الانتقال الى المحتويات

الانتقال إلى المحتويات

رسالة من روسيا

البحث عن الكنوز في جبال آلتاي الذهبية

البحث عن الكنوز في جبال آلتاي الذهبية

انه يوم جميل من ايام الربيع في جمهورية آلتاي،‏ تلك البقعة الخلابة في جنوب غرب سيبيريا!‏ فإذا ما اشرفنا من نافذة غرفتنا،‏ تنبسط نصب اعيننا غابات كثيفة تتزاحم فيها اشجار الصنوبر،‏ وتنتصب وراءها جبال مهيبة مصطبغة بالالوان الزرقاء الهادئة ومتوَّجة بالثلوج البيضاء الناصعة.‏ هذه الارض الوعرة والنائية هي ارض الآلتائيين.‏ وهم شعب آسيوي متميز له لغته الخاصة،‏ وموطنه جبال آلتاي —‏ اسم يأتي من كلمة توركية–‏منغولية معناها «ذهبي».‏

منذ بضع سنوات،‏ تعلمت انا وزوجتي لغة الاشارات الروسية وبدأنا نزور الجماعات والفِرق الصغيرة حيث يجتمع شهود يهوه الصم.‏ تضم روسيا اكثر من ١٧٠ قومية ومجموعة اثنية يتكلمون لغة مشتركة هي الروسية.‏ اما الصم في هذا البلد فيستخدمون لغة اخرى هي لغة الاشارات الروسية.‏ وهم مجتمع متماسك يتحمس كثيرون منهم،‏ حين نلتقيهم،‏ الى اخبارنا عن قصص حياتهم،‏ ويعربون لنا عن روح الضيافة.‏ هكذا هي الحال في آلتاي!‏

وبينما نحن في مدينة ڠورنو–‏ألتايسك،‏ نعلم بوجود بعض الصم في قرية صغيرة تبعد ٢٥٠ كيلومترا.‏ الشهود هناك قليلون،‏ ولا احد منهم يعرف لغة الاشارات.‏ وإذ لا يغيب هؤلاء الصم عن بالنا،‏ نتحمس الى زيارتهم في قريتهم.‏ وحماستنا الشديدة هذه تُعدي يورياي وتاتيانا،‏ زوجين اصمين،‏ فيقرران مرافقتنا.‏ واستعدادا لهذه الرحلة،‏ نضع في سيارة ڤان صغيرة اقراص DVD تحتوي على مواد بلغة الاشارات ومشغِّلا لها.‏ كما نأخذ معنا تِرمسا كبيرا وشطائر من خبز الشَّيْلم والسجق المدخَّن،‏ اضافة الى الپيروشكي الطازجة —‏ فطائر لذيذة محشوة بالملفوف والبطاطا تشتهر بها روسيا.‏ وأخيرا،‏ نرشّ انفسنا وثيابنا وأحذيتنا بمبيد للقُراد،‏ اتقاءً لالتهاب الدماغ الذي تسببه هذه الحشرات في المنطقة.‏

تتعرج الطريق التي نسلكها عبر جبال تسحر العيون بمناظرها الاخاذة،‏ وتنعش الانفاس بهوائها العابق بشذا الياسمين واللَّيلك.‏ ومن المشاهد التي تسرنا مشهد قطيع من الايائل السيبيرية التي تأكل العشب بكل هدوء.‏ واللافت هو ان قرى الآلتائيين تتميز بطابع خاص.‏ فهي عبارة عن مجموعة من بيوت خشبية ذات سطوح معدنية بُنيت الى جانب الكثير منها مساكن الآيِل ‏—‏ منازل خشبية سداسية الشكل ومخروطية السطح يشبه بعضها خيام الهنود الحمر.‏ وعدد كبير من العائلات تمكث في الآيِل من شهر ايار (‏مايو)‏ حتى ايلول (‏سبتمبر)‏،‏ وتنتقل الى البيوت الخشبية خلال اشهر الخريف والشتاء.‏

