٥ في بلدة آيجن-‏فوڠْلْهوب الجاثمة في احضان جبال الالب النمساوية.‏ وكنت الولد الاكبر لعامل في منشرة متزوِّج بابنة مُزارِع محلّي.‏ كان والداي فقيرين ولكنهما عملا بكدّ.‏ وقد قضيت سنوات طفولتي في باد ايشل،‏ الواقعة قرب سالزبورڠ،‏ بين بحيرات تخلب الالباب وجبال تخطف الانفاس.‏

اثناء طفولتي غالبا ما فكرت في مظالم الحياة ليس بسبب فقرنا فحسب،‏ بل ايضا لأنني عانيت من تقوّس خِلقيّ في العمود الفقري.‏ فقد سببت لي هذه الحالة ألما شديدا في الظهر وجعلت وقوفي منتصبا اشبه بمستحيل.‏ كما انني مُنِعت من الاشتراك في ألعاب الجمباز في المدرسة،‏ الامر الذي جعلني موضع سخرية لدى زملائي في الصف.‏

مع انتهاء الحرب العالمية الاولى،‏ حين كنت اناهز الـ‍ ١٤ من عمري،‏ قررت البحث عن عمل لأفلت من براثن الفقر.‏ لقد كان الجوع الشديد رفيقي الدائم.‏ كما اضعفتني الحمى الشديدة الناتجة عن اصابتي بالانفلوَنزا الاسبانية التي اودت بحياة الملايين.‏ ولذلك،‏ عندما قصدت المزارعين طلبا للعمل،‏ كان معظمهم يجيبون:‏ «ايّ عمل يستطيع ان يقوم به شخص واهن مثلك؟‏».‏ غير ان مزارعا لطيفا سمح لي بالعمل عنده.‏

ابهجني التعلم عن محبة الله

رغم ان امي كانت كاثوليكية ورعة،‏ نادرا ما ذهبت الى الكنيسة.‏ والسبب الرئيسي هو امتلاك ابي افكارا متحررة حيال المسائل الدينية.‏ اما بالنسبة الي،‏ فقد ازعجتني عبادة الصور والتماثيل التي كانت تُمارس على نطاق واسع في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.‏

وذات يوم،‏ في احد ايام تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ ١٩٣١،‏ طلب مني احد اصدقائي ان ارافقه الى اجتماع ديني لتلاميذ الكتاب المقدس،‏ كما دُعي شهود يهوه آنذاك.‏ وهناك نلت اجوبة من الكتاب المقدس عن اسئلة مهمة مثل:‏ هل يرضى الله عن عبادة الصور والتماثيل؟‏ (‏خروج ٢٠:‏٤،‏ ٥‏)‏ هل حقا هنالك هاوية نارية؟‏ (‏جامعة ٩:‏٥‏)‏ وهل سيُقام الموتى؟‏ —‏ يوحنا ٥:‏٢٨،‏ ٢٩‏.‏

وما اثّر فيّ اكثر هو ان الله لا يرضى عن الحروب التي تُهرَق فيها الدماء،‏ حتى لو زعم البشر انهم يشنّونها باسمه.‏ فقد تعلّمت ان «الله محبة» وأن له اسما مجيدا هو يهوه.‏ (‏١ يوحنا ٤:‏٨؛‏ مزمور ٨٣:‏١٨‏)‏ وعرفت ان ملكوت يهوه سيمكِّن البشر من العيش بسعادة الى الابد في فردوس يعمّ الارض،‏ الامر الذي ابهجني كثيرا.‏ كما تعلّمت عن الرجاء الرائع الذي يحظى به بشر ناقصون يدعوهم الله الى الحكم مع يسوع في ملكوت الله السماوي.‏ وكنت على استعداد لبذل كل ما في وسعي من اجل هذا الملكوت.‏ وهكذا،‏ في ايار (‏مايو)‏ ١٩٣٢،‏ اعتمدت كواحد من شهود يهوه.‏ وقد استلزمت هذه الخطوة شجاعة كبيرة نظرا الى التعصّب الديني السائد في النمسا التي كانت آنذاك كاثوليكية محضا.‏

مواجهة الازدراء والمقاومة

صُعِق والداي عندما هجرت الكنيسة.‏ وسرعان ما نشر الكاهن الخبر من على منبر الوعظ.‏ فراح الجيران يبصقون امامي على الارض دلالة على ازدرائهم.‏ ومع ذلك،‏ صمّمت ان انضم الى صفوف الخدام كامل الوقت.‏ فانخرطت في عمل الفتح في كانون الثاني (‏يناير)‏ ١٩٣٤.‏

تأزم الوضع السياسي اكثر فأكثر بسبب سطوة الحزب النازي في منطقتنا.‏ اثناء خدمتي كفاتح في وادي إنز في ستيريا،‏ كانت الشرطة تتعقبني على الدوام،‏ لذلك وجب ان اكون ‹حذِرا كالحية›.‏ (‏متى ١٠:‏١٦‏)‏ ومن سنة ١٩٣٤ الى ١٩٣٨،‏ كان الاضطهاد جزءا لا يتجزّأ من حياتي اليومية.‏ ومع انني كنت عاطلا عن العمل،‏ حُرِمت من إعانة البطالة.‏ كما حُكِم علي بالسجن عدة مرات لفترات قصيرة وأربع مرات لفترات اطول بسبب نشاطي الكرازي.‏

قوات هتلر تحتل النمسا

في آذار (‏مارس)‏ ١٩٣٨،‏ اجتاحت قوات هتلر بلاد النمسا.‏ وفي غضون ايام قليلة اعتُقِل اكثر من ٩٠٬٠٠٠ شخص —‏ حوالي ٢ في المئة من السكان الراشدين —‏ بتهمة مقاومة نظام الحكم النازي،‏ وأُرسِلوا الى السجون ومعسكرات الاعتقال.‏ غير ان شهود يهوه كانوا مهيّئين لما يكمن امامهم.‏ ففي صيف سنة ١٩٣٧،‏ قام عدة افراد من جماعتي الاولى برحلة الى پراڠ على الدراجة،‏ مجتازين مسافة ٣٥٠ كيلومترا لحضور محفل اممي.‏ وهناك سمعوا عن الاعمال الوحشية المرتكَبة بحق رفقائنا المؤمنين في المانيا.‏ فبدا واضحا ان الوقت حان لنُضطهَد نحن ايضا.‏

منذ وطِئت قوات هتلر ارض النمسا،‏ اضطرّ شهود يهوه الى عقد الاجتماعات والقيام بعمل الكرازة سرًّا.‏ ورغم ان مطبوعات الكتاب المقدس كانت تُهرَّب عبر الحدود السويسرية،‏ لم يكن هناك ما يكفي للجميع.‏ لذلك راح الرفقاء المسيحيون في ڤيينا ينتجون المطبوعات خفية.‏ وغالبا ما عملتُ كساعٍ،‏ ناقلا المطبوعات الى الاخوة الشهود.‏

الى معسكر اعتقال

في ٤ نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٣٩،‏ اعتقلني الغستابو انا وثلاثة من الرفقاء المسيحيين اثناء الاحتفال بذكرى موت المسيح في باد ايشل.‏ فأُخذنا جميعا بالسيارة الى مركز قيادة شرطة الدولة في لينز.‏ كانت هذه المرة الاولى التي ركبت فيها سيارة،‏ لكنّ القلق الذي انتابني حال دون استمتاعي بذلك.‏ وفي لينز خضعت لسلسلة من الاستجوابات المؤلمة،‏ غير انني لم انكر ايماني.‏ بعد خمسة اشهر أُحضِرت امام قاضي التحقيق في النمسا العليا.‏ وبشكل مفاجئ،‏ أُسقِطت الدعاوي الجنائية التي رُفِعت ضدي.‏ لكنّ ذلك لم يسم نهاية محنتي.‏ في تلك الاثناء،‏ أُرسِل الاخوة الثلاثة الآخرون الى معسكرات اعتقال حيث قضوا نحبهم،‏ محافظين على امانتهم الى النهاية.‏