لدى وصولنا الى القرية المنشودة،‏ يرحب بنا الشهود المحليون بحفاوة ويأخذوننا الى بيت زوجين آلتائيين اصمين.‏ فيفرحان برؤيتنا ويسألاننا من اين اتينا وبأي هدف.‏ وإذ نُخرج من حقيبتنا قرص DVD،‏ يصرّان على وضعه في جهاز الكمبيوتر الذي يصادف انهما يملكانه.‏ وفي الحال،‏ تتسمر عيونهما على الشاشة من شدة تأثرهما بما يريان،‏ ويتوقفان عن محادثتنا وكأننا لسنا بموجودين.‏ وبين الحين والآخر،‏ يقومان بتقليد الاشارات التي يشاهدانها ويومئان برأسهما تعبيرا عن التقدير.‏ غير اننا بعد جهد جهيد،‏ نتمكن من استرعاء انتباههما ونعود الى المشاهد الافتتاحية التي تعرض صورا جميلة عن الفردوس الارضي.‏ فنوضح لهما عند احد المشاهد ما سيفعله الله للبشر،‏ وأي اناس سيعيشون الى الابد في ظل هذا الفردوس.‏ يا للتشجيع الذي نستمده حين نلمس اهتمامها الكبير!‏ وفي ختام الزيارة،‏ يخبراننا عن زوجين اصمين آخرين يقطنان في قرية يستغرق الوصول اليها بضع ساعات.‏

وإذ ننطلق من جديد،‏ نعبر ممرا صخريا مهيبا شُقَّ في الجبال،‏ ونسلك طريقا كثير الانعطافات يؤدي بنا الى قرية اصغر.‏ وهناك،‏ نلقى عائلة كل افرادها صم،‏ الزوج والزوجة وابنهما الصغير ووالدة الزوجة.‏ وعندما ندخل مسكنهم من باب صغير نشتم رائحة طيبة تفوح من مخيض الحليب والخشب.‏ كما اننا نرى في اعلى السقف المخروطي فُتحة مستديرة ينفذ منها النور،‏ وفي احدى الزوايا موقدا من الطوب المبيَّض.‏ اما الجدران فهي مكسوة ببُسط حمراء زاهية.‏ ولا يمضي وقت طويل حتى تدعونا هذه الاسرة،‏ الفرحانة بزيارتنا المفاجِئة،‏ الى تناول طبق آلتائي مؤلف من كعك محلّى مقلي يُشرب الى جانبه الشاي بطاسات آسيوية الطراز.‏ وأثناء الزيارة،‏ نسألهم ما هو رأيهم في امكانية ان يصبح المرء صديقا لله.‏ وفيما هم يتأملون السؤال،‏ تخبرنا والدة الزوجة انها في صغرها توجهت ذات مرة الى مكان في الجبال،‏ آخذة معها طعاما للآلهة.‏ ثم تهز كتفيها وتقول مبتسمة:‏ «لا اعرف ما مغزى ذلك،‏ لكن هكذا جرت العادة».‏

وحين نريهم فيلما على قرص DVD يتناول هذا الموضوع،‏ تشرق وجوههم فرحا.‏ ولكن ما السبيل الى ملاحقة الاهتمام الشديد الذي يظهرونه؟‏!‏ رغم انه من السهل التواصل مع الصم بواسطة الرسائل النصية،‏ لا يوجد اي هوائي للهواتف الخلوية في هذه المنطقة.‏ لذلك نعدهم بالبقاء على اتصال معهم من خلال كتابة الرسائل.‏

تدنو الشمس الآن من المغيب،‏ فنودعهم وداعا حارا ونعود ادراجنا عبر الطريق الطويل وصولا الى ڠورنو–‏ألتايسك.‏ صحيح اننا متعبون،‏ لكننا في الوقت نفسه فرحون.‏ وبعد فترة،‏ نسأل الشهود المحليين عن هذه العائلة،‏ فنعلم ان الزوج يسافر كل اسبوعين الى بلدة اكبر،‏ حيث يدرس الكتاب المقدس ويحضر احد الاجتماعات بمساعدة اخت تتقن لغة الاشارات.‏ فنشعر بسعادة غامرة لأن جهودنا لم تذهب هباء.‏

ما اشبه البحث عن الصم المستقيمي القلوب بالبحث عن الكنوز الدفينة في الجبال!‏ فبعد ساعات من التنقيب الدؤوب،‏ ننسى التعب حين نعثر،‏ ربما صدفةً،‏ على جوهرة مفقودة.‏ وفي نظرنا،‏ ستظل جبال آلتاي ذهبية على الدوام،‏ مذكرةً ايانا بالاشخاص المخلصين الذين التقيناهم هناك.‏