فقد بقيت محتجَزا فترة من الوقت.‏ وفي ٥ تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ ١٩٣٩،‏ أُبلِغت انني سأُنقَل الى معسكر اعتقال بوكنْوُلد في المانيا.‏ كان قطار خصوصي بانتظارنا نحن المساجين في محطة السكة الحديدية في لينز.‏ فركبنا عرباته المغلقة التي تتسع لشخصين.‏ والشخص الذي شاركني في العربة لم يكن إلا الدكتور هاينرخ ڠلايسنر،‏ الحاكم السابق للنمسا العليا.‏

دارت محادثة ممتعة بيني وبين الدكتور ڠلايسنر الذي ابدى اهتماما صادقا بوضعي المأساوي.‏ وقد صُدِم لمعرفته ان شهود يهوه واجهوا مشاكل قانونية لا تحصى في مقاطعته حتى عندما كان هو حاكما.‏ وقال بأسف:‏ «سيد إنڠلايتْنه،‏ لا يمكنني تصحيح الخطإ الذي ارتُكِب بحقكم،‏ ولكنني أودّ ان اعتذر عنه.‏ يبدو ان حكومتنا اخفقت في تحقيق العدالة.‏ اذا احتجتَ الى ايّ عون،‏ فسأكون على استعداد لبذل كل ما في وسعي لمساعدتك».‏ التقينا مجددا بعد الحرب.‏ وقد ساعدني ان احصل على معاش التقاعد الذي منحته الدولة لضحايا النازيين.‏

‏«سأطلق النار عليك»‏

في ٩ تشرين الاول (‏اكتوبر)‏ ١٩٣٩،‏ وصلت الى معسكر اعتقال بوكنْوُلد.‏ بُعَيد ذلك علم المسؤول عن معسكر السجناء ان هنالك شاهدا بين القادمين الجدد،‏ فأصبحت شغله الشاغل.‏ فقد ضربني بلا رحمة.‏ وبعدما ادرك انني لن انكر ايماني مهما فعل بي،‏ قال:‏ «سأطلق النار عليك يا إنڠلايتْنه.‏ ولكن قبل ذلك سأدعك تكتب بطاقة وداع الى والديك».‏ فكرت في كلمات التعزية المناسبة لأكتبها لوالدَيّ.‏ ولكن كلما حاولت الكتابة،‏ كان يضربني على مرفقي الايمن لخربشة كتابتي.‏ ثم سخر مني قائلا:‏ «يا له من احمق!‏ فهو لا يستطيع كتابة سطرَين صحيحَين.‏ غير ان ذلك لا يعيقه عن قراءة الكتاب المقدس».‏

بعد ذلك،‏ شهر مسدسه ووضعه في رأسي،‏ موهِما اياي انه سيضغط على الزناد،‏ كما ذكرتُ في مستهل المقالة.‏ ثم زجّني في زنزانة صغيرة مكتظة،‏ حيث كان عليَّ ان امضي الليل واقفا.‏ ولكن بأية حال،‏ ما كنت لأستطيع النوم لأن الالم انتاب جسمي بكامله.‏ وكانت كلمات «التعزية» الوحيدة التي قدَّمها لي رفقائي في الزنزانة:‏ «ان دينا سخيفا كهذا لا يستأهل ان تموت لأجله».‏ في الزنزانة المجاورة،‏ كان الدكتور ڠلايسنر معتقلا.‏ وقد سمع بما حدث فقال متأملا:‏ «ان اضطهاد المسيحيين يكشف مجددا عن وجهه القبيح!‏».‏

في صيف ١٩٤٠،‏ أُمِر جميع المسجونين بأن يحضروا للعمل في المقلع يوم الاحد،‏ رغم اننا لم نكن نعمل ايام الآحاد.‏ فقد كان ذلك اجراء تأديبيا اتُّخِذ بسبب مخالفات صغيرة ارتكبها بعض السجناء.‏ وهناك،‏ أُمِرنا بحمل حجارة كبيرة من المقلع الى المعسكر.‏ وعندما حاول سجينان وضع حجر كبير على ظهري،‏ كدت انهار تحت وطأة الحِمل.‏ غير ان آرثر رودل،‏ رجل مَهيب اشرف على المعسكر،‏ اتى لنجدتي على نحو غير متوقع.‏ ولدى رؤيته كم جاهدت لحَمل الحجر قال لي:‏ «لن تستطيع العودة الى المعسكر وعلى ظهرك هذا الحجر.‏ أنزله على الفور».‏ وكم فرحت بإطاعة هذا الامر!‏ ثم اشار الى حجر اصغر بكثير قائلا:‏ «من الاسهل حمل هذا الحجر.‏ انقله الى المعسكر».‏ بعد ذلك التفتَ الى الشخص المشرف علينا وأمره:‏ «دع تلاميذ الكتاب المقدس يعودون الى ثكناتهم.‏ فقد اشتغلوا ما يكفي هذا اليوم».‏

في نهاية كل يوم عمل،‏ كنت افرح دائما بمعاشرة عائلتي الروحية.‏ وقد رتَّبنا لتوزيع الطعام الروحي على الجميع.‏ فكان اخ يكتب آية من الكتاب المقدس على قصاصة ورق ويمرِّرها الى الآخرين.‏ كما ان كتابا مقدسا هُرِّب الى المعسكر.‏ ففُصِلت اسفاره واحدها عن الآخر.‏ وائتُمنت انا على سفر ايوب طوال ثلاثة اشهر،‏ فخبأته في جواربي.‏ لقد ساعدتني رواية ايوب ان احافظ على ثباتي.‏

في ٧ آذار (‏مارس)‏ ١٩٤١،‏ انضممت الى قافلة كبيرة نُقِلت الى معسكر اعتقال نيدِهاڠن.‏ كانت حالتي تسوء يوما فيوما.‏ وفي احد الايام،‏ أمِرت انا واثنان من الاخوة بتوضيب المعدات في صناديق.‏ وبعد انجاز العمل رجعنا الى الثكنات مع مجموعة اخرى من السجناء.‏ وحين لاحظ احد رجال وحدات الحماية انني اتخلّف عن الآخرين،‏ اغتاظ كثيرا ورفسني بوحشية من وراء دون انذار،‏ مسببا لي جرحا بالغا.‏ ولكنني ذهبت الى العمل في اليوم التالي رغم الالم المبرِّح الذي اصابني.‏

اطلاق سراحي بشكل غير متوقَّع

اخيرا،‏ في نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٤٣،‏ أُخلي معسكر نيدِهاڠن.‏ فنُقِلتُ الى معسكر الموت في رَڤنسْبروك.‏ وفي حزيران (‏يونيو)‏ ١٩٤٣،‏ أُخلي سبيلي من معسكر الاعتقال بشكل غير متوقع.‏ ولكن هذه المرة لم يكن اطلاق سراحي مشروطا بإنكار ايماني.‏ فقد كان عليّ فقط الموافقة على القيام بالعمل الالزامي في احدى المزارع مدى الحياة.‏ وكنت على استعداد لذلك كي أُفلت من عذاب المعسكر.‏ فذهبت الى طبيب المعسكر لإجراء فحص طبي اخير.‏ ولدى رؤيتي،‏ فوجئ الطبيب وقال:‏ «ما زلت واحدا من شهود يهوه!‏».‏ فأجبت:‏ «صحيح ايها الطبيب».‏ فقال:‏ «في هذه الحالة لا ارى سببا لإخلاء سبيلك.‏ ولكن من ناحية اخرى،‏ يسرُّنا التخلص من مخلوق تعيس مثلك».‏

لم يكن الطبيب يبالغ في وصفه لي.‏ فحالتي الصحية كانت حرجة جدا.‏ فقد اكل القمل اجزاء من جلدي،‏ وبسبب الضرب الذي عانيته أُصِبت بالصمم في احدى اذنيّ.‏ كما ان الدمامل غطّت جسمي بكامله.‏ وبعد ٤٦ شهرا من الحرمان والجوع المتواصل والعمل الالزامي،‏ اصبح وزني ٢٨ كيلوغراما فقط.‏ كانت هذه حالتي حين خرجت من رَڤنسْبروك في ١٥ تموز (‏يوليو)‏ ١٩٤٣.‏

أُعِدت الى بلدتي بالقطار دون حارس يرافقني،‏ وذهبت الى مركز قيادة الغستابو في لينز.‏ فسلّمني ضابط من الغستابو اوراق الافراج عني وحذّرني:‏ «اذا كنت تعتقد اننا نخلي سبيلك لتواصل نشاطك السري،‏ فأنت مخطئ تماما!‏ وليكن الله في عونك إن امسكناك وأنت تبشّر».‏

اخيرا عدت الى منزلي!‏ كانت امي قد ابقت كل شيء في غرفتي كما تركته عند اعتقالي اول مرة في ٤ نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٣٩.‏ حتى كتابي المقدس بقي مفتوحا على الطاولة المجاورة لسريري!‏ فجثوت وقدَّمت صلاة شكر قلبية.‏

عُيِّنت للعمل في مزرعة جبلية.‏ وكان المزارع فيها صديقا لي في الطفولة،‏ فدفع لي راتبا صغيرا رغم انه غير ملزم بذلك.‏ قبل الحرب كان صديقي هذا قد أذِن لي بأن اخبّئ بعض مطبوعات الكتاب المقدس في مزرعته.‏ ففرحت باستخدام مخزن المطبوعات الصغير هذا لأتقوّى روحيا.‏ وهكذا سُدَّت حاجاتي كلها،‏ وصمّمت ان انتظر انتهاء الحرب في المزرعة.‏

الاختباء في الجبال

لكنّ هذه الايام الهادئة التي نعمتُ فيها بالحرية لم تدم طويلا.‏ ففي اواسط آب (‏اغسطس)‏ ١٩٤٣،‏ أُمِرت بالذهاب الى طبيب عسكري لإجراء فحص طبي.‏ في البداية افاد هذا الطبيب انني غير صالح للخدمة العسكرية بسبب ظهري غير السليم.‏ ولكن بعد اسبوع،‏ عدّل الطبيب إفادته لتقول:‏ «صالح للخدمة العسكرية في صفوف القتال الامامية».‏ لم يتمكن الجيش من العثور علي فترة من الوقت.‏ غير انهم وجدوني اخيرا في ١٧ نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٤٥،‏ قُبَيل انتهاء الحرب.‏ فأُمرت بأن اقاتل في الصفوف الامامية.‏

فتزوّدتُ بكتاب مقدس وقليل من الطعام وبعض الثياب،‏ ولجأت الى الجبال القريبة.‏ في بادئ الامر كان بإمكاني النوم في العراء،‏ إلا ان احوال الطقس ساءت وهطل الثلج علوّ نصف متر.‏ فابتلّ جسمي كله.‏ غير انني تمكّنت من الوصول الى كوخ جبلي يقع على ارتفاع نحو ١٬٢٠٠ متر فوق مستوى سطح البحر.‏ فأضرمت نارا في الموقد وأنا ارتجف،‏ واستطعت ان أدفأ وأُجفف ملابسي.‏ وإذ كنت منهوك القوى،‏ غفوت على مقعد امام الموقد.‏ ولكن بعد وقت قصير ايقظني فجأة ألم شديد شعرت به.‏ فقد اشتعلت الثياب التي ارتديها!‏ فرُحتُ اتدحرج على الارض لإطفاء النار.‏ لكنّ ظهري كله كان قد تقرّح.‏

قبل بزوغ الفجر جازفت بالتسلل الى المزرعة الجبلية،‏ غير ان زوجة المزارع خافت جدا وصرفتني قائلة ان رجالا يسعون في إثري.‏ فذهبتُ الى والدَيّ اللذين ترددا في استقبالي في بادئ الامر.‏ لكنهما سمحا لي اخيرا بالنوم في مخزن التبن،‏ كما ان امي اعتنت بجراحي.‏ ولكن بعد يومين،‏ اصبح والداي شديدَي القلق بشأن وجودي هناك،‏ فأدركتُ انه من الافضل الاختباء مجددا في الجبال.‏

في ٥ ايار (‏مايو)‏ ١٩٤٥،‏ استيقظت على صوت مدوٍّ.‏ ورأيت طائرات الحلفاء تطير على علو منخفض.‏ فأدركت في تلك اللحظة انهم أطاحوا بنظام حكم هتلر.‏ اخيرا شعرت بالراحة!‏ لقد قوّاني روح يهوه على احتمال محنة مروِّعة.‏ واختبرت صحة الكلمات المسجلة في المزمور ٥٥:‏٢٢ التي منحتني تعزية كبيرة في بداية محني.‏ نعم،‏ ‹ألقيت على يهوه عبئي›.‏ ورغم ضعفي الجسدي،‏ دعمني الهي فيما كنت امشي في «وادي القتام الدامس».‏ —‏ مزمور ٢٣:‏٤‏.‏

قدرة يهوه «تكمل في الضعف»‏

بعد الحرب عادت الحياة تدريجيا الى طبيعتها.‏ في البداية عملت كأجير في مزرعة صديقي الجبلية.‏ ولم أُعفَ من التزامي بالقيام بالعمل الزراعي الالزامي مدى الحياة إلا بعد تدخُّل جيش الاحتلال الاميركي في نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٤٦.‏

عند انتهاء الحرب،‏ بدأ الاخوة المسيحيون في باد ايشل والمنطقة المحيطة بها يعقدون الاجتماعات بانتظام ويكرزون بنشاط متجدد.‏ وقد عُرِض عليَّ العمل كحارس ليلي في مصنع،‏ الامر الذي اتاح لي مواصلة خدمة الفتح.‏ اخيرا،‏ استقررت في منطقة زانكت ڤولفڠانڠ.‏ وفي سنة ١٩٤٩،‏ تزوجت تيريزيا كورتس التي كانت لديها ابنة من زواج سابق.‏ وعشنا معا ٣٢ سنة الى ان غيّبها الموت سنة ١٩٨١،‏ بعدما اعتنيت بها اكثر من سبع سنوات.‏

بعد موت تيريزيا واصلت خدمة الفتح،‏ الامر الذي ساعدني على تخطي احساسي الشديد بالخسارة.‏ حاليا اخدم كفاتح وشيخ في جماعتي في باد ايشل.‏ وبما انني اسير كرسي متحرِّك،‏ اتحدث الى الناس عن رجاء الملكوت في حديقة باد ايشل العامة او امام منزلي وأقدِّم اليهم مطبوعات الكتاب المقدس.‏ ومناقشات الكتاب المقدس الرائعة التي أديرها هي مصدر فرح عظيم لي.‏

عندما انظر الى الماضي،‏ اقول بصدق ان الاختبارات المروِّعة التي اضطُررت الى احتمالها لم تجعلني مرّ النفس.‏ طبعا،‏ كنت اشعر احيانا بالكآبة بسبب المحن التي اواجهها.‏ لكنّ علاقتي الحميمة بيهوه الله ساعدتني ان اتخطّى تلك الفترات العصيبة.‏ كما اختبرت صحة الكلمات التي قالها الرب لبولس:‏ «ان قدرتي تكمل في الضعف».‏ واليوم،‏ فيما اناهز المئة من العمر،‏ اشاطر الرسول بولس مشاعره حين قال:‏ «أُسَرّ بالضعفات والإهانات والاحتياجات والاضطهادات والمصاعب لأجل المسيح.‏ فعندما أكون ضعيفا،‏ فحينئذ أكون قويا».‏ —‏ ٢ كورنثوس ١٢:‏٩،‏ ١٠‏.‏

‏[الصور في الصفحة ٢٥]‏

حين اعتقلني الغستابو في نيسان (‏ابريل)‏ ١٩٣٩

ايار (‏مايو)‏ ١٩٣٩،‏ وثيقة اعدّها الغستابو تتضمن التهم الموجّهة الي

‏[مصدر الصورة]‏

‏r‏e‏f‏r‏o‏t‏s‏r‏e‏m‏m‏a‏R‏ ‎.‏B‏ ;‏v‏i‏h‏c‏r‏a‏t‏a‏v‏i‏r‏P‏ :‏s‏e‏g‏a‏m‏i‏ ‏h‏t‏o‏B‏

‏[الصورة في الصفحة ٢٦]‏

الجبال المجاورة كانت ملجأ لي

‏[مصدر الصورة في الصفحة ٢٣]‏

‏a‏i‏r‏t‏s‏u‏A‏ ‎,‏l‏h‏c‏s‏I‏ ‏d‏a‏B‏ ‎,‏r‏e‏f‏o‏H‏ ‏o‏t‏o‏F‏